الطريق إلى الترقي في تحصيل العلوم الشرعية/ سلطان العميري.
الطريق إلى الترقي في تحصيل العلوم الشرعية
(الجزء الأول )
الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين , وعلى آله وصحبه أجمعين ... أما بعد :
فإن العلوم الشرعية التي ينبغي على طالب العلم الشرعي تحصيلها وإدراكها واسعة الأرجاء , فسيحة الأركان , كثيرة في تفاصيلها , ومتداخلة في تفاريعها , ومتشعبة في مسائلها ومتراكمة في مكوناتها , ولا يمكن للقاصد إلى تحصيلها والخائض في طلبها أن يتحصل على أصولها ويتعمق في مضمونها إلا إذا كانت لديه منهجية محددة المعالم وواضحة الحدود والرسوم , فإن الشيء المعقد والمنظم لا يمكن التعامل معه بمهارة إلا بتنظيم يناسبه ومنهجية تطابقه .
وقد كتب عدد من الأشياخ وطلبة العلم برامج علمية تساعد على الترقي في طلب العلم , ورسموا منهجيات تعين على تبصر مسارات التقعيد والتأصيل في العلوم الشرعية , وكل برنامج من تلك البرامج له سمته التي يخص بها , وطبيعته التي تميزه عن غيره , وهي في العادة تأخذ سمت من رسمها وتتأثر بطبيعة تفكيره ومنهجية تعلميه .
فأردت أن أشارك في رسم خطة تساعد على الترقي في مصاعد العلوم الشرعية , وتعين على التعمق في أرجائها , ولا أدعي أن ما سأذكره أفضل ما قُدم ولا أكمل ما رسم , ولكنها محاولة قابلة للتعديل والتطور .
ومع ذلك فالبرنامج الذي سنقوم برسم معالمه الإجمالية يتميز بعدد من المميزات :
الميزة الأولى : الفصل الظاهر بين المسارات المختلفة في تحصيل العلوم الشرعية , فهو يفصل بين المادة المتعلقة بالدارسة والمذاكرة وبين المادة المتعلقة بالقراءة والتنقيب عن الفوائد وغيرها من المكونات كما سيأتي بيانه .
الميزة الثانية : المرونة والقابلية للتطوير والتكميل , فالبرنامج لم يحدد كل التفاصيل التي يتكون منها المنهاج العلمي , وإنما اقتصر على تحديد القالب العام فقط , وتَرَك تحديد التفاصيل إلى كل طالب علم وما يقدره ويعرفه من نفسه , فمن المعلوم أن الناس يختلفون كثيرا في طبيعة حياتهم وعلاقتهم , فمن المتعذر أن يُرسم برنامج واحد يكون مناسبا لجميع من يقصد إلى طلب العلم , فكان الواجب أن تحدد المعالم الإجمالية التي لا بد منها في المنهاج التعليمي , وترسم القوالب العامة فقط , ويترك قدر كبير من التفاصيل لكل طالب وما يناسبه
الميزة الثالثة : الاعتماد على الجهد الذاتي بشكل كبير جدا , فهذا البرنامج ينطلق من أن التحصيل العلمي الأكبر ينبغي أن يكون ناتجا من الجهد الذاتي الذي يبذله طالب العلم في القراءة والبحث والتنقيب والمذاكرة والمراجعة ونحو ذلك , فإن الإبداع في العلم والنبوغ فيه يعتمد بشكل كبير على الجهد الذي يبذله الطلاب المجتهدون في طلب العلم وتحصيله .
ولا يعني ذلك الدعوة إلى ترك الاشتغال بالدروس العلمية والاتصال بالشيوخ والمعلمين , فإن هذا الأمر من أوجب الأمور وألزمها في طلب العلم الشرعي , بل هو رافد من أهم الروافد المعينة على الاستمرار في البرنامج العلمي والاستفادة منه .
