ومما يؤكد ذلك أن الله قد جعل القاتل عمدًا أخًا للمقتول في قوله: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ، أي: أنه أخ له في الإسلام كما في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ، فدل ذلك على أنه لا يخرج من الإسلام بالقتل العمد، وأنه يستحق العذاب على هذه الكبيرة، ولكن لا يخلد في النار كخلود الكفار. --[فتاوى هيئة كبار العلماء]--- ويقول جل وعلا--تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ
لاحظ أن سياق الآيات يتحدث عن المواريث و التشريعات , والواضح أن الخطاب هنا للمسلمين
ثم يهدد العاصى منهم و من يتعدى حدود الله بالخلود فى النار---------- الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )----( بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) الآياتُ التي جاءَ فيها الوعيدُ بالخُلودِ في النَّـار لا يلزَمُ من قولِ أهلِ السُّـنَّـة بخِلافِ ظاهِرها الحُكمُ بنَسخِها من غير بُرهانٍ من الله ولكنَّـهم يجمعُون بينَها وبين ما ظاهرُهُ التَّعارضُ معها من آي القرآن وصحيح السُّنَّـة ويدرؤون الشكَّ والرَّيبَ عن النَّاظر فيها , فيقولون إن الوعيد بالخُلود محمولٌ على أمورٍ لا يثبُتُ (شرعاً) مانعٌ من حمله عليها , ومنها:
& - حملُ الوعيدِ بالخُلود على فاعل ذلك الفعلِ المُعاقَبِ عليه وهو مُستحلٌّ لهُ كالمُتعامِل بالربا بعد مجيئ موعظةِ الله لهُ والباقي على تعاملاتهِ مُستحلاً لها ورافضاً حُكم الله.
& - أنَّ الخُلودَ جزاءٌ على ذلك الذَّنبِ أصالةً , ولكنَّ الله تكرَّمَ على عِبادهِ فخفَّف عنهمُ الخُلودَ في النَّار أبداً بالتطهير المؤقَّتِ فيها , أو العفو والمغفرةِ , ولذا قالَ في القاتل (فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ) وكونُها جزاؤهُ لا يلزَمُ منهُ الخُلود, وهذا مما لا مجال فيه للاعتراضِ لأنَّ الله يمحو ما يَشاءُ من العُقوبة ويُثبِتُ ولا مُعقِّب لحُكمه.
* سُؤالُ الباحثِ عن الحقِّ الذي يقول فيه (هل يصح نسخ أمور مثل أمور الآخرة المتعلقة بالخلود فى الجنة و النار أو دخولهما ؟أم أنها أخبار عن واقع سيحدث و الأخبار لا تنسخ.؟) يُجابُ عنهُ بأمرين:
* أنَّ هذا البحثَ في مُرتكبِ الكبيرةَ لا يمُتُّ إلى النَّسخِ بصلةٍ , إذ ليسَ فيه تخصيصٌ للحكم ببعضِ الأزمانِ فيُصطلحُ عليه بالنَّسخِ , وإنَّما هو رفعٌ للحُكم عن بعضِ الأفراد بدليلٍ صحيحٍ صريحٍ وهذا تخصيصٌ , وبينهما فرقٌ بيِّـنٌ.
* أنَّ مسألة نسخِ الخَبرِ جُملةً مما اختلفَ فيه المُسلمونَ , ومن المتقرَّر فيها أنَّ الأخبَارَ عند بحثِ جوازِ نسخِها ليست بمنزلةٍ واحدةٍ , فما كانَ منها مُستحيلَ تغيُّر المضمونِ فممتنعٌ عقلاً وشرعاً نسخهُ مثل قيام النَّاس لربِّ العالمين يومَ الدِّين , ومثلَ اصطفاء الله آدمَ ونوحاً وآل إبراهيمَ وآل عِمرانَ , وما كان منها جائزَ تغيُّرِ المضمونِ فالمتعذِّرُ الحرامُ نسخُه منها هي الأخبارُ الماضيةُ لا المُستَقبَلةُ.
