حقوقٌ طواها النسيان
قال الله تعالى :
{واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا} سورة النساء 36 .
في هذه الآية الكريمة أمر الله بعبادته وحده ناهياً عن الإشراك به ، وهذا لأن عبادته وحده سبحانه لا يمكن أن تتحقق مع الإشراك به جل وعلا ، وهذا الأمر بالتوحيد في العبادة واقترانه بالنهي عن الشرك مذكورٌ في مواضع عديدة من القرآن والسنة ،كما نصت الآية على وجوب الإحسان إلى الوالدين، الذين هما الأصل لمن تفرع عنهما من ولدهما ، ويدخل في ذلك الأجداد .
والملاحظ في الآية ذكر الوالدين ثم الأقربين؛ مع أن الوالدين هما أقرب الأقربين, وهذا من باب الخاص قبل العام لمزيد الاهتمام به كما هو معروف في اللغة، ولا زال المسلمون خصوصاً و الناس عموماً يهتمون بوالديهم إلى حدٍ كبير والحمد لله على ذلك .
ولكن هناك حقوقاً طواها النسيان، النسيان الذي هو ضد التذكر، والنسيان الذي هو مع التذكر.
فمن الأول قوله سبحانه:
{فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً }الكهف61
ومن الثاني :
{الْمُنَافِقُون وَالْمُنَافِقَا تُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }التوبة 67 .
وإنني أعني بهذه الحقوق التي طواها النسيان تلك التي تلت في الآية المفتتح بها أعلاه، حقوق الأقربين والجيرة، حيث إن القرابة قد تصرم حبلها، وانقطع رحمها، والعداوات والشحناء قائمة على قدم وساق ،وأما الجيرة فحدث عن سوء الجوار ولا حرج، غدت العلاقات الاجتماعية بين الناس في هذه الأيام وكأنهم قد عادوا إلى الجاهلية الأولى، إلى أيام العرب السحيقة، وكأنهم يخوضون حرب داحس والغبراء ، أو حرب البسوس ، كما حصل بين عدة من القبائل والأحياء في مختلف المناطق ، ويذكي لهيبها المستعرَ التفرُّق الحزبيُّ البغيضُ المبتدَعُ من حولنا فيمد هذا الفريق وذاك الفريق بالسلاح، ليقتلََ أحدهم ابن عمه أو أخاه، أو جاره سواءً البعيد عنه أومن والاه، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
أقول ما أشد ارتباط الإحسان إلى القرابة والجيرة بالتوحيد , ولكن يحسن بنا أن نعرف ما الإحسان؟
ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك؛ إنما الإحسان أن تحسن إلى من يسيء إليك، ولهذا أهل التوحيد الموحدون الله تعالى لا يشركون به – جعلني الله وإياك منهم – يعاملون الخلقَ للخالق، ولا يعاملون الخالق للخلق، ومما يدل على هذا مارونياه بسندنا إلى الإمام مسلم في صحيحه قال:
( ..حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى قَالَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ الْعَلَاءَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ فَقَالَ:
" لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمْ الْمَلَّ وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنْ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ") اهـ .
