-
السُّؤر
السُّؤر: بالهمز، هي ما يبقى في الإناء بعد الشرب، وجمعها آسار.
• اعلم أن المتبقي من الشرب لا يخلو أن يكون من آدمي أو من حيوان.
• أما سؤر الآدمي، فلا يخلو أن يكون مسلمًا أو غير مسلم، فالمسلم سؤره طاهر بل خلاف، والدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن المؤمنَ لا ينجُسُ) . جزء من حديث متفق عليه: البخاري 283، ومسلم 371، من حديث أبي هريرة قال: لقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا جُنُب، فأخذ بيدي فمشيت معه حتى قعَد، فانسللت فأتيت الرحل فاغتسلتُ ثم جئت وهو قاعد، فقال: (أين كنت يا أبا هر؟)، فقلت له، فقال: (سبحان الله يا أبا هر، إن المؤمن لا ينجس) .
• وكذا سؤر الحائض طاهر، فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: (كنتُ أشرب وأنا حائضٌ، ثم أناوله النبي - صلى الله عليه وسلم - فيضع فاه على موضع فيَّ، فيشربُ، وأتعرَّق العَرْق وأنا حائض، ثم أناوله النبي - صلى الله عليه وسلم - فيضع فاه على موضع فيَّ) . مسلم 300، أتعرَّق العَرْق: هو العظم الذي عليه بقية من لحم، هذا هو الأشهر في معناه، وقال أبو عبيد: هو القدر من اللحم، وقال الخليل: هو العظم بلا لحم، وجمعه عُراق بضم العين، ويقال: عرقت العظم وتعرَّقته واعترقته: إذا أخذتَ عنه اللحم بأسنانك.
وأما غير المسلم، ففيه خلاف، والراجح طهارة سؤره كذلك؛ لما ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضَّأ من مزادة مشركة . معنى حديث عند البخاري 344، ومسلم 682، من حديث عمران بن حصين، وليس لفظًا.
وربطه - صلى الله عليه وسلم - ثمامة بن أثال وهو مشرك في سارية المسجد . البخاري 469، ومسلم 1764، من حديث أبي هريرة يقول: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - خيلاً قِبَل نجدٍ، فجاءت برجلٍ من بني حنيفة يقال له: ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد.
وأما مَن قال بنجاسة سؤر الكافر، فتعلق بقوله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ﴾ [التوبة: 28]، فالمقصود بالنجاسة هنا النجاسة المعنوية، وهي نجاسة الاعتقاد.
أما الحيوان، فإما مأكول اللحم، وإما غير مأكول اللحم؛ فمأكول اللحم سؤره طاهر بلا خلاف، والدليل على ذلك الإجماع، قال ابن المنذر: (أجمع أهل العلم على أن سؤر ما أُكل لحمه طاهر، ويجوز شربه والوضوء به) . الإجماع 31، وكذا قال ابن القطان في مسألة 299، وكذلك في المغني 1/70، انظر: الإجماع لابن المنذر بتعليق شيخنا مصطفى بن سعد - حفظه الله.
وأما غير مأكول اللحم، فسؤرها طاهر عدا الكلب والخنزير على الراجح، وفي المسألة تفصيل على النحو التالي:
1- الهرة:قال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن بالكراهة، وقال أبو يوسف، والشافعي، ومالك، وأحمد، والثوري، والأوزاعي، وإسحاق، وأبو عبيدة - رحمهم الله - بعدم الكراهة، وهو الراجح؛ لما ثبت في الحديث عن كبشة بنت كعب بن مالك - وكانت تحت ابن أبي قتادة - أن أبا قتادة دخل فسكبتْ له وضوءًا، فجاءت هرَّة فشربت منه، فأصغى لها الإناء حتى شربت، قالت كبشة: فرآني أنظر إليه، فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟ فقلت: نعم، فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إنها ليست بنجس؛ إنها من الطوَّافين عليكم والطوافات) .أبو داود 75، والترمذي 92، وقال: حسن صحيح، والنسائي 68، وابن ماجه 367، وصححه الألباني.
قال الترمذي: (وهو قول أكثر العلماء من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعين ومَن بعدهم؛ مثل: الشافعي، وأحمد، وإسحاق: لم يَرَوا بسؤرِ الهرة بأسًا).
