الضبـط وشروطـه ، وبعـض المسائـل المتعلـقة بـه .
الحمد لله الذي أعلى كلمته ، وسخر رجالا حفظة لكتابه وسنة نبيه ، أقامهم تعالى حماة للدين، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، ولولاهم لطمست معالمه، وانتكست أعلامه، بتلبيس المضلّين، وتدليس الغاوين.
وبعد .
مما هو معلوم لدى الكافة أن أئمة المسلمين قد اشترطوا فيمن يحتج بروايته أن يكون : عدلا ضابطا لما يرويه .
وبهذا يصبح الرواي حجة يلزم العمل بروايته وحديثه ، ويطلق عليه لفظ : ( الثقة ) .
الضبط لغة :
لزوم الشيء ، وحبسه ، ضبط عليه وضبطه يضبطه ضبطا وضباطة .
وقالَ اللَّيْثُ : ضَبْطُ الشَّيْءِ : لُزُومُه لا يُفارِقُه ، يُقَالُ ذلِكَ في كلِّ شيءٍ . وضَبْطُ الشَّيْءِ : حِفْظُه بالحَزْم . وقالَ ابنُ دُرَيْدٍ : ضَبَطَ الرَّجُلُ الشَّيءَ يَضْبُطُه ضَبْطاً ، إِذا أَخَذَه أَخْذاً شَديداً ، ورَجُلٌ ضَابِطٌ وضَبَنْطَى (1).
والضبط عند أئمة الحديث ينقسم إلى نوعين : ضبط صدر ، وضبط كتاب .
أما ضبط الصدر : فهو أن يثبت الراوي في صدره ما سمعه ، بحيث يتمكن من استحضاره وقت ما شاء .
أما ضبط الكتاب : فهو صيانة الرواي كتابه منذ سمع فيه وصححه إلى أن يؤدي منه .(2)
والضابط من الرواة : هو الذي يقل خطؤه في الرواية ، وغير الضابط : هو الذي يكثر غلطه ووهمه فيها ، سواء كان ذلك لضعف استعداده أو لتقصيره في اجتهاده (3).
شروط الضبط :
1 ـ أن يكون الرواي متيقظا غير مغفل .
2 ـ أن يكون الراوي حافظا إن حدث من حفظه .
3 ـ أن يكون الرواي ضابطا إن حدث من كتابه .
4 ـ أن يكون الرواي عالما بما يحيل المعاني إن كان يحدث بالمعنى (4).
آثار اختلال الضبط :
قال أبو عمرو بن الصلاح (5) : لا تُقْبَلُ رِوَايَةُ مَنْ عُرِفَ بِالتَّسَاهُلِ فِي سَمَاعِ الْحَدِيثِ أَوْ إِسْمَاعِهِ ، كَمَنْ لَا يُبَالِي بِالنَّوْمِ فِي مَجْلِسِ السَّمَاعِ ، وَكَمَنْ يُحَدِّثُ لَا مِنْ أَصْلٍ مُقَابَلٍ صَحِيحٍ ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَنْ عُرِفَ بِقَبُولِ التَّلْقِينِ فِي الْحَدِيثِ .
وَلَا تُقْبَلُ رِوَايَةُ مَنْ كَثُرَتِ الشَّوَاذُّ وَالْمَنَاكِيرُ فِي حَدِيثِهِ . جَاءَ عَنْ شُعْبَةَ أَنَّهُ قَالَ : " لَا يَجِيئُكَ الْحَدِيثُ الشَّاذُّ إِلَّا مِنَ الرَّجُلِ الشَّاذِّ " .
وَلَا تُقْبَلُ رِوَايَةُ مَنْ عُرِفَ بِكَثْرَةِ السَّهْوِ فِي رِوَايَاتِهِ إِذَا لَمْ يُحَدِّثْ مِنْ أَصْلٍ صَحِيحٍ ، وكل هذا يخرم الثقة بالراوي وبضبطه .
