وفي هذا الحديث
التذكر بسفر الدنيا الحِسِّي
لسفر الآخرة المعنوي؛
لقوله:
" وإنا إلى ربنا لمنقلبون "
فكما بدأ الخلق
فهو يعيدهم
ليجزي الذين أساءوا بما عملوا،
ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.
وفي هذا الحديث
التذكر بسفر الدنيا الحِسِّي
لسفر الآخرة المعنوي؛
لقوله:
" وإنا إلى ربنا لمنقلبون "
فكما بدأ الخلق
فهو يعيدهم
ليجزي الذين أساءوا بما عملوا،
ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.
وقوله:
"اللهم إنا نسألك
في سفرنا هذا البر والتقوى،
ومن العمل ما ترضى".
سأل الله أن يكون السفر
موصوفاً بهذا الوصف الجليل،
محتوياً على أعمال البِر كلها
المتعلقة بحق الله
والمتعلقة بحقوق الخلق،
وعلى التقوى التي هي اتقاء سخط الله،
بترك جميع ما يكرهه الله من الأعمال،
والأقوال، الظاهرة والباطنة،
كما سأله العمل
بما يرضاه الله.
وهذا يشمل جميع الطاعات والقربات.
ومتى كان السفر على هذا الوصف،
فهو السفر الرابح،
وهو السفر المبارك.
وقد كانت أسفاره
صلى الله عليه وسلم
كلها محتوية لهذه المعاني الجليلة.
ثم سأل الله الإعانة،
وتهوين مشاق السفر،
فقال:
"اللهم هوِّن علينا سفرنا هذا،
واطَوِ عَنَّا بُعْدَه"
لأن السفر قطعة من العذاب.
فسأل تهوينه، وطَيَّ بعيده.
وذلك بتخفيف الهموم والمشاق،
وبالبركة في السير،
حتى يقطع المسافات البعيدة،
وهو غير مكترث،
ويقيّض له من الأسباب المريحة
في السفر أموراً كثيرة،
مثل راحة القلب،
ومناسبة الرفقة،
وتيسير السير،
وأمن الطريق من المخاوف،
وغير ذلك من الأسباب.
فكم من سفر امتد أياماً كثيرة،
لكن الله هونه،
ويسره على أهله.
وكم من سفر قصير
صار أصعب من كل صعب.
فما ثَمَّ إلا تيسير الله
ولطفه ومعونته.
ولهذا قال في تحقيق تهوين السفر:
"اللهم إني أعوذ بك
من وعثاء السفر"
أي: مشقته وصعوبته
"وكآبة المنظر"
أي: الحزن الملازم والهم الدائم
"وسوء المُنقلب،
في المال والأهل الوالد"
أي: يا رب نسألك أن تحفظ علينا
كل ما خلّفناه وراءنا،
وفارقناه بسفرنا من أهل وولد ومال،
وأن ننقلب إليهم مسرورين بالسلامة،
والنِعم المتواترة علينا وعليهم؛
فبذلك تتم النعمة،
ويكمل السرور.
وكذلك يقول هذا في رجوعه،******************
وعَوده من سفره.
ويزيد:
" آيبون
تائبون
عابدون،
لربنا حامدون"
أي: نسألك اللهم أن تجعلنا في إيابنا ورجوعنا
ملازمين للتوبة لك،
وعبادتك وحمدك،
وأن تختم سفرنا بطاعتك،
كما ابتدأته بالتوفيق لها.
ولهذا قال تعالى :
{ وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ
وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ
وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ
سُلْطَانًا نَّصِيرًا} (1)
ومدخل الصدق ومخرجه،
أن تكون أسفار العبد ومداخله ومخارجه
كلها تحتوي على الصدق والحق،
والاشتغال بما يحبه الله،
مقرونة بالتوكل على الله،
ومصحوبة بمعونته.
(1) سورة الإسراء – آية 80 .
وفيه اعتراف بنعمته آخراً،
كما اعترف بها أولاً،
في قوله:
" لربنا حامدون ".
