حمل المطلق على المقيد في حكم إسبال الثوب؟. د/حاتم العوني.
علق غيرما واحد من الأحبة يسأل عن وجهة نظري في رفض التقرير الذي يمنع من حمل المطلق على المقيد في حكم إسبال الثوب ؟
والجواب :
هو أن أصحاب هذا الرأي المردود عليه لم يفهموا هذا التقرير ، فأساؤوا تطبيقه إساءة ظاهرة !
فقد زعموا أن الحديث المطلق : (( ما أسْفَلَ من الْكعْبَيْنِ من الْإزَارِ فَفي النّارِ )) لا يصح تقييده بالحديث المقيَّد ((من جرَّ ثوْبَهُ مخِيلَةً لم ينْظُرْ الله إليه يوم الْقِيامَةِ)) ، بحجة أن قاعدة حمل المطلق على المقيد من شرطها : اتفاق النصين في الحكم ، أما إذا اختلف الحكم ؛ فإنه لا يقيد أحدهما بالآخر .
وغفلوا عن أمرين :
الأول ( وهو الأهم ) : أن اختلاف الحكم ليس هو تعدّد العقوبة ، فالحكم هو الحكم التكليفي أو الوضعي ، وأما أنواع العقوبات المتوعّد بها فليست هي الحكم ، فالعقوبة (أصلا) تدل على حكم واحد هو الحرمة ، وكلا العقوبتين في الحديثين لا خلاف أنهما تدلان على حكم واحد هو الحرمة ، بل هما مشتركتان في الدلالة على مرتبة الإثم أيضًا : وهو كونه كبيرة ؛ لأن الكبيرة – على تعريفها المشهور – هو ما تُوعد عليه بنار أو عذاب أو لعنة أو حد .
وعلى هذا يكون الحكم في الحديثين واحد ، ألا وهو الحرمة . وأما كون عقوبة المسبل هي أن لا ينظر الله إليه أو كونه مستحقا لعقوبة النار = فهذا هو ذكر للعقوبة التي يستحقها بارتكابه لهذا الأمر المحرم ، وليس اختلافا في الحكم ، فالحكم المستفاد من الحديثين هو الحرمة .
ومثال ذلك ما ورد من تعدد العقوبات ووسائل الزجر من شرب الخمر :
- فمرة أنه لا يشربها في الآخرة : ((من شَربَ الْخمْرَ في الدُّنْيا ثمَّ لم يتُبْ منها حُرمَهَا في الآخرَةِ )) .
- ومرة أنه يُسقى من طينة الخبال (عصارة أهل النار) : ((كل مُسْكر حرام ، وإن على الله عهدا لمنْ يشربُ المُسْكرَ : أن يَسقيَه من طينَة الخبَال ، قالوا : يا رسول الله ، وما طِينةُ الخبال ؟ قال : عرقُ أهل النار أو عصارة أهل النار)) .
- ومرة لعنه : (( لعن الله الخمرَ ، وشاربها ، وساقيها ، وبائعها ، ومبْتَاعها ، وعاصرَها ، ومعتَصِرهَا ، وحاملَها ، والمحْمولَةَ له )) .
- ومرة نفي الإيمان عنه : ((ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن )) .
فاختلاف العقوبة بين : حرمان شاربها من شربها في الآخرة ، وسقيه من طينة الخبال = ليس اختلافا في الحكم ، فالحكم المستنبط من العقوبتين واحد : ألا وهو بيان حرمة شرب الخمر . وهكذا الأمر في توعد المسبل بالنار وبأن الله تعالى لا ينظر إليه : فكلاهما عقوبتان تدلان على حكم واحد ، كما سبق . فليس هناك اختلاف في الحكم ، ولا في السبب (وهو الإسبال) . ولذلك يصح حمل المطلق على المقيد ، حتى مع الأخذ بالتقرير نفسه الذي ذكروه : وهو عدم حمل المطلق على المقيد مع اختلاف الحكم .
الأمر الثاني (وهو مفترض فيما لو كان استعمالهم لهذا التقرير صحيحا) : فنقول لهم : إن كنتم قد استنبطتم هذا التقرير (عدم حمل المطلق على المقيد إلا مع اتفاق الحكم والسبب ) من إجماع تصرفات المجتهدين ، فتصرفات المجتهدين في هذا الحديث (على وجه الخصوص) تدل على عدم وقوع الإجماع على هذا التقرير (في أقل تقدير) :
- فقد نص الإمام الشافعي على حمل المطلق على المقيد في هذا الحديث في رواية البويطي عنه .
- ونص الإمام أحمد على أن إسبال الإزار لغير مخيلة : (( ليس به بأس)) ، ووافقه على ذلك إسحاق بن راهوية ، كما في مسائل الكوسج .
وإن كان هذا التقرير خلافيا أصلا ، ولا يوافقكم عليه بعض أئمة الاجتهاد ، فكيف تحتجون عليهم بموطن النزاع بينكم ؟!!