وَوَرَدَ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، وَالْحُمَيْدِيّ ِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ مَنْ غَلِطَ فِي حَدِيثٍ وَبُيِّنَ لَهُ غَلَطُهُ ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَنْهُ وَأَصَرَّ عَلَى رِوَايَةِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ سَقَطَتْ رِوَايَتُهُ وَلَمْ يُكْتَبْ عَنْهُ . وَفِي هَذَا نَظَرٌ ، وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ إِذَا ظَهَرَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى جِهَةِ الْعِنَادِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ .أهـ
وتفصيل ذلك :
1 ـ لا يقبل حديث من عرف بالتساهل في سماع الحديث أو إسماعه ، كالمتحمل حال النوم الكثير الواقع منه أو من شيخه وعدم مبالاته ، فإن ذلك مما يخرم الضبط عند أهل الحديث ويرد روايته .
قال عثمان بن أبى شيبة : رأيت عبد الله بن وهب أنا وأبو بكر ـ يعني أخاه صاحب المصنف ـ وأظنه ذكر بن معين وابن المديني ، رأيناه عند ابن وهب ينام نوما حسنا وصاحبه يقرأ على بن عيينة وابن وهب نائم قال : فقلت لصاحبه : أنت تقرأ وصاحبك نائم ؟! قال : فضحك ابن عيينة قال : فتركنا ابن وهب الى يومنا هذا ، فقلت له : لذا السبب تركتموه ؟ قال : نعم ، وتريد أكثر من هذا ؟.(6)
ـ أما النعاس الخفيف فإنه لا يضر ، قال الحافظ ابن كثير(7) : وكان شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزّي - تغمده الله برحمته - يكتب في مجلس السماع وينعس في بعض الأحيان، ويرد على القارئ ردا جيدا بينا واضحا؛ بحيث يتعجب القارئ من نفسه! أإنه يغلط فيما في يده وهو مستيقظ، والشيخ ناعس وهو أنبه منه! ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.أهـ
وقال السبكي في طبقاته (8) : وبالجملة كان شيخنا المزي أعجوبة زمانه يقرأ عليه القارئ نهارا كاملا والطرق تضطرب والأسانيد تختلف وضبط الأسماء يشكل وهو لا يسهو ولا يغفل يبين وجه الاختلاف ويوضح ضبط المشكل ويعين المبهم يقظ لا يغفل عند الاحتياج إليه وقد شاهدته الطلبة ينعس فإذا أخطأ القارئ رد عليه كأن شخصا أيقظه وقال له : قال هذا القارئ كيت وكيت هل هو صحيح ، وهذا من عجائب الأمور ، وكان قد انتهت إليه رئاسة المحدثين في الدنيا . أهـ
وقال الحافظ السخاوي (9): ثم إنه لا يضر في كل من التحمل والأداء النعاس الخفيف الذي لا يختل معه فهم الكلام لا سيما من الفطن ، فقد كان الحافظ المزي ربما ينعس في حال إسماعه ويغلط القارىء أو يزل فيبادر للرد عليه ، وكذا شاهدت شيخنا ـ يعني ابن حجر ـ غير مرة ، بل بلغني عن بعض العلماء الراسخين في العربية إنه كان يقرىء شرح ألفية النحو لابن المصنف وهو ناعس .أهـ
2 ـ لا تقبل رواية من عرف بكثرة السهو في روايته إذا لم يحدث من أصل مكتوب صحيح مقابل على أصله أو أصل شيخه ،وإن كان هو أو القاريء أو بعض السامعين خير حافظ ، كما قاله السخاوي (10).
أما إذا حدث من أصل صحيح فالسماع صحيح وإن عرف بكثرة السهو ؛ لأن الاعتماد حينئذ على الأصل لا على حفظه (11).
قال الشافعي (12): ومن كثر غلطه من المحدثين ولم يكن له أصل كتاب صحيح لم يقبل حديثه كما يكون من أكثر الغلط في الشهادة لم نقبل شهادته .