الميزة الرابعة : اختصار المراحل وطي الخطوات التي تطيل المسار العلمي مع قلة فائدتها , فهذا البرنامج لم يعتمد على المراحل التي تذكر عادة في المناهج التعليمية بحيث أن الطالب يمر في كل علم من العلوم الشرعية بعدد من المتون , ويتنقل في كل فن من الفنون بين عدد من المراحل , وإنما حدد نقطة واحدة جعلها المرتكز الأساسي للبناء العلمي , ثم رسم ما يمكن أن ينمي تلك الخطوة بتراكمات متواصلة تزيد من حجمها وعمقها , وتجمّل من شكلها , فبدل أن ينتقل الطالب من متن إلى متن آخر مختلف عنه في طبيعته وعدد كبير من مسائله , وترتيبه , فإن هذا البرنامج يعتمد على متن واحد في كل فن , ثم يزيد الطالب من تطوير علاقته بذلك المتن حتى يصل به إلى المرحلة المؤدية إلى النبوغ العلمي والاستحضار للمسائل والمعارف .
ولأجل هذا , فإن الانخراط في هذا البرنامج لا يصلح لمن هو مبتدئ جدا في طلب العلم الشرعي , وإنما يصلح لمن بلغ مرحلة لا بأس من تصور العلوم الشرعية وأحسن إدراك قدر لا بأس به من مسائلها الكلية الإجمالية .
ولا بد من التنبيه على أن هذه الورقة ليست في بيان آداب طالب العلم ولا في تحديد الأخلاق التي لا بد أن يلتزم بها , ولا في الترغيب في طلب العلم والدعوة إليه , وإنما هي في بيان المنهجية العملية التي ينبغي أن يسير عليها طالب العلم في تحصيل العلوم الشرعية فقط .
والمخاطب في هذه الورقة ليس الشخص المتردد في طلب العلم أو غير الراغب في الانخراط في طلبه , وليس الشخص الكسلان المتهاون في قصده ورغبته , وإنما هي مخاطبة لمن زعم بجد في طلب العلم , وقرر قرارا نهائيا حازما بالدخول في غمار بحاره والخوص في ساحاته .
تعريف البرنامج العلمي :
المراد بالبرنامج العلمي : الترتيب العَمَلي المنظم الذي يجب على طالب العلم الالتزام به في تعلم العلوم الشرعية والترقي في تحصيلها , بحيث يكون واجبا من الواجبات التي لا يمكن أن يفرط فيها بحال من الأحوال .
أهمية الالتزام بالبرنامج العلمي :
لا شك أن الالتزام بالبرنامج العلمي له أهمية بالغة , فهو ضرورة من ضرورات التحصيل , وواجب من واجبات التعلم في العلوم الشرعية , بل في كل العلوم الأخرى , ويمكن أن نبرز أهميته في الأمور التالية :
الأمر الأول : توفير الجهد والوقت , فإن كثيرا من طلبة العلم يبذل جهودا كثيرا في طلب العلم , ويمكث أزمانا مديدة في تتبعه والبحث عنه , وإذا قمنا بقياس النتيجة التي حصلها مع الجهد الذي بذله نجد النتيجة متدنية جدا , ومن أقوى أسباب هذا الإخفاق الذريع الذي يصاب به كثير من طلاب العلم عدم التزامهم بمنهجية واضحة في طلب العلم , فتجدهم يتخبطون ويتيهون في مجالات العلم المختلفة بغير بصيرة ولا وعي , ويعيشون حالة رهينة من الفوضى والتشتت .
كثير من طلبة العلم لا ينقصه الذكاء والفطنة ولا الحرص والاجتهاد , ومع ذلك لا نجده حصّل من العلوم ما نرجوه منه وما تنتظره أمته منه في مستقبلها , وحين نقوم بالبحث عن أسباب ذلك نجدها راجعة إلى عدم التزامه بمنهجية علمية صحيحة في التحصيل والبناء العلمي .