فكيف إذا علمت أنه قد حُكي في هذا التقرير اختلاف ، حتى حُكيت عن الإمام أحمد فيه روايتان : مرة حمل المطلق على المقيد مع اختلاف الحكم ، ومرة لم يحمله عليه . وهو اختلاف شهير : فانظر مثلا : التمهيد لأبي الخطاب الكلوذاني الحنبلي 2/ 178-180 , والبحر المحيط للزركشي 3/ 419-420 .
ولا يهمني أن يكون الاختلاف محررا أو ليس محررا , ولكن يهمني هو بيان طريقة القفز على الحقائق دون فهم ولا تحرير .
فإن قيل : إن حكاية الاختلاف في هذا التقرير غير محررة ، والحق أن هناك إجماعا عليها ، أو قام الدليل القاطع على صحتها ؟
فأقول (تنزلا) : أفلا كان يستوقفكم إذن أن من أئمة الاجتهاد من لم يطبقها في هذا الحديث خاصة ، مما يبين لكم عدم صلاحية تطبيقها في هذا الموطن خاصة في نظر الشافعي وأحمد والحنفية ، كما بينته في الأمر الأول .
ومما يؤكد صحة حمل المطلق على المقيد في هذا الحديث : أنه جاء في حديث أبي ذر (رضي الله عنه) – كما في صحيح مسلم - : (( ثلَاثَةٌ لا يُكلِّمُهُمْ الله يوم القِيَامَةِ ، ولا يَنظُرُ إِلَيهِمْ ، ولا يُزكِّيهِمْ ، ولَهُمْ عذَابٌ ألِيمٌ . قال : فقَرَأَهَا رسول اللّهِ صلى الله عليه وسلم ثلَاثَ مرار ، قال أبو ذرٍّ : خابُوا وخَسِرُوا ، من همْ يا رسُولَ الله ؟ قال المُسْبِلُ ، وَالمَنَّانُ ، وَالمُنَفِّقُ سِلعَتَهُ بِالحَلِفِ الكَاذِبِ )) .
فهنا أطلق الإسبال دون شرط المخيلة , في حين قيدها في حديث ابن عمر (رضي الله عنهما) : ((من جرَّ ثوْبَهُ مخِيلَةً لم ينْظُرْ الله إليه يوم الْقِيامَةِ)) .
ووجه الدلالة : أن النص قد يطلق الوعيد على الإسبال ، وهو يريد إسبالا مع المخيلة ، لا مطلق الإسبال .
ملحوظة : من أخطاء المردود عليهم أنهم نصوا على صحة حمل المطلق على المقيد بين هذين الحديثين (حديثي أبي ذر وابن عمر) , بحجة اتحاد الحكم والسبب ، ويقصدون بالحكم : العقوبة , وهي عدم نظر الله إليه .
وقد بينت سابقا وجه خطأ ذلك , وبينت آنفا أيضا أن هذا الحديث قد دل على أن النص قد أطلق حكما واحدا (على الصحيح) وعقوبة واحدة ( هي غير الحكم عند المخالفين ) , ومع ذلك لم يرد الإطلاق ، فهو قد يقول : (( المسبل)) , وهو يريد المسبل للخيلاء .
ولكني أضيف أمرا ثالثا : وهو أن حديث أبي ذر قد ذكر عقوبة النص المطلق أيضًا : فـ((في النار)) الواردة في النص المطلق هي : ((ولَهُمْ عذَابٌ ألِيمٌ)) الواردة في النص الذي قبلوا هم أنفسهم تقييده .
فإن استمروا في المغالطة والمكابرة : بأن قالوا : لكن حديث أبي ذر (رضي الله عنه) أضاف عقوبات أخرى ؟ قلنا لهم : استحوا من هذا الكلام !! فقد بينا لكم أن العقوبات وتعددها لا علاقة لها باختلاف الحكم ! فانتهوا خيرا لكم !!
أخيرا : لست أنكر على من رجح تحريم إسبال الإزار مطلقا ، فأراه اجتهادًا سائغا . لكني أنكر على من أنكر على من خالفه ، وقيد التحريم بما كان عن كبر وخيلاء . فأنكر على من أنكر أحد الاجتهادين ، وألزم المسلمين باجتهاده الظني ، زعما منه أنه قطعي (جهلا منه بمراتب العلوم) أو جهلا لما أجمعوا عليه ، وهو : أنه لا إنكار في مسائل الاختلاف المعتبر .
كما أن المقصود من هذا التعليق : هو بيان خطأ فهمهم للتقرير الأصولي الذي ذكروه ، والتنبيه على سوء استعمالهم له .
رد: حمل المطلق على المقيد في حكم إسبال الثوب؟. د/حاتم العوني.
بارك الله فيك واحسن الله لك
لكن جمهور العلماء والفقهاء علي حرمة الاسبال سواء كان بمخيلة او لا