قلت: كيف قلتَ؟
قال: قلتُ: لقد تفكرت فلم أجد إلا أن الكافر ليس أهلا للعبادة؛ لأنه لا يثاب، فلمَّا لم يكن من أهل الثواب لم يكن من أهل الخطاب.
قلت:فهذا استعمال للعقل مع ورود النص، ورَدٌّ للنص بالعقل.
قال: فأين النص على هذه المسألة؟
قلت: ما ذكره المصنف الإمام وهو قوله تعالى: {إِلَّا أَصْحَابَ اليَميِنِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَآئِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا اليَقِينُ} [المدثر: 39 – 47]
فسكتَ، ثم قال: آنت أعلمُ أم أبو حنيفة ؟
فعلمت ما سيقوله ففاجئته بقولي: أنا
فنظر إلي بحِدَّةٍ وانتفخت أوداجه وهو يكظم غيظه
فقلت له: هَوِّنْ عليك؛ فلم أكمل كلامي بعد
قال: وهل بقي بعد قولك هذا كلام، لقد فضلت نفسك على أبي حنيفة رحمه الله فماذا تقول بعد هذا؟!
فأردت الإمعان في استثارته فقلت: أنا لم أقل إلا الحق
فازداد غيظا وأراد أن يفتك بي ثم أعرض بوجهه عني ونهض ليتركني
فقلت له: على رِسْلِكَ فأنا لم أنتهِ مما أردت قَوْلَهُ
فقال وهو معرض عني: قل ما تشاء وأوجز فإني على عجل
قلت: أنا لا أساوي قلامة ظفر من أبي حنيفة رحمه الله
فالتفت إلىَّ متهللا قائلا: وهل هذا هو ما أردت أن تقوله حين قلتَ: أنا
قلت: نعم، هذا هو
قال: فإذا أقررت بهذا فهل عرفتَ هذا الدليل ولم يعرفه أبو حنيفة
قلت: بهذا ضل المتعصبون من المقلدة، فمهما جئتهم بنص من كتاب أو سنة أو استدلال صحيح من قياس أو أثر ونحو ذلك إلا أجابوا بمثل ما أجبت به مستنكرين أن يذهب هذا الدليل عن إمامهم ويعلمه مَنْ هو دونه فجعلوا إمامهم لا يجوز أن يخفى عليه دليل ولا أن يذهب عنه تعليل.
وقد كان صاحبي رجلا منصفا غير متعصب فقال لي: أكملْ.
فقلت: إن أحببت أن أزيدك أدلة أخرى فعلت.
قال: نعم، أحب ذلك
قلت:
من الأدلة على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة منها:
1- آيات سورة المدثر السابقة، وجه الدلالة منها: أنهم ذكروا أن من سبب العذاب أنهم لم يُصَلُّوا في الدنيا ولم يُزَكُّوا (وهو المراد بإطعام المسكين والله أعلم) وكونهم كانوا يخوضون مع الخائضين.
2- أنه تعالى ذم قوم شعيب بالكفر ونقص المكيال
3- وذم قوم لوط بالكفر وإتيان الذكور
4- وذم عادا قوم هود بالكفر وشدة البطش
5- قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] فـ (أل) في {النَّاسِ} للاستغراق فتشمل المؤمن والكافر
6- قوله تعالى:{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِين َ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 1 – 5]
الضمير في {أُمِرُواْ} يعود على (أهل الكتاب والمشركين) فإذًا هم مأمورون
7- قوله تعالى:{وَالَّذِي نَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا. يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان: 68، 69]
فسبب مضاعفة العذاب الأمور الثلاثة: الكفر والقتل والزنا
8- قوله تعالى:{كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ. وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى} [القيامة: 26 - 33]
فذم الكفار على ترك الصدقة وعلى ترك الصلاة فدل على أنهم مخاطبون بهما
9- قوله تعالى:{وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } [فصلت: 6، 7] فتوعد الله المشركين بالويل لكفرهم ولأنهم لا يؤتون الزكاة
10- قوله تعالى:{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل: 88] فَرَتَّبَ اللهُ عز وجل زيادةَ العذابِ على الكفر وعلى الصد عن سبيل الله.
قال: هذه أدلة ظاهرة على هذه المسألة تبين رجحان مذهب الجمهور فيها وهو أن الكفار مخاطبون بالفروع ولكن...