الأمر الثاني : تحقيق الرسوخ العلمي , فالأمة في حاجة شديدة إلى من يملك نظرا دقيقا متخصصا في كل مجال من المجالات التي تحتاجها الأمة في دينها , ومن أقوى السبل المؤدية إلى البلوغ إلى هذه المرحلة الالتزام الدقيق بالمنهجية العلمية الصارمة في تعلم العلوم الشرعية والترقي في معارجها .
الأمر الثالث : تحقيق التكامل العلمي , فالعلوم الشرعية مترابطة فيما بينها ومتداخلة في كثير من أصولها وفروعها , والنبوغ في العلم بها والعمق في إدراكها لا بد فيه من إدراك قدر كبير من المعارف المتوزعة على مجالات مختلفة , فلا بد في طالب العلم الشرعي أن يكون مستحضرا استحضارا جيدا لأصول المسائل التي تقوم عليها العلوم الشرعية , وضابطا ضبطا دقيقا للأسس التي تستند إليها المعارف الإسلامية , وعارفا بأصول المعارف التي تتشارك في تكوين العقلية المناسبة للتعامل مع القضايا التي تحتاجها الأمة .
الأمر الرابع : ضبط أصول العلم وتثبيت أركانه في نفس طالب العلم , فإن من المعلوم أن علو البنيان وتماسكه مرتبط بشكل أساسي بقوة الأسس التي يقوم عليها وثبوتها , فمتى ما كان الأساس وثيقا حمل البنيان واعتلى عليه , وإذا تهدم شيء من البينان سهل تداركه وإصلاحه , وإذا كان الأساس غير وثيق لم يرتفع البنيان ولم يثبت , وإذا تهدم شيء منه يصعب إصلاحه مع ضعف أساسه وأصله , ومن أقوى ما يوصل طالب العلم إلى قوة الأصل وثبوت الأساس التزامه بالبرنامج العلمي المنضبط في مراحله ومعالمه وخطواته .
الأمر الخامس : التغلب على العوائق وطبيعة الحياة المعقدة , فلا شك أن زماننا الذي نعيش فيه مزدحم ازدحاما كبيرا بالعوائق التي تقطع الطريق دون البلوغ إلى العمق في تحصيل العلوم الشرعية , ومليء بأمور كثيرة تعيق كثيرا من الجادين والأذكياء عن مواصلة السير في الترقي إلى معارج العلوم الشرعية , ومن أقوى السبل في التغلب على هذه العوائق أن يلتزم الطالب نفسه ببرنامج عملي صارم , ويصدق في الأخذ به والتقيد بقيوده .
مكونات البرنامج العلمي :
حين كانت العلوم التي ينبغي على طالب العلم إدراكها والعلم بها متنوعة في طبيعتها ومتنوعة فيما تحتاجه من الواجبات والأدوات ومتشعبة في مسائلها وأحكامها ومساراتها , كان لا بد من تنوع مكونات البرنامج التي العلمي الذي يجب عليه الالتزام به وهي ترجع في مجملها إلى ستة مكونات أساسية :
المكون الأول : برنامج الدرس والمذاكرة .
المكون الثاني : برنامج القراءة والتحصيل .
المكون الثالث : برنامج الحفظ .
المكون الرابع : برنامج جرد المطولات والجوامع العلمية
المكون الخامس : برنامج جرد كتب السنن والآثار .
المكون السادس : برنامج البحث العلمي .
فهذه المكونات الست تعد بمثابة الأركان الأساسية التي لا يقوم البناء العلمي المتماسك إلا عليها , وفقدان واحد منها سيؤدي حتما إلى إحداث الخلل في هيكل البناء العلمي .
وكل ركن من تلك الأركان له أصل وكمال , وتتعلق به تفاصيل وتفاريع متعددة , وسنقتصر في هذه الورقة على شرح المكون الأول والثاني , لأنهما المكونان اللذان يهمنا الابتداء فيهما في طرق الترقي في تحصيل العلوم الشرعية , وسنكمل الحديث عن المكونات الأخرى في الجزء الثاني من هذه الورقة .
يتبع،،