ومن ذلك من يحدث بعد ذهاب أصوله واختلال حفظه كفعل ابن لهيعة فيما حكاه يحيى بن حسان فإنه قال كما روى الخطيب عنه في الكفاية (13) : يقول جاء قوم ومعهم جزء فقالوا سمعناه من بن لهيعة فنظرت فإذا ليس فيه حديث واحد من حديث بن لهيعة فجئت الى بن لهيعة فقلت هذا الذي حدثت به ليس فيه حديث من حديثك ولا سمعتها أنت قط فقال ما أصنع ، يجيئوني بكتاب ويقولون : هذا من حديثك فأحدثهم به ، قلت ( الخطيب ) : وكان عبد الله بن لهيعة سيء الحفظ واحترقت كتبه وكان يتساهل في الاخذ وأي كتاب جاؤوا به حدث منه فمن هناك كثرت المناكير في حديثه .أهـ
قال السخاوي (14) : وممن وصفه بالتساهل فيهما قرة بن عبد الرحمن، قال يحيي بن معين : إنه كان يتساهل في السماع وفي الحديث وليس بكذاب . والظاهر أن الرد بذلك ليس على إطلاقه وإلا فقد عرف جماعة من الأئمة المقبولين به فإما أن يكون لما انضم إليهم من الثقة وعدم المجيء بما ينكر وكلام أحمد الماضي قريبا يشهد له أو لكون التساهل يختلف فمنه ما يقدح ومنه لا يقدح .أهـ
3 ـ لا يقبل حديث من عرف بقبول التلقين في الحديث :
والتلقين : أن يعرض عليه الحديث الذي ليس من مروياته ، ويقال له : إنه من مروياته وحديثه ، فيقبله ، ولا يميزه ؛ وذلك لأنه مغفل فاقد لشرط التيقظ ، فلا يقبل حديثه .
قال الحميدي ـ كما في الكفاية ـ (15) : ومن قبل التلقين ترك حديثه الذي لقن فيه وأخذ عنه ما أتقن حفظه إذا علم ذلك التلقين حادثا في حفظه لا يعرف به قديما ، وأما من عرف به قديما في جميع حديثه فلا يقبل حديثه ولا يؤمن ان يكون ما حفظه مما لقن .
وممن عرف واشتهر به : موسى بن دينار ، فمما وقع لحفص بن غياث فإنه نهى هو ويحيى القطان وغيرهما موسى ابن دينار المكي ، فجعل حفص يصنع له الحديث فيقول : حدثتك عائشة بنت طلحة ، عن عائشة بكذا وكذا ؟ فيقول : حدثني عائشة ، ويقول له : وحدثك القاسم بن محمد عائشة بمثله ؟ فيقول : حدثتني القاسم بن محمد ، عن عائشة بمثله ، ويقول : حدثك سعيد بن جبير، عن عباس بمثله ؟ فيقول : حدثني سعيد بن جبير عن ابن عباس بمثله . فلما فرغ حفص مد يده لبعض من حضر ممن لم يعلم المقصد وليست له نباهة فأخذ اللوحة التي كتب فيها محاها وبين له كذب موسى (16).
وكل ذلك لدلالته على مجازفته وعدم تثبته . والله أعلم .
وروى أبو يعلى في مسنده (17) : حدثنا وهب بن بقية حدثنا حماد بن زيد قال : لقنت سلمة بن علقمة فحدثني به فرجع عنه ثم قال : إذا أردت أن يكذب صاحبك فلقنه .
4 ـ لا تقبل رواية من كثرت الشواذ والمناكير ، أي التفرد الذي لا يحتمل ، فإن ذلك مما يخرم الثقة بالرواي وضبطه .
قال عبد الرحمن بن مهدي (18): قيل لشعبة : متى يترك حديث الرجل ؟ قال : " إذا حدث عن المعروفين ما لا يعرفه المعروفون ، وإذا أكثر الغلط ، وإذا اتهم بالكذب ، وإذا روى حديثاً غلطاً مجتمعاً عليه فلم يتهم نفسه فيتركه لذلك طرح حديثه ، وما كان غير ذلك فارووا عنه ".
