بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ.
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد:قال ابن القيم رحمه الله قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوه َا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24] .
فَكُلُّ مَنْ قَدَّمَ طَاعَةَ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَوْ قَوْلَ أَحَدٍ مِنْهُمْ عَلَى قَوْلِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَوْ مَرْضَاةَ أَحَدٍ مِنْهُمْ عَلَى مَرْضَاةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَوْ خَوْفَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَرَجَاءَهُ وَالْتَوَكُّلَ عَلَيْهِ عَلَى خَوْفِ اللَّهِ وَرَجَائِهِ وَالْتَوَكُّلِ عَلَيْهِ، أَوْ مُعَامَلَةَ أَحَدِهِمْ عَلَى مُعَامَلَةِ اللَّهِ فَهُوَ مِمَّنْ لَيْسَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَإِنْ قَالَهُ بِلِسَانِهِ فَهُوَ كَذِبٌ مِنْهُ، وَإِخْبَارٌ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ مَنَّ قَدَّمَ حُكْمَ أَحَدٍ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَذَلِكَ الْمُقَدَّمُ عِنْدَهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، لَكِنْ قَدْ يَشْتَبِهُ الْأَمْرُ عَلَى مَنْ يُقَدِّمُ قَوْلَ أَحَدٍ أَوْ حُكْمَهُ، أَوْ طَاعَتَهُ أَوْ مَرْضَاتَهُ، ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَأْمُرُ وَلَا يَحْكُمُ وَلَا يَقُولُ إِلَّا مَا قَالَهُ الرَّسُولُ، فَيُطِيعُهُ، وَيُحَاكِمُ إِلَيْهِ، وَيَتَلَقَّى أَقْوَالَهُ كَذَلِكَ، فَهَذَا مَعْذُورٌ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَأَمَّا إِذَا قَدَرَ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى الرَّسُولِ، وَعَرَفَ أَنَّ غَيْرَ مَنِ اتَّبَعَهُ هُوَ أَوْلَى بِهِ مُطْلَقًا، أَوْ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى الرَّسُولِ وَلَا إِلَى مَنْ هُوَ أَوْلَى بِهِ، فَهَذَا الَّذِي يُخَافُ عَلَيْهِ، وَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ الْوَعِيدِ، فَإِنِ اسْتَحَلَّ عُقُوبَةَ مَنْ خَالَفَهُ وَأَذَلَّهُ، وَلَمْ يُوَافِقْهُ عَلَى اتِّبَاعِ شَيْخِهِ، فَهُوَ مِنَ الظَّلَمَةِ الْمُعْتَدِينَ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا.
وقال رحمه الله وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُخَالِفَ لِلنَّصِّ - لِقَوْلِ مَتْبُوعِهِ وَشَيْخِهِ وَمُقَلِّدِهِ، أَوْ لِرَأْيِهِ وَمَعْقُولِهِ، وَذَوْقِهِ، وَسِيَاسَتِهِ. إِنْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ مَعْذُورًا، وَلَا وَاللَّهِ مَا هُوَ بِمَعْذُورٍ - فَالْمُخَالِفُ لِقَوْلِهِ، لِنُصُوصِ الْوَحْيِ أَوْلَى بِالْعُذْرِ عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَلَائِكَتِهِ . وَالْمُؤْمِنِين َ مِنْ عِبَادِهِ.
