الأمور التي يتحقق بها سبر أحاديث الرواة مع التطبيق
والسبر لا يتحقق للإنسان إلا بأمور:
أولاً: الإكثار من حفظ الأحاديث
وكلما أكثر زاد سبره؛ لأنه إذا أخذ من الأحاديث ازداد للسبر، وتكون لديه عينات كثيرة، فيأخذ ويحفظ من الأحاديث، ولهذا نقول: ينبغي للإنسان أن يكثر من حفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكلما كان من أهل الإكثار للسنة استطاع أن يكون من أهل الملكة بمعرفة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، وعليه أثناء حفظه أن يميز بين الصحيح والضعيف، وبين الموضوع وغيره، حتى لا تلتبس عليه الأشياء.
ثانياً: أن يكون عارفاً بالرواة
سابراً لأحوالهم، فيعرف أن هؤلاء الرواة مدنيون، وهؤلاء مكيون، وهؤلاء كوفيون، وهؤلاء شاميون، وهؤلاء بغداديون، وهؤلاء يمانيون، وهؤلاء مصريون، وهؤلاء خراسانيون، فيميز أولئك عن غيرهم.
ثالثاً: أن يكون عالماً بفقه الرواة
فالرواة متعددون، ولهم فقه ولهم مدارس
والرواة على نوعين: النوع الأول: رواة لهم رواية ولا دراية لهم، رواية ونقلة. النوع الثاني: رواية وأصحاب دراية وفقه. فلا بد أن نميز؛ لأنه ليس كل الرواة الذين نجدهم في الكتب الستة ومسند أحمد وغيرها، هؤلاء فقهاء، ومنهم حفاظ ومنهم نقلة، فلا بد أن يميز الإنسان هذا عن هذا؛ لأن الإنسان إذا وجد لديه إسناد فإنه لا ينظر إلى ثقة الراوي وعدالته فقط، بل ينظر إلى ما هو أبعد من ذلك، هل هو فقيه أو ليس بفقيه، وإذا كان فقيهاً ففي أي باب من أبواب الفقه، وإذا كان فقيهاً فهل هذا الفقه الذي عنده يوافق الحديث الذي رواه أو لا يوافق، وإذا وافقه وجاء عنه ما يؤيد ذلك، فإن هذا من قرائن التقوية، وإذا خالفه فإن هذا من قرائن الإعلال، وهذا أمر خارج عن تلك القواعد.
رابعاً: لا بد أن يكون عارفاً ببلدان الرواة
فإذا وجدت إسناداً كبيراً جداً لا بد أن يكون موجوداً في المدينة ومكة، فإن الوحي نزل في مكة والمدينة، فهل بالإمكان أن يأتيك حديث شامل من أوله إلى آخره في مسألة عظيمة جداً من مسائل أعمال اليوم والليلة؟ وهل يمكن أن ينفرد الشاميون أو العراقيون أو المصريون أو الخراسانيون بمسألة من مسائل الأذان عن النبي عليه الصلاة والسلام؟ أو مسألة من مسائل الصلاة؟ لا. فإن الوحي ما نزل عليهم.
خامساً: تعدد الحديث
فإذا تعدد الرواة نقلة له من بلد إلى بلد، فاجتمع خمسة رواة من خمسة بلدان في حديث واحد، ولا يوجد عند غيرهم، فإن هذا من أمارة الإعلال.
ولذلك حينما يقوم الكثير بالنظر في الرواة ينظر إليه إلى اسمه وإلى ثقته فقط، والأئمة يعرفون أن هذا ساكن في الكوفة، وشيخه في الأردن، وشيخ شيخه في مصر، وشيخ شيخه في اليمن، ثم رجع إلى خراسان ثم ذهب إلى المدينة، هذا يصح؟ قد تنظر إلى أنهم ثقات، لكن عند العلماء لا يصححونه؛ لأن هذا الحديث دخل البلدان ولم يتلقفه الأئمة، كما يتلقف الناس التجارة، إذا دخلت البلدان وخرج الناس إليها، وحينئذٍ تجدون شعبة و ابن مهدي و وكيع بن الجراح على أبواب البلدان ينتظرون الرواة نقلة الأخبار، وهذا الحديث دخل البلدان كلها، ثم لم يوجد إلا عند أولئك، ولهذا العلماء حينما يحدث راوٍ كوفي عن دمشقي عن مصري عن يماني عن خراساني، مباشرة ينتقلون معه حال ورود الإسناد، ثم يقولون: توقف، فلا حاجة لنا بهذا الحديث، لماذا؟ ما هي علته؟ لا يستطيع أن يحمل واحداً منهم، لكن هذا التركيب منكر، ولهذا يختصرون ذلك بقولهم: هذا حديث منكر.
وأنت حينما تنظر إلى القواعد تنظر إلى تراجمهم تقول: هؤلاء الرواة ثقات، ولهذا نقول: لا بد من معرفة الرواة، ومعرفة فقههم الذي يقودهم، فإذا كان الإنسان بصيراً بفقههم الذي يروونه كان من أهل السبر.
سادساً: أن يكون عالماً بأحاديث الباب المروية
كأن يكون الحديث مثلاً في أحكام الصلاة فيكون عارفاً بأحاديث الصلاة كلها، بحيث حديث يرويه كبار في باب من الأبواب، وهذه الرواية التي يرويها الكبار هي في مسألة من المسائل اليسيرة جداً في الفروع، ويرويها رجل ضعيف أو متوسط الرواية مثله يحسن، فالعلماء لا يقبلون مثل هذا، لماذا؟ لأن هذه الرواية رواية كبيرة ينبغي أن يحملها من هو أكبر منه.
