يتامى رائدون (1)
زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه
اليُتْم في كلام العرب: يعني الانفراد، وكلُّ شيء مفرد يعزّ نظيره فهو يَتيمٌ، يقال دُرَّةٌ يَتيمةٌ , أي لا أخت لها ولا نظير لها , واليُتْم فقدان الأب حتى سن البلوغ ، وقيل: أصل اليتم الغفلة، وبه سمّي اليتيم يتيما لأنّه يُتغافل عن برّه. لكن هناك من اليتامى من هيّأ الله لهم من قام بكفالتهم والعناية بهم حتى أضحوا كالدرّة اليتيمة التي يعزّ نظيرها , ومن هؤلاء الصحابي الجليل " زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه .
اسمه ونسبه ومولده
هو زيد بن ثابت بن الضحّاك الأنصاري الخزرجي , قُتل أبوه في معركة بُعَاث وهو ابن ست سنين , ومعركة بُعاث كانت موقعة عظيمة بين الأوس والخزرج، حيث قُتل فيها خلق كثير من أشرافهم وكبرائهم، ومنهم والد زيد " ثابت بن الضحاك الخزرجي " ومن ثم نشأ زيد بن ثابت يتيما .
وقد شاء الله سبحانه أن تكون هذه الموقعة العظيمة قبيل مقدم النبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة لتتهيّأ النفوس لقبول الإسلام والإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد جمعهم بعد الفرقة، وغرس في قلوبهم المحبة بعد العداوة ، روى البخاري في صحيحه برقم 3777 عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان يوم بُعاث يوما قدّمه الله لرسوله، فقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد افترق ملؤهم ، وقُتلت سَرَواتُهم, فقدّمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في دخولهم في الإسلام .
زيد بن ثابت وحياته المشرقة
لقد حظي هذا الطفل اليتيم " زيد بن ثابت " بمكانة مرموقة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لما يملكه من ذكاء ونبوغ وعبقرية وحفظ وعقل منذ نعومة أظفاره , ولقد أسلم وهو ابن إحدى عشرة سنة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ومقدمه إلى المدينة المنورة , وقد جاء به أقرباؤه إلى النبي صلى الله عليه وسلم, لما يعلمون عنه من ذكاء مفرط ، فقالوا : يا رسول الله ، هذا غلام من بني النجار ، وقد قرأ مما أنزل عليك سبع عشرة سورة . فقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعجبه ذلك ، وقال : يا زيد تعلَّم لي كتاب يهود ; فإني والله ما آمنهم على كتابي . قال : فتعلمته . فما مضى لي نصف شهر حتى حذقته ، وكنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كتب إليهم , ومن ثمّ يُعقّب الحافظ ابن كثير على حفظ زيد فيقول " وهذا ذكاء مفرط جدا " وقد جعله النبي صلى الله عليه وسلم كاتبا للوحي في جملة من أصحابه . وكان مميزا في علم الفرائض والمواريث حتى نال هذا التكريم من النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال فيه كما روى الترمذي برقم 3791 بإسناد صحيح من حديث أنس: أَفْرَضُهم زيد بن ثابت .
ومما يشار إليه أنه لم يشهد بدرا وقيل أحدا أيضا لصغر سنه , وأول المشاهد التي شهدها مع النبي صلى الله عليه وسلم معركة الخندق والمشاهد التي بعدها. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستخلفه إذا حجّ على المدينة . وهو الذي تولى قسمة الغنائم يوم اليرموك .
زيد بن ثابت ودرأ الخلاف
لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم برز نجم زيد بن ثابت كما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم , وكان له موقف عظيم في لزوم الجماعة ودرئ الفتنة والخلاف وذلك حين قام خطباء الأنصار ، فتكلموا ، وقالوا : رجل منا ، ورجـل منكم . فقام زيد بن ثابت ، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين ونحن أنصاره ; وإنما يكون الإمام من المهاجرين ونحن أنصاره . فقال أبو بكر : جزاكم الله خيرا يا معشر الأنصار ، وثبَّت قائلكم.
