هل يمكن أن يأتي نص بخلاف القياس؟!
هل يمكن أن يأتي نص بخلاف القياس ؟
عندما يقول أحد عما يثبته النص عنده : إنه يأخذ به مع كونه مخالفا للقياس ، تعظيما للنص ، قد يكون لقوله هذا معنى غير صحيح ، وقد يكون صحيحا .
- فيكون هذا الإطلاق غير صحيح : إذا قصد من قاله أن النص خالف القياس الصحيح ، فهذا يستحيل ؛ لأن القياس الصحيح دليل شرعي ، والأدلة الشرعية لا تتناقض ؛ ولأن صحة الاستدلال بالقياس مبنية أصلا على كون الأحكام الشرعية معللة ( بعلة التعبد في العبادات ، وعلة جلب المصالح ودرء المفاسد فيما سواها) ، فإن فرضنا وجود علة مصلحية لم يراعها الشارع فقد نسفنا أصل القياس ، بل نسفنا ما نمتدح به الشريعة من كونها صالحة ومصلحة لكل زمان ومكان ، ومن كونها جاءت لجلب المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد أو تقليلها ، بأن جعلناها بخلاف ذلك ، وذلك في بعض أحكامها التي جوّزنا فيها مخالفة قياس علة المصلحة ودرء المفسدة .
وكثيرا ما تتكرر هذه العبارة ( هذا الخبر بخلاف القياس) عند الفقهاء والأصوليين ، في سياق تقديم بعض الأخبار على القياس ، كما يقال . فيُظن من ذلك أن القياس قد يعارض النصوص الشرعية ، ولذلك أحببت التنبيه على خطأ هذا التصور .
- وتكون هذه العبارة صحيحة : إذا قُصد بها القياس غير الصحيح ، وهو يشمل صورتين :
الأولى : ما يظنه الناظر بادي الرأي قياسا صحيحا ، ولكن بعد التمعن يتبين له الفارق المانع من صحة القياس .
فيكون قول الفقيه : أخذنا بالخبر المخالف للقياس ، معناه : أخذنا بالخبر الذي ربما لولا وروده لأخطأنا القياس !
الثانية : إطلاق القياس وإرادة توهم القياس ، فيما لا يصح فيه القياس أصلا .
وهذا كقول الحنفية في نقض الوضوء من القهقة في الصلاة ، عندما قالوا : إنه خلاف القياس ، وأنهم إنما أخذوا به لأن الأثر عندهم مقدم على القياس .
فمرادهم توهم القياس ، لا القياس الحقيقي ؛ لأن نواقض الوضوء تعبدية ، لا علاقة لها بمعنى عقلي ولا مصلحي ، حتى يُقاس عليها . وبالاتفاق فإن التعبدات لا قياس علة فيها ، أي لا يصح فيها قياس التعليل أصلا ؛ لأن علتها هي الجهل بالعلة ( التعبد والخضوع لله تعالى ) .
فمراد الحنفية بمخالفة هذا الحكم للقياس : أن من توهم السبب علة ، فسيجد أن أسباب نقض الوضوء مخالفة كل المخالفة للقهقهة في الصلاة ، ولا تشابه بينها وبينها . فيظن أنها مخالفة للقياس ، وهي لا تخالف القياس ، ولكنها تخالف نمط أسباب نقض الوضوء الأخرى .
قد يقول قائل : لكن توافق الشريعة واتساقها يظهر حتى في الأسباب ، كما هو واقع في العلل ؟
فنقول : نعم ، لكن خلافها لا يُسمى قياس علة ، وخلافها بالنص لا يمكن الاعتراض عليه ؛ لأن النص هو الذي يبين الأسباب .
ملحوظة :
أقصد بالعلة : ما تظهر بالعقل مناسبة الحكم له . كالإسكار في تحريم الخمر .
وبالسبب : ما لا تظهر بالعقل مناسبته للحكم ، ولكن أقامه الشرع سببا للحكم . كزوال الشمس سببا لدخول وقت صلاة الظهر ، دون تعامدها في كبد السماء.
د/حاتم العوني.
رد: هل يمكن أن يأتي نص بخلاف القياس؟!
تكملة للخاطرة السابقة :
ومن وجدناه من الفقهاء يقول : إن نصا قد خالف القياس ، ووجدناه قصد أن النص أثبت ما يخالف القياس الصحيح = فيجب الاحتراس من فقه هذا الفقيه في هذا الجانب ، لأنه سيكون فيه ظاهرية وسطحية في فهم النصوص ، بقدر غموض علل الأحكام عنده ؛ لأنه أظهر لنا خطأ في التصور ينقص من قوته الفقهية في التعامل مع النص وفي استنباط هدايته ، من حيث إنه كان يتصور أن الأحكام غير التعبدية قد تأتي بما لا يحقق مصلحة ولا يدرأ مفسدة .
د/حاتم العوني.