صرف الهمم إلى بيان أن بالحمد تشكر النعم .
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد أورد بعض الفضلاء مسألة لطيفة ، فقال : " قولنا : شكراً لا يحصل به الشكر، بخلاف قولنا: حمداً لك، فإنّه يحصل به الحمد " انتهى المقصود .
وساق بعض الأدلة ، وعارضه فضلاء آخرون . ولما رأيت أن المسألة مفيدة ونافعة ، وأنها تحتاج إلى تحرير وبيان أكثر مما أدلى به الاستاذ الفاضل في المسألة ظهر لي أن أشارك فيها بما فتح الله به. والله الموفق إلى ما يحبه ويرضاه .
فقلت :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على أفضاله ، والشكر له على نعمه ونواله ، وصلى الله وسلم على محمد وصحبه وآله .
أما بعد :
فمن دواعي مشاركتي في هذا المبحث اللطيف التفائل بفحواه لعل الله أن يسلكنا ضمن الذين أثنى عليهم في محكم كتابه فقال : { وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ }[سبأ : 13] .
واسأله سبحانه أن يبصرنا بأمر ديننا حتى نؤدي شكر نعمه التي لن نبلغ منتهاها ، بل الحال كما قال الشافعي – رحمه الله - : " الحمد لله الذي لا يؤدى شكر نعمة من نعمه إلا بنعمة منه توجب مؤدي ماض نعمه بأدائها نعمة حادثة يجب عليه شكره بها " (الرسالة ، ص/7 – 8 ) .
لا أدري من أين استهل خطابي لكن حسبي أن أذكر عبارتين تحتهما معان عزيزة وبهما يتحرر الجواب ويزول الاشكال .
العبارة الأولى ( حمد الشكر ) ، والعبارة الثانية : ( الشكر المقول ) .
كلتا العبارتين من سبك شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – وتحريره وتقريره لمعنى الشكر وبيان أنواعه .
فقد بين ما هو معروف فقال : " الْحَمْدُ يَتَضَمَّنُ: الْمَدْحَ، وَالثَّنَاءَ عَلَى الْمَحْمُودِ بِذِكْرِ مَحَاسِنِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْإِحْسَانُ إلَى الْحَامِدِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَالشُّكْرُ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى إحْسَانِ الْمَشْكُورِ إلَى الشَّاكِرِ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ: الْحَمْدُ أَعَمُّ مِنْ الشُّكْرِ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ عَلَى الْمَحَاسِنِ وَالْإِحْسَانِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحْمَدُ عَلَى مَالَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَالْمَثَلِ الْأَعْلَى، وَمَا خَلَقَهُ فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا}[الإسراء : 111].
وَقَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1].
وَقَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ} [سبأ:1].
وَقَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر:1].
وَأَمَّا الشُّكْرُ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى الْإِنْعَامِ، فَهُوَ أَخُصُّ مِنْ الْحَمْدِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، لَكِنَّهُ يَكُونُ بِالْقَلْبِ وَالْيَدِ وَاللِّسَانِ، كَمَا قِيلَ: أَفَادَتْكُمْ النَّعْمَاءُ مِنِّي ثَلَاثَةً يَدِي وَلِسَانِي وَالضَّمِيرَ الْمُحَجَّبَا وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ : 13].
وَالْحَمْدُ إنَّمَا يَكُونُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ الشُّكْرُ أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ أَنْوَاعِهِ، وَالْحَمْدُ أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ أَسْبَابِهِ" ( الفتاوى الكبرى : 2/378 – 379 )
فأنت تلحظ أن الحمد والشكر يشتركان في صورة ، وهي مقابلة النعمة بالقلب واللسان . فالاعتراف بالنعمة ونسبتها إليه ، والثناء على الله بها باللسان ، والتحدث بذلك هو حمد الشكر .
فهنا عندنا مطلبان :
المطلب الأول / إثبات هذا النوع المشترك والذي عبر عنه شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – ( بحمد الشكر ) ، و ( بالشكر المقول ) .
المطلب الثاني / في ثبوت هذا النوع المشترك نصل إلى النتيجة التي توصل إليها الاستاذ أبو المنذر وسام الجزائري – وفقه الله – من أن كلمة : ( اشكرك ) ونحوها ليست هي الشكر القولي ، وإنما هي اسم للشكر أو إخبار عنه . وأن حقيقة إنشاء الشكر - الشكر القولي - هو حمد الله .
وإليك تحرير القول في المطلبين :
قال شيخ الإسلام – رحمه الله - : " وَلَمَّا قَالَ سُبْحَانَهُ : { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ذَكَرَ التَّكْبِيرَ وَالشُّكْرَ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ } .
وَالشُّكْرُ يَكُونُ بِالْقَوْلِ وَهُوَ الْحَمْدُ وَيَكُونُ بِالْعَمَلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا } فَقَرَنَ بِتَكْبِيرِ الْأَعْيَادِ الْحَمْدَ . فَقِيلَ : اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ طُلِبَ فِيهِ التَّكْبِيرُ وَالشُّكْرُ . . . . لِيَجْمَعَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْحَمْدِ حَمْدَ الشُّكْرِ " (24/230 ) .
وقال – أيضاً - : " وَ " الْحَمْدُ نَوْعَانِ " : حَمْدٌ عَلَى إحْسَانِهِ إلَى عِبَادِهِ . وَهُوَ مِنْ الشُّكْرِ ؛ وَحَمْدٌ لِمَا يَسْتَحِقُّهُ هُوَ بِنَفْسِهِ مِنْ نُعُوتِ كَمَالِهِ " (مجموع الفتاوى : 6/84 ) .
وقال – أيضاً - : " ولهذا كان الرب محموداً حمداً مطلقاً على كل ما فعله ، وحمداً خاصاً على إحسانه إلى الحامد فهذا حمد الشكر والأول حمده على كل ما فعله " ( منهاج السنة النبوية : 5/280 ) .
ونكتة المسألة من حيث المعنى الشرعي واللغوي أن الشكر ثلاثة أنواع :
1) شكر القلب ، ويكون بِمَعْرِفَتِهَا لَهُ وَالِاعْتِرَافُ بِأَنَّهُ هُوَ مُسْدِيهَا وَالْمُنْعِمُ بِهَا .
2) شكر اللسان ، ويكون بِالْحَمْدِ لَهُ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِهَا .
3) شكر الجوارح ، ويكون بِالتَّصَرُّفِ بِهَا فِيمَا يُحِبُّهُ وَيُرْضِيهِ وَهُوَ مَا أَسْدَاهَا لِأَجْلِهِ مِنْ حِكْمَةٍ وَرَحْمَةٍ .
قال الراغب – رحمه الله - : " والشكر ثلاثة أضرب : شكر القلب ، وهو تصور النعمة . وشكر اللسان ، وهو الثناء على المنعم وشكر سائر الجوارح ، وهو مكافأة النعمة بقدر استحقاقه " (المفردات للراغب ، ص/265 ) .
وقال محمد رشيد رضا – رحمه الله - : " وَشُكْرُ النِّعْمَةِ لِلْمُنْعِمِ يَكُونُ أَوَّلًا بِمَعْرِفَتِهَا لَهُ وَالِاعْتِرَافُ بِأَنَّهُ هُوَ مُسْدِيهَا وَالْمُنْعِمُ بِهَا - وَثَانِيًا بِالْحَمْدِ لَهُ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِهَا - وَثَالِثًا بِالتَّصَرُّفِ بِهَا فِيمَا يُحِبُّهُ وَيُرْضِيهِ وَهُوَ مَا أَسْدَاهَا لِأَجْلِهِ مِنْ حِكْمَةٍ وَرَحْمَةٍ " (تفسير المنار : 8/290 ).
والذي يهمنا من معاني الشكر ما تعلق منه باللسان وأن حقيقته اللغوية هي الثناء : الذي هو تكرار أوصاف المنعم حمداً له على نعمه .
قال ابن فارس – رحمه الله - : " (شكر) الشين والكاف والراء أصولٌ أربعةٌ متباينةٌ بعيدة القياس. فالأول : الشُّكر : الثَّناء على الإنسان بمعروف يُولِيكَهُ ".(معجم مقاييس اللغة :3/161) .
وقال ابن منظور – رحمه الله - : " الشُّكْرُ عِرْفانُ الإِحسان ونَشْرُه " (لسان العرب : 4/424) .
نستفيد من هذا أن الشكر يكون بأمرين :
• التحدث بالنعمة ونشرها وعدم سترها وجحدها .
• الثناء على المنعم بها .
ولهذا قال الراغب – رحمه الله - : " شكر : الشكر تصور النعمة وإظهارها ، قيل وهو مقلوب عن الكشر أي الكشف ، ويضاده الكفر وهو نسيان النعمة وسترها ، ودابة شكور مظهرة بسمنها إسداء صاحبها إليها ، وقيل أصله من عين شكرى أي ممتلئة ، فالشكر على هذا هو الامتلاء من ذكر المنعم عليه " (المفردات للراغب ، ص/265 ) .
( يتبع )