فكما أن على العبد أن يحمد الله
على التوفيق لفعل العبادة
والشروع في الحاجة
فعليه أن يحمد الله
على تكميلها وتمامها،
والفراغ منها؛
فإن الفضل فضله،
والخير خيره،
والأسباب أسبابه.
والله
ذو الفضل العظيم.
الحديث السادس والثمانون
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما:
أن النبي صلى الله عليه وسلم :
"خذوا عني مناسككم"
رواه أحمد
ومسلم والنسائي.
هذا كلام جامع.
استدل به أهل العلم على مشروعية
جميع ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم ،
وما قاله في حجه وجوباً في الواجبات،
ومستحباً في المستحبات،
وهو نظير قوله صلى الله عليه وسلم
في الصلاة:
"صلوا كما رأيتموني أُصلي"
فكما أن ذلك يشمل جزئيات الصلاة كلها.
فهذا يشمل جزئيات المناسك كلها.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية******************
كلام حسن جداً
في خلاصة حج النبي صلى الله عليه وسلم .
ذكره في القواعد النورانية.
فقال قدس الله روحه ورضي عنه:
وقد ثبت بالنقل المتواتر
عند الخاصة من علماء الحديث
من وجوه كثيرة في الصحيحين وغيرهما:
أنه صلى الله عليه وسلم لما حج حجة الوداع
أحرم هو والمسلمون من ذي الحليفة.
فقال:
"من شاء أن يُهل(1) بعمرة فليفعل.
ومن شاء أن يُهل بحجة فليفعل.
ومن شاء أن يُهل بعمرة وحجة فليفعل"
فلما قدموا وطافوا بالبيت
وبين الصفا والمروة
أمر جميع المسلمين الذين حجوا معه
أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة،
إلا من ساق الهدي،
فإنه لا يُحل حتى يَبْلغ الهديُ مَحِلَّه(2)،
فراجعه بعضهم في ذلك.
فغضب،
وقال: "انظروا ما أمرتكم به فافعلوه".
وكان هو صلى الله عليه وسلم قد ساق الهدي،
فلم يحل من إحرامه.
ولما رأى كراهة بعضهم للإحلال قال:
"لو استقبلت من أمري ما استدبرت
لما سقت الهدي.
ولجعلتها عمرة،
ولولا أن معي الهدي لأحللت".
وقال أيضاً:
"إني لَبِّدْتُ رأسي وقلدت هديي،
فلا أحل حتى أنحر".
فحلَّ المسلمون جميعهم
إلا النفر الذين ساقوا الهدي،
منهم:
رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
وعلي بن أبي طالب،
وطلحة بن عبيد الله.
(1) هو رفع الصوت بالتلبية، والمراد هنا مع النية .
(2) مكان ذبحه في الحرم .
فلما كان يوم التروية أحرم المحلون بالحج،
وهم ذاهبون إلى منى.
فبات بهم تلك الليلة بمنى.
وصلى بهم فيها الظهر والعصر
والمغرب والعشاء والفجر.
ثم سار بهم إلى نمرة،
على طريق ضَبٍّ،
ونمرة خارجة من عرفة،
من يمانيها وغربيها،
ليست من الحرم،
ولا من عرفة.
فنصبت له القبة بنمرة.
وهناك كان ينزل خلفاؤه الراشدون بعده،
وبها الأسواق،
وقضاء الحاجة،
والأكل، ونحو ذلك.
فلما زالت الشمس ركب هو
ومن ركب معه
وسار المسلمون إلى المصلى ببطن عُرنَةَ،
حيث قد بنى المسجد
وليس هو من الحرم،
ولا من عَرَفَة.
وإنما هو برزخ بين المشعرين:
الحلال والحرام هناك،
بينه وبين الموقف نحو ميل.
فخطب فيهم خطبة الحج على راحلته.
وكان يوم الجمعة،
ثم نزل فصلى بهم الظهر والعصر
مقصورتين مجموعتين.
ثم سار – والمسلمون معه –
إلى الموقف بعرفة عند الجبل
المعروف بجبل الرحمة.