زيد بن ثابت وشرف اختياره لجمع القرآن الكريم
لقد اجتمع في زيد بن ثابت من المواهب ذات الأثر ما لم يجتمع في غيره من الرجال، إذ كان من حفّاظ القرآن، ومن كتّاب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد العرضة الأخيرة للقرآن في ختام حياته صلى الله عليه وسلم, قال أبو عبد الرحمن السلمي: قرأ زيد بن ثابت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام الذي توفاه الله فيه مرتين، وإنما سميت هذه القراءة قراءة زيد بن ثابت، لأنه كتبها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرأها عليه، وشهد العرضة الأخيرة، ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه، وولاه عثمان كَتْب المصاحف، رضي الله عنهم أجمعين"
وكان فوق ذلك معروفاً بخصوبة عقله، وشدة ورعه، وعظم أمانته، وكمال خلقه، واستقامة دينه. مما جعله مختارا من قبل خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه المهمة العظيمة ألا وهي جمع القرآن الكريم وهو الجمع الأول وقال له كما أخرج البخاري برقم 4986 : إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك ، قد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم , فتَتَبَّع القرآنَ فاجْمَعْهُ, قال زيد : فو الله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن, فقلت : كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال : هو والله خير . فلم يزل أبو بكر يراجعني ، حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر . فكنت أتَتَبَّعُ القُرآنَ أجْمَعُه من الرِّقاع والأكْتَاف والعُسب وصدور الرجال"
وهذا النص الذي أخرجه البخاري في صحيحه يشهد بتميز زيد في كثير من الجوانب من حيث إنه شاب يتوفر فيه النشاط والحماسة، وأنه عاقل فطن يحسن التصرف، وأنه غير متهم في دينه فلا يكون في عمله أدنى ريبة أو شك، وأنه أحد كتبة الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلديه التجربة العملية والخبرة الميدانية أمام من نزل عليه القرآن صلى الله عليه وسلم ويكفي بها مزية. ورغم ذلك فقد استشعر هو خطورة المهمة وضخامتها حيث قال: فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن . وما دار بينه وبين أبي بكر من نقاش يدل على قوة شخصيته ورجاحة عقله وقوة منطقه .
زيد بن ثابت ومكانته عند الصحابة
لقد تميز زيد بن ثابت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته وكان يجمع بين مهمات الأمور والاختصاصات حتى وصفه الإمام الذهبي بقوله: هو الإمام الكبير ، شيخ المقرئين ، والفَرَضِيِّين, مفتي المدينة . ومن ثم حظي بمكانة عالية لدى الصحابة رضي الله عنهم حيث اختير لجمع القرآن , وقد استعمله عمر على القضاء وفرض له رزقا , ويقول ابن عمر يوم موت زيد : يرحمه الله ، فقد كان عالم الناس في خلافة عمر وحبرها . فرّقهم عمر في البلدان ، ونهاهم أن يفتوا برأيهم ، وحبس زيد بن ثابت بالمدينة يفتي أهلها . وعن سليمان بن يسار ، قال : ما كان عمر وعثمان يقدمان على زيد أحدا في الفرائض والفتوى والقراءة والقضاء .
ويقول الزهري : لولا أن زيد بن ثابت كتب الفرائض ، لرأيت أنها ستذهب من الناس. وروى محمد بن عمرو الليثي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أن ابن عباس قام إلى زيد بن ثابت فأخذ له بركابه ، فقال : تنحّ يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال : إنا هكذا نفعل بعلمائنا وكبرائنا. ولما مات زيد بن ثابت ، قال أبو هريرة : مات حبر الأمة ! ولعل الله أن يجعل في ابن عباس منه خلفا . وقال ابن عباس : هكذا ذهاب العلماء ، دفن اليوم علم كثير. لقد كان زيد بن ثابت من الراسخين في العلم .
وفاته :
بعد حياة حافلة مشرقة توفي زيد بن ثابت الخزرجي الذي عاش يتيما لكن اليتم لم يقف حاجزا أمام ريادته , وذلك سنة (45) للهجرة عن (56( سنة .
ولقد رثاه سيد شعراء المؤمنين حسان بن ثابت بقوله :
فمن للقوافي بعد حسانَ وابنه ... ومن للمثاني بعد زيد بن ثابت .
بقلم " د. محمد نور العلي "
المراجع كثيرة : منها .
صحيح البخاري , سنن الترمذي , سير أعلام الذهبي . طبقات ابن سعد , البداية والنهاية لابن كثير . وسواها .