وبسندنا الى الامام النووي رحمه الله تعالى في شرحه على مسلم قال :
" ..( الْمَلّ ) بِفَتْحِ الْمِيم: الرَّمَاد الْحَارّ، وَ ( تُسِفُّهُمْ ) بِضَمِّ التَّاء وَكَسْر السِّين وَتَشْدِيد الْفَاء، وَ ( الظَّهِير ) الْمُعِين، وَالدَّافِع لِأَذَاهُمْ ، وَقَوْله : ( أَحْلُم عَنْهُمْ ) بِضَمِّ اللَّام، ( وَيَجْهَلُونَ ) أَيْ يُسِيئُونَ ، وَالْجَهْل هُنَا الْقَبِيح مِنْ الْقَوْل، وَمَعْنَاهُ كَأَنَّمَا تُطْعِمهُمْ الرَّمَاد الْحَارّ، وَهُوَ تَشْبِيه لِمَا يَلْحَقهُمْ مِنْ الْأَلَم بِمَا يَلْحَق آكِل الرَّمَاد الْحَارّ مِنْ الْأَلَم، وَلَا شَيْء عَلَى هَذَا الْمُحْسِن، بَلْ يَنَالهُمْ الْإِثْم الْعَظِيم فِي قَطِيعَته، وَإِدْخَالهمْ الْأَذَى عَلَيْهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِنَّك بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ تُخْزِيهِمْ وَتُحَقِّرهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ لِكَثْرَةِ إِحْسَانك وَقَبِيح فِعْلهمْ مِنْ الْخِزْي وَالْحَقَارَة عِنْد أَنْفُسهمْ كَمَنْ يُسَفّ الْمَلّ. وَقِيلَ: ذَلِكَ الَّذِي يَأْكُلُونَهُ مِنْ إِحْسَانك كَالْمَلِّ يُحَرِّق أَحْشَاءَهُمْ، وَاَللَّه أَعْلَم "أهـ.
ارتباط الإحسان إلى القرابة والجيرة بالتوحيد:
يتجلى للمتبصر المتثبت الباحث عن الهداية الراضي من دنياه بالكفاية وجوه ٌ كريمة في ارتباط الإحسان الى الوالدين والأقربين ومن سواهم من جيرة وغيرها بالتوحيد ومنها :
* أن المحسن يرجو جزاءه من الله عز وجل لا من الناس الذين يحسن اليهم كما قال الله تعالى :
{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً }الإنسان9.
وهذا عين الإخلاص في القصد وهو نصف التوحيد؛ إذ التوحيد يقوم على الإخلاص في العمل والمتابعة لله عز وجل ولرسوله صلي الله عليه وسلم من جهة؛ والاخلاص في القربى والزلفى بالعمل الصالح الى الله وحده من جهة أخرى .
* إن المحسن يطيع الله فيمن أساء اليه فيقدم مرضاة ربه بالعفو عند المقدرة عمن ظلمه ، واعطاء من حرمه ، وصلة من قطعه ... الخ ، على مرضاة نفسه فلا ينتقم من المسيئ، ولا يقطع من قطع بل يصله ويبره ، ولا يحرم من حرمه بل يجزل له العطيه رغبة فيما عند رب البرية ، قال الله تعالي :
{الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }آل عمران134
* إن المحسن الى ذوي القرابة والجيران رغم اساءتهم أو تقصيرهم يجاهد نفسه في مرضاة ربه؛ والمجاهد لنفسه في مرضاة ربه منزلته عند الله عظيمة ، فانه يقدم مرضاة ربه على مرضاة نفسه، بل إنه قد ينكر حظ نفسه في مرضاة ربه عز وجل مرة بتقديم أمر ربه على هواه ، ومرة بإعطائه الخير لمن يُبْغِضُه و يأباه.
وقد روينا بإسنادنا إلى الامام البخاري رحمه الله في صحيحه قال :
" حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ الشَّاعِرَ وَكَانَ لَا يُتَّهَمُ فِي حَدِيثِهِ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ:
" أَحَيٌّ وَالِدَاكَ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ " .
وروينا بإسنادنا الى الامام البخاري رحمه الله في صحيحه أيضاً قال :
" حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ وَالْحَسَنِ بْنِ عَمْرٍو وَفِطْرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عَمْرٍو قَالَ سُفْيَانُ لَمْ يَرْفَعْهُ الْأَعْمَشُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَفَعَهُ حَسَنٌ وَفِطْرٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
" لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ وَلَكِنْ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا ".
فإن عرفت يا أخي الكريم فكن ، وإن لم تعرف فلتعرف!!
كتبه
أبو عبد الله / ياسين بن خالد الأسطل
فرغت منه في خان يونس
الأربعاء عند آذان العصر
21/ رجب / 1427 هـ
ثم نقلتها من موقعي http://www.sh-ya.net الليلة ليلة الأحد 8/ربيع الأول لعام 1429هـ إلى المجلس العلمي بالألوكة شرفها الله