واسمه "إلال" على وزن هلال.
وهو الذي تسميه العامة عرفة.
فلم يزل هو والمسلمون في الذكر والدعاء
إلى أن غربت الشمس.
فدفع بهم إلى مزدلفة،
فصلى المغرب والعشاء بعد مغيب الشفق
قبل حط الرحال،
حين نزلوا بمزدلفة،
وبات بها حتى طلع الفجر،
فصلى بالمسلمين الفجر في أول وقتها،
مغلساً بها زيادة على كل يوم،
ثم وقف عند قُزَح،
وهو جبل مزدلفة
الذي يسمى المشعر الحرام.
فلم يزل واقفاً بالمسلمين إلى أن أسفر جداً،
ثم دفع بهم حتى قدم منى،
فاستفتحها برمي جمرة العقبة،
ثم رجع إلى منزله بمنى،
ثم أتى المنحر
ونحر ثلاثاً وستين بَدَنة
من الهدي الذي ساقه.
وأمر عليَاً فنحر الباقي.
وكان مائة بدنة
ثم حلق رأسه.
ثم أفاض إلى مكة،
فطاف طواف الإفاضة.
وكان قد عَجَّل ضَعَفة أهله من مزدلفة
قبل طلوع الفجر،
فرموا الجمرة بليل.
ثم أقام بالمسلمين أيام منى الثلاث،
يصلي بهم الصلوات الخمس
مقصورة غير مجموعة،
يرمي كل يوم الجمرات الثلاث
بعد زوال الشمس
يستفتح بالجمرة الأولى
– وهي الصغرى،
وهي الدنيا إلى مني –
والقصوى من مكة.
ويختتم بجمرة العقبة،
ويقف بين الجمرتين:
الأولى والثانية،
وبين الثانية والثالثة
وقوفاً طويلاً بقدر سورة البقرة،
يذكر الله ويدعو ؛
فإن المواقف ثلاث:
عرفة ومزدلفة، ومنى.
ثم أفاض آخر أيام التشريق
بعد رمي الجمرات هو والمسلمون،
فنزل بالمحصَّب،
عند خيف بني كنانة،
فبات هو والمسلمون ليلة الأربعاء.
وبعث تلك الليلة عائشة مع أخيها عبد الرحمن؛
لتعتمر من التنعيم،
وهو أقرب أطراف الحرم إلى مكة،
من طريق أهل المدينة.
وقد بُني بعده هناك مسجد
سماه الناس مسجد عائشة؛
لأنه لم يعتمر بعد الحج
مع النبي صلى الله عليه وسلم
من أصحابه أحد قط
إلا عائشة؛
لأجل أنها كانت قد حاضت لما قدمت
وكانت معتمرة.
فلم تطف قبل الوقوف بالبيت،
ولا بين الصفا والمروة
وقال لها النبي صلى الله عليه وسلم :
"اقضي ما يقضي الحاج،
غير أن لا تطوفي بالبيت،
ولا بين الصفا والمروة"
ثم ودع البيت هو والمسلمون
ورجعوا إلى المدينة.
ولم يقم بعد أيام التشريق،
ولا اعتمر أحد قط على عهده
عمرة يخرج فيها من الحرم إلى الحل
إلا عائشة
– رضي الله عنها –
وحدها
فأخذ فقهاء الحديث
– كأحمد وغيره –
بسنته في ذلك كله،
إلى آخر ما قال
رحمه الله ورضي عنه.
والله أعلم.
الحديث السابع والثمانون
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }
تعدل ثلث القرآن"
رواه مسلم.
تكلم أهل العلم
على معنى هذه المعادلة وتوجيهها.
وأحسن ما قيل فيها:
أن معادلتها لثلث القرآن؛
لما تضمنته من المعاني العظيمة:
معاني التوحيد،
وأصول الإيمان.
فإن المواضيع الجليلة
التي اشتمل القرآن عليها:
1- إما أحكام شرعية:
ظاهرة أو باطنة، عبادات أو معاملات.