فَوَاعَجَبًا إِذَا اتَّسَعَ بُطْلَانُ الْمُخَالِفِينَ لِلنُّصُوصِ لِعُذْرِ مَنْ خَالَفَهَا تَقْلِيدًا، أَوْ تَأْوِيلًا، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ. فَكَيْفَ ضَاقَ عَنْ عُذْرِ مَنْ خَالَفَ أَقْوَالَهُمْ، وَأَقْوَالَ شُيُوخِهِمْ. لِأَجْلِ مُوَافَقَةِ النُّصُوصِ؟ وَكَيْفَ نَصَبُوا لَهُ الْحَبَائِلَ. وَبَغَوْهُ الْغَوَائِلَ. وَرَمَوْهُ بِالْعَظَائِمِ. وَجَعَلُوهُ أَسْوَأَ حَالًا مِنْ أَرْبَابِ الْجَرَائِمِ؟ فَرَمَوْهُ بِدَائِهِمْ وَانْسَلُّوا مِنْهُ لِوَاذًا. وَقَذَفُوهُ بِمُصَابِهِمْ. وَجَعَلُوا تَعْظِيمَ الْمَتْبُوعِينَ مَلَاذًا لَهُمْ وَمَعَاذًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وقال قَوْلُهُ الثَّانِي: أَنْ يُقِيمَ عَلَى عَبْدِهِ حُجَّةَ عَدْلِهِ، فَيُعَاقِبُهُ عَلَى ذَنْبِهِ بِحُجَّتِهِ.
اعْتِرَافُ الْعَبْدِ بِقِيَامِ حُجَّةِ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ، أَطَاعَ أَمْ عَصَى، فَإِنَّ حُجَّةَ اللَّهِ قَامَتْ عَلَى الْعَبْدِ بِإِرْسَالِ الرَّسُولِ، وَإِنْزَالِ الْكِتَابِ، وَبُلُوغِ ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَتَمَكُّنِهِ مِنَ الْعِلْمِ بِهِ، سَوَاءً عَلِمَ أَمْ جَهِلَ، فَكُلُّ مَنْ تَمَكَّنَ مِنْ مَعْرِفَةِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ، فَقَصَّرَ عَنْهُ وَلَمْ يَعْرِفْهُ، فَقَدْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، فَإِذَا عَاقَبَهُ عَلَى ذَنْبِهِ عَاقَبَهُ بِحُجَّتِهِ عَلَى ظُلْمِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] وَقَالَ {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ - قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ}
وقال المعلمي رحمه الله فإن قلت: فهل يتصور أن يُعْذَرَ الإنسان في الكفر كما قد يعذر في التكفير؟
قلت: أما من أقدم على الكفر مختارًا وهو يعلم أو يظن أنه كفر، أو كان عنده احتمال لكون ذلك كفرًا ولم يبحث ولم ينظر، أو بحث ونظر بغير تحقيق ولا إنصاف، بل كان غرضه من البحث نصرَ هواه والردَّ على مخالفيه، أو جاهلًا أنه كفر وهو مقصِّر بجهله = فإنه لا يُعْذَر.
وأما من أقدم مكرهًا وقلبه مطمئن بالإيمان، أو جاهلًا غير مقصِّر، كمن نشأ في رأس جبل = فمعذور.
وأما مَنْ أقدم عليه يعتقد أنه ليس بكفر، وقد نظر وبحث باذلًا أقصى جهده في ذلك حريصًا على إصابة [108] الحق مخلصًا في هذا القصد، فأدَّاه اجتهاده إلى أن ذلك الأمر ليس بكفر بل هو حق؛ فإن كان مسلمًا ملتزمًا بالأصول الإِسلامية العظمى، وإنما كان خلافه فيما دونها، فسيأتي الكلام عليه في الأعذار، إن شاء الله.
وإن كان خلافه في أصول الإِسلام العظمى فقد نُقِلَ عن رجل أو رجلين من المتقدمين أن هذا معذور، وجمهور العلماء على أنه غير معذور، وزاد بعضهم فكفَّر من يقول إنه معذور (1). وظهر لي أن مثل هذا الشخص لا يوجد؛ لأنه قد فُرِضَ مجاهدًا في سبيل الحق مخلصًا في جهاده، فيمتنع ألا يُهْدى؛ فإن الله تبارك وتعالى يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُ مْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]؛ فثبت من هذا أن من كان على كفر ويزعم أنه أداه إليه اجتهاده فلم يكن اجتهاده صادقًا خالصًا لوجه الحق، فثبت أنه ليس بمعذور اتفاقًا.