ولهذا نقول: إن المعاني كالمباني لها حملة، وللحملة أبدان ينبغي أن يكونوا أصحاب قوة، فإذا كان هناك رجل ضعيف وهزيل جداً، وأتاك بحجر وزنه مائة كيلو جرام، وقال: أتيتك بهذا الحجر من عمان إلى أربد فماذا تقول له؟ تقول: هذا الكلام ليس بصحيح، فأنت لا تحمل هذا، وكذلك إذا جاءك بمسألة من مسائل الدين والأصول الكبيرة.
ولنضرب لذلك مثلاً براوٍ متوسط الرواية، وليس له إلا خمسة أحاديث أو ستة أحاديث، ثم جاء بمسألة كبيرة من مسائل الدين، فإننا نقول: هذه ليست لك، أنت ضعيف، نعم أنت صاحب ديانة، لكن الوهم دخلك في هذا الموضع، فأنت لا تحملها، لماذا؟ لأن المعاني والأحاديث لها حملة، كحال الحجارة الكبيرة لا بد أن تكون السلسلة في ذلك قوية، ولكن نقول: أنت لو أتيتنا بحجر يسير الحجم لقبلناه منك، وهذا يقابله عند الراوي لو أتانا مثلاً بفضل التسبيح، فضل التهليل، فضل الوضوء أو شيء من هذا، فإن هذه المسائل من فضائل الأعمال ونحن نقبلها منك، لكن أن تأتينا بمسألة من أعلام مسائل الدين فإننا لا نقبلها منك، ولهذا العلماء ينظرون إلى فقه الراوي والمروي في هذا الباب، وكذلك إلى أحاديث الباب.
أمثلة تطبيقية
وحتى نفهم ونتصور هذه المسألة فإننا نقول: إن الدين إحكام وغاية في الإحكام، http://imgcache.alukah.net/imgcache/2014/08/21.jpg الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ http://imgcache.alukah.net/imgcache/2014/08/22.jpg[هود:1]، أحكمه الله ثم فصله لرسول الله صلى الله عليه وسلم بياناً وتنزيلاً له عليه الصلاة والسلام.
ولهذا مثلاً ما جاء في حديث عبد الله بن عمر في الوضوء من ألبان الإبل، والحديث قد يحسنه البعض، لكن إذا كنت بصيراً بالفقه الوارد في هذا، والأحاديث الواردة في الباب فإنك ستقوم بإنكاره، مع أنك تجد من يحسنه، ولماذا أنت تقوم بإنكاره؟ هل الناس تأكل لحم الإبل أكثر أو تشرب اللبن أكثر؟ تشرب اللبن أكثر، خاصة في الزمن الأول.
وهنا نلاحظ أن اللحم الذي لا يطرأ على الإنسان إلا في الأسبوع أو في الشهر مرة جاءت الأحاديث فيه صحيحة، كحديث جابر و البراء وغيره، أما اللبن الذي تعم به البلوى فقد جاء في حديث دون ذلك في الصحة، وكان ينبغي أن يكون إسناد حديث اللبن أقوى من إسناد حديث اللحم، إذاً أنت أعللت حديثاً بحديث آخر منفك عنه ومنفصل، ولم يخطر في بالك ما لم تكن مستوعباً لأحاديث الباب، فهل هذا نظر صحيح أو ليس بصحيح؟ وهل تجده في قاعدة مدونة: إذا أتتك أحاديث اللبن فإنك لا تصححها حتى يأتيك أحاديث أقوى من أحاديث اللحم، هل يأتي هذا؟ لا يأتي، ومن أين يأتيك؟ يأتي من الملكة، والتي تكون لدى الإنسان كلما كان الإنسان ضابطاً وحافظاً للسنة والأحاديث التي في الباب، فيخطر لديه حديث في هذا الباب، ويقوم بتقويته أو تضعيفه، وربما يجتمع لديه شواهد كثيرة جداً.
كذلك هل الإنسان ينام أكثر أو يشرب حليب الإبل أكثر؟ يشرب الحليب أكثر، أي: في الصدر الأول كانوا يشربون الحليب أكثر؛ لأنه ينام مرة أو مرتين، ويشرب الحليب في الصباح وفي المساء، وليس لهم إلا هذا، لبن أو تمر، وإذا سافر كان على مثل هذا الحال، ولهذا تستطيع أن تعل حديث الوضوء من اللبن بنكارته؛ لأن أحاديث النوم جاءت أقوى منه.
وكذلك ما يتعلق بنواقض الوضوء واستحبابها مما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام جاءت بأقوى منه، وهذا أكثر مماسة للناس في هذا الأمر.
وكذلك ما يتعلق ببعض أدعية النبي عليه الصلاة والسلام أو غير ذلك التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثلاً قنوت الوتر في حديث الترمذي في قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( اللهم اهدنا فيمن هديت، وتولنا فيمن توليت )، إلى آخر الخبر، قال: (كان يقوله في وتره)، وبالنظر من جهة إمكانه نقول: لو كان هذا موجوداً لكان الأولى أن ينقل لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأدعية الكثير، لماذا؟ لأن الوتر يفعله الإنسان في كل يوم، والنبي صلى الله عليه وسلم عاش في ذلك زمناً طويلاً، فلماذا لم يعلمه إلا لسبطه الحسين بن علي ، ولهذا نقول: إن مثل هذا ينبغي أن يشتهر ويستفيض، وقد اشتهر واستفاض ما هو دونه عنه عليه الصلاة والسلام، وحفظت أدعيته في هذا الباب.
منقول
من شرحه على نخبة الفكر