2- وإما قصص وأخبار عن المخلوقات السابقة واللاحقة،
وأحوال المكلفين في الجزاء على الأعمال.
3- وإما توحيد ومعارف،
تتعلق بأسماء الله وصفاته،
وتفرده بالوحدانية والكمال،
وتنزهه عن كل عيب،
ومماثلة أحد من المخلوقات.
فسُورة
{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }
مشتملة على هذا،
وشاملة لكل ما يجب اعتقاده من هذا الأصل،
الذي هو أصل الأصول كلها.
ولهذا أمرنا الله أن نقولها بألسنتنا،
ونعرفها بقلوبنا،
ونعترف بها وندين لله باعتقادها.
والتعبد لله بها،
فقال:
{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }.
فالله: هو المألوه المستحق لمعاني الألوهية كلها،
التي توجب أن يكون هو المعبود وحده،
المحمود وحده،
المشكور وحده،
المُعظَّم المقدَّس،
ذو الجلال والإكرام.
و" الأحد"
يعني:
الذي تفرد بكل كمال،
ومجد وجلال،
وجمال وحمد،
وحكمة ورحمة،
وغيرها من صفات الكمال.
فليس له فيها
مثيل
ولا نظير،
ولا مناسب
بوجه من الوجوه.
فهو الأحد في حياته وقيوميته،
وعلمه وقدرته،
وعظمته وجلاله،
وجماله وحمده،
وحكمته ورحمته،
وغيرها من صفاته،
موصوف بغاية الكمال ونهايته،
من كل صفة من هذه الصفات.
ومن تحقيق أحديته وتفرده بها
أنه "الصمد" أي:
الرب الكامل،
والسيد العظيم،
الذي لم يبق صفة كمال إلا اتصف بها.
ووصف بغايتها وكمالها،
بحيث لا تحيط الخلائق
ببعض تلك الصفات بقلوبهم،
ولا تعبر عنها ألسنتهم.
وهو المصمود إليه،
المقصود في جميع الحوائج والنوائب
{ يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } (1)
فهو الغني بذاته،
وجميع الكائنات فقيرة إليه بذاتهم،
في إيجادهم وإعدادهم وإمدادهم
بكل ما هم محتاجون إليه
من جميع الوجوه.
ليس لأحد منها غنى عنه
مثقال ذرة،
في كل حالة من أحوالها.
******************
(1) سورة الرحمن – آية 29 .
فالصمد: هو المصمود إليه،
المقصود في كل شيء؛
لكماله
وكرمه
وجوده
وإحسانه.
ولذلك
( لم يلد
ولم يولد)
فإن المخلوقات كلها متولد بعضها من بعض،
وبعضها والد بعض،
وبعضها مولود
وكل مخلوق فإنه مخلوق من مادة،
وأما الرب جل جلاله،
فإنه مُنزَّه عن مماثلتها
في هذا الوصف،
كما هو مُنزَّه عن مماثلتها
في كل صفة نقص.
ولهذا حقق ذلك التنزيه،
وتمم ذلك الكمال
بقوله:
{ وَلَمْ يَكُن لَّهُ
كُفُوًا أَحَدٌ }
أي: ليس له نظير
ولا مكافئ
ولا مثيل،
لا في أسمائه،
ولا في صفاته،
ولا في أفعاله،
ولا في جميع حقوقه
التي اختص بها.
فحقه الخاص أمران:
التفرد بالكمال
كله من جميع الوجوه،
والعبودية الخالصة
من جميع الخلق.
فحق لسورة
تتضمن هذه الجُمَل العظيمة:
أن تعادل ثلث القرآن.
فإن جميع ما في القرآن
من الأسماء الحسنى،
ومن الصفات العظيمة العُليا،
ومن أفعال الله وأحكام صفاته،
تفاصيل لهذه الأسماء
التي ذكرت في هذه السورة،
بل كل ما في القرآن
من العبوديات الظاهرة والباطنة،
وأصنافها وتفاصيلها،
تفصيل لمضمون هذه السورة.
والله أعلم.