وقال القاضي أبو بكر الباقلاني ـ فيما حكاه الخطيب (19) عنه ـ : من عرف بكثرة الغفلة والسهو وقلة الضبط رد حديثه ، قال : وكذا يرد خبر من عرف بالتساهل في الحديث النبوي دون المتساهل في حديثه عن نفسه وأمثاله وما ليس بحكم في الدين ..أهـ
قال السخاوي (20) : وتبعه ـ أي الباقلاني ـ غيره من الأصوليين فيه .
وقال السخاوي أيضا : ويخالفه قول ابن النفيس من تشدد في الحديث وتساهل في غيره فالأصح أن روايته ترد قال : لأن الظاهر أنه إنما تشدد في الحديث لغرض وإلا للزم التشدد مطلقا وقد يتغير ذلك الغرض أو يحصل بدون تشدد فيكذب ، إلا أن يحمل على التساهل فيما هو حكم في الدين ولم ينفرد ابن النفيس بهذا بل سبقه إليه الإمام أحمد وغيره لأنه قد يجر إلى التساهل في الحديث ولينبغي أن يكون محل الخلاف في تساهل لا يفضي إلى الخروج عن العدالة ولو فيما يكون به خادما للمروءة فاعلمه
، أما من لم يكثر شذوذه ولا مناكيره أو كثر ذلك مع تمييزه له وبيانه أو حدث مع اتصافه بكثرة السهو من أصل صحيح بحيث زال المحذور في تحدث من حفظه فلا وكذا إذا حدث سيء الحفظ عن شيخ عرف فيه بخصوصه بالضبط والإتقان كإسماعيل بن عياش حيث قيل في الشاميين خاصة دون غيرهم ، على أن بعض المتأخرين توقف في رد من كثرت المناكير وشبهها في حديثه لكثرة وقوع ذلك في حديث كثير من الأئمة ولم ترو روايتهم ، ولكن الظاهر أن المراد من كثر ذلك في رواياته مع ظهور إلصاق ذلك به لجلالة باقي رجال السند .أهـ
5 ـ لا تقبل رواية من أصر على غلطه بعد البيان ولم يرجع ، وتسقط رواياته كلها ولم يكتب عنه(21) .
وإليه ذهب الأئمة : كشعبة بن الحجاج ، وعبد الله بن الزبير الحميدي ، وأحمد بن حنبل ، وعبد الله بن المبارك ، وغيرهم .
قال الخطيب البغدادي (22) : ( باب فيمن رجع عن حديث غلط فيه وكان الغالب على روايته الصحة ان ذلك لا يضره )
قد ذكرنا في الباب الذي قبل هذا عن عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وعبد الله بن الزبير الحميدي : الحكم في من غلط في رواية حديث وبين له غلطه فلم يرجع عنه وأقام على رواية ذلك الحديث أنه لا يكتب عنه وإن هو رجع قبل منه وجازت روايته وهذا القول مذهب شعبة بن الحجاج أيضا .أهـ
وقد روى في الكفاية أيضا عن الإمام الدارقطني قوله عندما سأله حمزة بن يوسف السهمي : عمن يكون كثير الخطأ ؟ قال : إن نبهوه عليه ورجع عنه فلا يسقط ، وان لم يرجع سقط .أهـ
وقال ابن حبان (23): : إنْ بُيِّنَ لَهُ خطؤهُ ، وعَلِمَ ، فلمْ يَرْجَعْ عَنْهُ ، وتمادَى في ذلكَ كانَ كَذَّاباً بعلمٍ صحيحٍ.
وقد تعقب ابن الصلاح هذا المذهب كما تقدم بقوله : وفي هذا نظر وهو غير مستنكر إذا ظهر أن ذلك منه على جهة العناد أو نحو ذلك .أهـ
قال الحافظ العراقي (24) : وقيد أيضا بعض المتأخرين ذلك بأن يكون الذى بين له غلطة عالما عند المبين له أما إذا كان ليس بهذا المثابة عنده فلا حرج إذن.أهـ
يتبع بإذن الله ..