قال ابن قدامة: (السِّنَّوْر وما دونها في الخلقة - كالفأرة وابن عرس وغيرهما من حشرات الأرض - سؤرها طاهر، يجوز شربه والوضوء به ولا يُكره، وهذا قول أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين من أهل المدينة والشام وأهل الكوفة وأصحاب الرأي، إلا النعمان، فإنه كره الوضوء بسؤر الهرة، فإن فعل أجزأه) . المغني 1/70، والنعمان هو أبو حنيفة.
2- البغال والحمير:
قال مالك: لا بأس بسؤرهما، وعن يحيى بن سعيد وبُكير بن عبدالله بن الأشج أنهما كانا يقولان: لا بأس أن يتوضأ الرجل بفضل الحمير والبغال وغيرهما من الدواب، وقال ابن شهاب مثله في الحمار، وقال عطاء بن أبي رباح، وربيعة بن أبي عبدالرحمن، وأبو الزِّناد في الحمار والبغال مثله، وتلا عطاء قوله - تعالى -: ﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 8].
قال ابن قدامة:(والصحيح عندي طهارة البغل والحمار؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يركبها وتُركَب في زمنه وفي عصر الصحابة، فلو كان نجسًا لبيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك؛ لأنهما لا يمكن التحرُّز منهما لمقتنيهما، فأشبَهَا السِّنَّور) المغني 1/ 68.، وهو قول الشافعي، وكره أبو حنيفة والثوري الوضوء به.
3- الكلب:قد اختلف في سؤره اختلافًا كبيرًا، فجمهور العلماء على نجاسته، واستدلوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (طهورُ إناء أحدكم إذا ولَغ فيه الكلب أن يغسلَه سبع مرات، أُولاهن بالتراب) . مسلم 279، وأبو داود 71، والترمذي 91، من حديث أبي هريرة.
وقالوا: فالأمر بالغسل دليل على النجاسة، وقد ورد في بعض الروايات: (فليُرِقْه)، مسلم 279، من طريق الأعمش عن أبي رزين عن أبي صالح عن أبي هريرة به، واختلف على الأعمش؛ فروى الزيادة علي بن مسهر، ولم يذكرها إسماعيل بن زكريا، قال النسائي: لم يذكر ((فليُرِقْه)) غير علي بن مسهر، وقال ابن منده: تفرد بذكر الإراقة فيه علي بن مسهر، ولا يعرف عن النبي بوجه من الوجوه، وحسَّن الدارقطني الإراقة.
وهو الراجح.
وذهب مالك إلى القول بطهارة سؤره، معلِّلاً ذلك بأن الأمر بالغسل في الحديث للتعبد لا للتعليل، وهناك أقوال عند المالكية بنجاسته، وهو قول مالك في رواية ابن وهب، وبعض المالكية فرَّق بين الكلب المأذون في اتخاذِه وغير المأذون باتخاذه، وقالوا بأن العلة التي من أجلها أبيح سؤر الهرة هي عدم التحرُّز منها، وهي موجودة في الكلب المأذون باتخاذه، وفرَّق ابن الماجشون بين الكلب البدوي والحضري . المقدمات الممهدات 1/89 - 91.
وأجيب بأن الكلب معرَّف بالألف واللام يتناول جنس الكلاب، سواء كان كلب البدوي أو الحضري، أو كلب الصيد أو كلب الزرع أو غير ذلك . شرح أبي داود للعيني 1/213.
قال صاحب عون المعبود: (لكن القول المحقق نجاسة سؤر الكلب؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (طهورُ إناءِ أحدكم)، والطهارة تُستَعمل إما عن حدثٍ أو خبث، ولا حدث على الإناء، فتعيَّن الخبث، وقد ثبت عن ابن عباس التصريحُ بأن الغسل من ولوغ الكلب بأنه رجس؛ رواه محمد بن نصر المروزي بإسناد صحيح، ولم يصحَّ عن أحد من الصحابة خلافه، فلا يجوز التوضي به) . عون المعبود شرح سنن أبي داود 1/54.