* والسؤال الثاني القائل (هل يوجد آيات صريحة محكمة من القرآن الكريم تدل على أن المسلم العاصى سيدخل حتماً الجنة كما ورد بالأحاديث ؟) يُجابُ عنهُ: بأنَّ مثل هذه الصيغة لا ينبغي أن يُجهد أحدٌ نفسَـه في الجواب عنها حتى يُنبِئَ السائلَ الكريمَ الباحثَ عن الحقِّ بأنَّ خللاً واضحاً أحاطَ بصيغة سؤالهِ , وأنَّ المُسلمَ لا يختَلفُ عندَه وجود الدَّليل على ما يبغي الهداية إليه من الأحكام والعقائد والأخبار في الكِتاب , أو في السنَّة , أو فيهما معاً , وسببُ ذلكَ هو إجماعُ برِّ الأمَّـةِ وفاجِرها على عصمة النبي مما يستحيلُ عليه معه الخطا أو السهو أو التبديلُ في تبليغ الأخبار والأحكام , فكانت سُنَّتُه والقرآن بمنزلة واحدةٍ من هذه الجهة , وإذا ثبتَ ذلكَ عقلاً , فقد ثبَت شرعاً أنَّ القرآنَ والسنَّة الصحيحةَ صِنوانِ لقوله (ألاَ إنِّـي أُوتِيتُ القُرآنَ ومثلَه مَعَه ) ولأنَّ الله تعالى قرنَ بينَ حكمهِ وحُكم نبيه وخبره وخبر نبيه فقال ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ) وقال سبحانه (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا) وقال سبحانه وهُو يُسمِّي سنة النبي بالحكمة في غير ما موضعٍ من القرآن (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) وقال سبحانه (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَة) وقال سبحانه (وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) وقال سبحانه (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَة).
وكَما أنَّ القرآن أجمَل كيفية الصلوات ومواقيتَها وأنصبة الزَّكاة ومناسكَ الحجِّ وبيَّنت السُّنَّـة كُلَّ ذلك , فما في القرآنِ من إجمالٍ أو إطلاقٍ لا يحلُّ الجُمودُ عليه وتركُ بيانه وقيدهِ إن صحَّت به السنةُ عن النبي , فإذا اتُّـفقَ على ذلكَ قيل:
إنَّ ما في القرآنِ من عُمومات الوعيد التي استدلَّ بها الباحثُ عن الحقِّ ينبَغي أن تُرجَّح عليها عُموماتُ الوعد , وذلك لأنَّ رحمةَ اللهِ سابقةٌ غضبَـهُ , وهو قائلٌ في مُحكَم كتابهِ (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) والباحثُ عن الحقِّ لم يجزِم بتفسير قوله (مَنْ يَشَاءُ) فقال إنَّهم قد يكونونَ التَّائبينَ , ولكن: هل كونُ هذا معنَاها دليلٌ على التخليد في النَّار أم غايةُ المُستفاد منهُ المؤاخَذةُ بالذَّنبِ والعُقوبةُ عليه..؟
فما دامت هذه الآيةُ التي تُمثِّلُ مُستَمسَكا متيناً لمن يقول بعدم تخليد الموحدِ في النَّار لا دلالةَ فيها على التخليدِ فهي بمفهومها دليلٌ على اختصاص الخلود بالمُشركين غير المغفور لهم , وتؤيدُ ذلكَ السُّـنَّة الصحيحةُ التي أثبتت امتناعَ خُلود الموحِّدِ في النَّار وإن اقترفَ الكبائر لما في الصحيح عن النبي أنَّ الله يقول في أهل النَّار (مَن كَانَ في قَلْبهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ من خَرْدَلٍ من إيمَانٍ فأخْرجُوهُ). [ملتقى اهل التفسير]--ويقول الشيخ بن باز
العصاة : كقاتل النفس بغير حق والزاني والعاق لوالديه وآكل الربا وشارب المسكر وأشباههم إذا ماتوا على هذه المعاصي وهم مسلمون ، هم تحت مشيئة الله كما قال سبحانه : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } فإن شاء جل وعلا عفا عنهم لأعمالهم الصالحة التي ماتوا عليها وهي توحيده وإخلاصهم لله وكونهم مسلمين أو بشفاعة الشفعاء فيهم مع توحيدهم وإخلاصهم .
وقد يعاقبهم سبحانه ولا يحصل لهم عفو فيعاقبون بإدخالهم النار وتعذيبهم فيها على قدر معاصيهم ثم يخرجون منها ، كما تواترت بذلك الأحاديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه يشفع للعصاة من أمته ، وأن الله يحد له حدا في ذلك عدة مرات ، يشفع ويخرج جماعة بإذن الله ثم يعود فيشفع ، ثم يعود فيشفع ، ثم يعود فيشفع عليه الصلاة والسلام ( أربع مرات ) ، وهكذا الملائكة وهكذا المؤمنون وهكذا الأفراط كلهم يشفعون ويخرج الله سبحانه من النار بشفاعتهم من شاء سبحانه وتعالى ويبقي في النار بقية من العصاة من أهل التوحيد والإسلام فيخرجهم الرب سبحانه بفضله ورحمته بدون شفاعة أحد ، ولا يبقى في النار إلا من حكم عليه القرآن بالخلود الأبدي وهم الكفار . |