مِنْ شروط القياس أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ مُؤَثِّرَةً فِي الْحُكْمِ.
كَعِلَّةِ نَجَاسَةِ الرَّوْثَةِ، فَهِي مُؤَثِّرةٌ فِي الْحُكْمِ؛ حَيثُ صَرَّحَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَعْمِلْهَا لِنَجَاسَتِهَا.
وَعِلَّةِ الْإِسْكَارِ فِي الْخَمْرِ، فَهِيَ مُؤَثِّرَةٌ فِي الْحُكْمِ.
فَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْعِلَّةُ غَيْرَ مُؤَثِّرَةٍ فِي الْحُكْمِ, لَمْ يَصِحِّ الْقِيَاسُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ – حَينَئذٍ - سَاقِطَةٌ.
مِثالُ ذَلِكَ:
حَدِيثُ ابْنِ عَبِّاسٍ رضي الله عنه أَنَّ بَرِيرَةَ خُيِّرَتْ عَلَى زَوْجِهَا حِينَ عُتِقَتْ، قَالَ: وَكَانَ زَوْجُهَا عَبْدًا أَسْوَدَ ([1]).
فَقَوْلُهُ (أَسْوَدَ) وَصْفٌ لَا تَأْثِيرَ لَهُ عَلَى الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ زَوجُهَا أَبْيَضَ لَم يَتَغيَّرِ الْحُكْمُ، وَلَخَيَّرَهَا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أَيْضًا؛ وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّهَا صَارَتْ أَعْلَى مِنْهُ، صَارَتْ حُرَّةً وَهُوَ عَبْدٌ، فَلمَّا صَارَتْ أَعْلَى مِنْهُ جَعَلَ لَهَا الشَّارِعُ الْخِيَارَ([2]).
وَكَحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ((وَقَعْتُ علَى امْرَأَتِي فِي نَهَارِ رَمَضَانَ...)) الْحَدِيثَ؛ فَوَصْفُ السَّائِلِ بِكَوْنِهِ أَعْرَابِيًّا لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْحُكْمِ.
وَيَعْرِفُ الْعُلَمَاءُ كَوْنَ الْعِلَّةِ مُؤَثِّرَةً فِي الْحُكْمِ أَوْ غَيْرَ مُؤَثِّرَةٍ فِيهِ, عَنْ طَرِيقِ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ؛ وَمَعْنَاهُ: التَّتَبُّعُ وَالِاسْتِقْرَا ءُ.
فَيَقُومُ الْمُجْتَهِدُ بِجَمْعِ وَحَصْرِ جَمِيعَ الْأَوْصَافِ الَّتِي يَظُنُّ صَلَاحِيَّتَهَا فِي التَّعْلِيلِ، ثُمَّ يَقُومُ بِاخْتِبَارِهَا وَسَبْرِهَا لِحَذْفِ الْأَوْصَافِ الَّتِي لَا تَصْلُحُ لِلتَّعْلِيلِ، وَالْإِبْقَاءُ عَلَى مَا يَصْلُحُ لِلتَّعْلِيلِ.
وَيَمُرُّ الْمُجْتَهِدُ فِي أثْنَاءِ ذَلِكَ بِمَرَاحِلَ ثَلَاثٍ:
الْمَرْحَلَةُ الْأُولَى: تَخْرِيجُ الْمَنَاطِ([3]):
وَمَعْنَاهُ: اسْتِخْرَاجُ الْعِلَّةِ المَنَوطَةِ بِحُكْمِهَا: أَيِ الْمُرْتَبِطَة بِهِ؛ كَالْإِسْكَارِ فِي الْخَمْرِ.
الْمَرْحَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ:
وَمَعْنَاهُ: حَذْفُ مَا لَا يَصْلُحُ لِلْعِلَّةِ، فَفِي الْخَمْرِ – مَثَلًا - الْأَوْصَافِ التَّالِيَةِ: الِاحْمِرَارُ، وَالسَّائِلِيَّ ةُ، وَالْإِسْكَارُ؛ فَيَحْذِفُ الْمُجْتَهِدُ سَائِرَ الْأَوْصَافِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةً، وَيُبْقِي عَلَى وَصْفِ الْإِسْكَارِ الَّذِي يَكُونُ عِلَّةً لِلتَّحْرِيمِ.
الْمَرْحَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ:
وَمَعْنَاهُ: التَّأَكُّدُ مِنْ حُصُولِ الْعِلَّةِ فِي مَحَلٍّ آخَرَ؛ لِيَأْخُذَ نَفْسَ الْحُكْمِ؛ كَالتَّأَكُّدِ مِنْ وُجُودِ عِلَّةِ الْإِسْكَارِ فِي الْكُحُولِّ, وَالْأَقْرَاصِ الْمُخَدِّرَةِ, حَتَّى تَأْخُذَ نَفْسَ حُكْمِ الْخَمْرِ.
([1]) صحيح: أخرجه البخاري (5282).
([2]) «شرح الأصول» لابن عثيمين (353)، بتصرف.
[3])) ((المناط)): أي العلة المتعلق بها الحكم. قال الخليل بن أحمد الفراهيدي ((العين)) (7/ 455): ((ناط ينوط نَوْطًا، تقول: نُطْتُ القِرْبةَ بنياطها نَوْطاً، أي: علّقتها)).