4- الخنزير:لم يأتِ نص في نجاسة سؤر الخنزير ولا طهارته، ولكن هناك أدلة على نجاسة الخنزير نفسه؛ منها قوله - تعالى -: ﴿ أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ ﴾ [الأنعام: 145].وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديثٍ عن أبي ثعلبة الخشني، أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنا نُجاوِر أهل الكتاب وهم يطبُخون في قدورِهم الخنزير، ويشربون في آنيتِهم الخمر؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن وجدتم غيرَها، فكلوا فيها واشربوا، وإن لم تجدوا غيرها، فارحضوها بالماء وكلوا واشربوا) البخاري 5478 5488، ومسلم 1930، دون ذكر الخنزير والخمر، وأبو داود 3839، اللفظ له، والترمذي 1464، واسم أبي ثعلبة الخُشني: جُرْثُوم، ويقال: جُرْثُم بن ناشم، ويقال: ابن قيس.
، فالحديث فيه الأمر برحض القدور التي طُبخ فيها الخنزير بالماء، والرحض هو الغسل.
• فمَن قال بنجاسة سؤره بناه على نجاسته ونجاسة ما تولَّد فيه، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد، وهو الراجح، وذهب مالك والأوزاعي وداود إلى طهارة سؤره.
5- سؤر السباع:
قد اختُلِف في سؤره كثيرًا على النحو التالي:
القول الأول: ذهب أبو حنيفة والثوري وإسحاق بن راهويه والشعبي وابن سيرين إلى نجاسة سؤره، واستدلوا:
1- بحديث القُلَّتين ، وقالوا: لولا أن سؤر السباع والدواب نجسة، لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا القول.
2- قالوا: إن السباع حيوانات حرم أكلُها مثلها مثل الكلاب، وإن السباع والجوارح الغالب عليها أكل الميتة والنجاسات؛ فتُنجس أفواههم.
القول الثاني: ذهب مالك، والشافعي، وأحمد، والأوزاعي، وداود، والحسن البصري، وعطاء، وربيعة، ورُوِي عن عمر بن الخطاب، إلى طهارة سؤرها، واستدلوا بأحاديث، منها:
1- عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة تَرِدُها السباع والكلاب والحُمُر، وعن الطهارة منها، فقال: (لها ما حملت في بطونِها، ولنا ما غبر طهور) .ضعيف: ابن ماجه 519، والبيهقي في السنن 1220، فيه عبدالرحمن بن زيد بن أسلم، قال البيهقي: ضعيف لا يُحتَج بأمثاله، وروي موقوفًا عن أبي هريرة عند ابن أبي شيبة في مصنفه 1511، وكذا روي عن عمر بن الخطاب موقوفًا أيضًا عند البيهقي.
2- عن يحيى بن عبدالرحمن بن حاطب أن عمر بن الخطاب خرج في ركبٍ فيهم عمرو بن العاص، حتى وَرَدُوا حوضًا، فقال عمرو بن العاص لصاحب الحوض: يا صاحب الحوض، هل تَرِدُ حوضَك السباعُ؟ فقال عمر بن الخطاب: يا صاحب الحوض، لا تُخبِرْنا؛ فإنا نَرِدُ على السباع وتَرِدُ علينا . ضعيف: أخرجه مالك في الموطأ 14، وعبدالرزاق في المصنف 250، والدارقطني في السنن 62، والبيهقي في السنن الكبرى 1181، قال ابن عبدالهادي في تنقيح التحقيق 1/75: في إسناده انقطاع، قلت: فإن يحيى بن عبدالرحمن بن حاطب لم يُدرِك عمر.
3- عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سُئل: أنتوضَّأ بما أفضلتِ الحُمُر؟ قال: (نعم، وبما أفضلت السباع كلها) .
ضعيف: الشافعي في مسنده 1/8، البيهقي في السنن 180، والدارقطني في السنن 176، قال البيهقي: وإبراهيم بن أبي يحيى الأسلمي مختلف في ثقته، وضعفه أكثر أهل العلم بالحديث وطعنوا فيه، وكان الشافعي يبعده عن الكذب، وقال ابن الجوزي: قال ابن حبان: داود بن الحصين حدَّث عن الثقات بما لا يشبه حديث الأثبات؛ تجب مجانبة روايته، وقد روى هذا الحديث عنه رجلان:
إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، قال البخاري: عنده مناكير، وقال النسائي: ضعيف، وقال يحيى: ليس بشيء.والثاني: إبراهيم بن أبي يحيى، وقد كذبه مالك ويحيى بن معين، وقال الدارقطني: هو متروك؛ انظر: التحقيق في مسائل الخلاف 1/76، وتنقيح التحقيق لابن عبدالهادي 1/76 - 77.
