عالم جليل، سارَ ذكره في آفاق العروبة والإسلام طوال القرن الماضي، وما يزال الناس يذكرونه بالخير، فقد كان علماً في رأسه نور، وفي قلبه نور، وفي لسانه نور، وفي قلمه نورٌ وشواظ من نار تحرق أعداء العروبة والإسلام في كل مكان، عرباً مستغربين، وغربيين مستشرقين.
هو محب الدين بن أبي الفتح بن عبد القادر بن صالح بن عبد الرحيم بن محمد الخطيب، أصل أسرته من بغداد من ذرية الشيخ عبد القادر الجيلاني. هاجرت أسرته إلى «حماة» في بلاد الشام، ونزح فرع منها إلى قرية «عذراء» وفريق إلى دمشق، وصارت من أكبر الأسر الدمشقية عدداً، ومن أجلّها علماً وفضلاً.
ولد العلامة محب الدين الخطيب في «حي القيمريّة» بدمشق في الشهر السابع من سنة (1303هـ = 1886م).
كان أبوه الشيخ أبو الفتح الخطيب من أفاضل رجالات دمشق، وكان أمين دار الكتب الظاهرية، وتولى التدريس والوعظ في الجامع الأموي، وكان زاهداً، متقشفاً، يكره معاشرة الحكام، وله «مختصر تاريخ ابن عساكر» في خمسة أجزاء، و«مختصر تيسير الطالب» و «شرح للعوامل».
وأمه السيدة آسية الجلاد بنت محمد الجلاد - المزارع الكبير - تقية صالحة مشهورة بالفضل وعمل الخير، ومن أسرة دمشقية كريمة عريقة، وقد توفيت بريح السموم بين مكة والمدينة، بعد أن أدّت فريضة الحج، ودُفنت هناك في الفلاة، وكان محب الدين طفلاً صغيراً، ماتت وهو في حجرها.
نشأته وطلبه للعلم:
نشأ محب الدين الخطيب في هذه الأسرة الكريمة ذات الدين، والخلق، والعلم، وكفله والده ليعوضه حنان الأم، وعند رجوعه إلى دمشق من رحلة الحج ألحقه والده وهو في السابعة بمدرسة «الترقي النموذجيّة»، وحصل منها على شهادة إتمام المرحلة الابتدائيّة بدرجة جيد جداً، ثمّ التحق بمدرسة «مكتب عنبر»، وبعد سنة توفي والده.
رأت أسرته بعد وفاه الوالد أن يترك المدرسة، فتركها ولازم العلماء، وكان في هذه الفترة الشيخ «طاهر الجزائري» -المشرف على المكتبات والمدارس في بلاد الشام- غائباً عن دمشق، فلمّا عاد -وكانت بينه وبين أبي الفتح الخطيب صلة ومودة وإخاء- وعلم بموت والد محب الدين احتواه، وعطف عليه، ووجهه نحو العلم لينهل منه، ويتضلّع من مشاربه، وغرس فيه:
• حب قراءة التراث العربي الإسلامي.
• حب الدعوة إلى الله.
• التحريض على إيقاظ العرب ليقووا على حمل رسالة الإسلام، فهم مادة الإسلام.
ولذلك كان يقول عنه العلامة محب الدين الخطيب: «من هذا الشيخ عرفت إسلامي وعروبتي».
وسعى شيخه الجزائري ليخلف «محب الدين» أباه في دار الكتب الظاهريّة على أن ينوب عنه من يقوم بها حتى يبلغ سن الرشد، وفي فترة الانتظار كان ينتقي لتلميذه «محب الدين الخطيب» مخطوطات من تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية وأضرابه فيكلّفه بنسخها. وانتفع «محب الدين» بهذا العمل من ناحيتين:
أ- توسعت ثقافته العلميّة، وترسخ في العلم وبخاصّة انتفاعه بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية ومدرسته السلفيّة، فاستفاد بذلك اطلاعاً على الإسلام المصفّى من البدع والخرافات والأوهام.
ب- أشغل وقته وانتفع بأجرة النسخ.
كما وجه الشيخ الجزائري تلميذه للالتحاق مرة ثانية بمكتب عنبر. وأوصاه بالتردد على العلماء: أحمد النويلاتي، وجمال الدين القاسمي، ومحمد علي مسلم، حيث كانت لهم غرف في مدرسة «عبد الله باشا العظم»...في هذه الفترة المبكرة تفتحت آفاق التفكير العلمي عند محب الدين الخطيب، وانتفع بما تلقاه في المدرسة من علوم كونيّة، وأضاف إليها مطالعاته المتواصلة في دار الكتب الظاهريّة، واطلاعه على المجلات الكبرى في عصره: المقتطف، الهلال، الضياء.
وفي هذه الفترة كان يبث أفكار شيخه الجزائري، ويكتب المقالات العلميّة والقطع الأدبيّة التي يعربها من التركيّة، ويرسل بها إلى صحيفة «ثمرات الزمان» في بيروت.
وكان «محب الدين» كثير القراءة في سائر علوم الشريعة، والعربية، والعصرية، وكان حّبه للعربية والعرب شديداً، وكان يرى أن الله تعالى اختص العرب بصفات ومزايا تجعلهم أصحاب رسالة، ومسؤولين عن القيام بأمر العقيدة الصحيحة السليمة.