4- عن ابن عمر قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره فسار ليلاً، فمرُّوا على رجلٍ جالس عند مُقْراةٍ له، فقال عمر: يا صاحب المقراة أَوَلَغتِ السباعُ الليلةَ في مُقراتِك، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يا صاحب المُقراةِ، لا تُخبِره، هذا متكلِّف، لها ما حملتْ في بطونها ولنا ما بقي شرابٌ وطهورٌ) . ضعيف: الدارقطني في السنن 34، فيه أيوب بن خالد، قال ابن عدي: أيُوب بن خالد حدَث عن الأَوْزَاعي بالمناكير الكامل 1/358، وقال الحاكم أبو أحمد: لا يتابع في أكثر حديثه، تهذيب الكمال 3/471، وفيه أيضًا: محمد بن عُلْوان: ضعيفٌ؛ انظر: تنقيح التحقيق لابن عبدالهادي 1/74 - 75.
• مناقشة ورد القول بنجاسة سؤر السباع:
دليلهم الأول وهو حديث القلتين نقول: إن الحديث له منطوق وله مفهوم، أما منطوقه، فهو: (إن الماء الذي يبلغ القلتين لا يتنجَّس بحلول النجاسة فيه)، وهذا المنطوق لا يُفيدهم في القول بنجاسة سؤر السباع والدواب.
أما مفهومه، فهو أن الماء الذي يقل عن القلتين يتنجَّس بحلول النجاسة فيه، وهذا المفهوم أيضًا لا يفيدهم في القول بالنجاسة، وما قالوه: إنه لولا أن سؤر السِّباع والدوابِّ نجسٌ، لَمَا قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا الحديث.
فنقول: إن هذا احتمال ليس عليه دليل صريح، والقاعدة الأصولية: (أن الاحتمال يُسقط الاستدلال)، إذًا هذا الحديث غاية ما هنالك أن فيه شبهة دليل فحسب.
أما قياسهم السباع على الكلاب وإعطاؤها حكمها، فنقول:
إن القياس في العبادات لا يجوز، إلا أن يكون هناك علة ظاهرة في النص، ولا علة ظاهرة هنا، وإن كان لا بد لهم من القياس، فإنه يتوجَّب أن يستوي في طرفيه التماثل، وإلا فلا قياس، فالكلاب نجاسة آسارها تجبُ إزالتها بغسل ما أصيب منها سبع مرَّات مع التراب، فهل يُفعل ذلك بآسار السباع والدواب؟!
أما قولهم: إنها تأكل النجاسات ولا مُطهر لها، فتكون نجسة:
فنرد عليهم بأن الضِّباع تأكل النجاسات؛ لأنها حيوانات مفترسة طعامُها الجيف النجسة، وهي لا مطهِّر لها، فلماذا أحلَّ الله لنا أكله؟فعن ابن أبي عمار قال: قلتُ لجابرٍ: الضَّبُع أصيدٌ هي؟ قال: نعم، قال: قلتُ: آكُلُها؟ قال: نعم، قال: قلتُ: أقاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم . صحيح: الترمذي 851، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه 3236، وصححه الألباني في الإرواء 1050.
وعليه؛ فالراجح القول بعدم نجاسة سؤر السباع والدواب؛ وذلك للبراءة الأصلية، وعدم وجود دليل قوي معتَبر ينهض للقول بالنجاسة، والله أعلم.
وقد ردَّ الخطابي الاستدلال بحديث القُلَّتين على نجاسة سؤر السباع والدواب؛ حيث قال: (وقد يحتمل أن يكون ذلك من أجل أن السباع إذا وردت المياه خاضتها وبالت فيها، وتلك عادتها وطباعها، وقلما تخلو أعضاؤها من لوث أبوالها ورجيعها، وقد ينتابها في جملة السباع الكلابُ، وآسارُها نجسةٌ ببيان السنة) . معالم السنن للخطابي 1/25.
-