المجرم المسجون , هل يؤجر المسلم بزيارته.؟
قد يعتب البعض أو يستغرب من صيغة السؤال , لكنه ينبئ عن واقع البعض منا , الذين أصبحو يوصدون أبواب الرحمة في وجوه العصاة , وما إن يقع المسلم في هنة أو زلة ويشاء الله أن يفضح أمره ويدخل السجن حتى تبدأ كلمات السخرية والشماته , ولربما نُعت بعد قضاء مدته ب(خريج السجون) وتواصى الناس بترك مجالسته إلى غير ذلك مما هو كفيل بخروج العبد من الدين وكراهيته لأهله -إن لم يعصمه الله من كيد الشيطان ووسوسته- ولا أريد أن أطيل فهذا سؤال في هذا الموضوع اجاب عنه فضيلة الشيخ محمد بن محمد المختار الشنقيطي - المدرس بالحرم
النبوي الشريف - حفظه الله.
ــــــــــــ
السؤال: هل في زيارة المسجون لجريمة ارتكبها يحصل للزائر أجر ومثوبة ؟
الجواب:
المسجون من أحوج الناس إلى الزيارة ، وكونه يرتكب ذنباً ومعصيةً لا يمنع من حقه علينا أن نزوره وننصحه ونذكره بالله عز وجل خاصة إذا كان من الأقربين - خاصة إذا كان الذي يزور من طلاب العلم والدعاة الذين يؤثرون - إذا كان المجال يسمح له ذلك ونفسه تعينه ؛ لأن نفوس الناس تختلف ، والمقصود:
أن زيارة السجن لقريب أو صديق - لا قدر الله - وقع في معصية تزوره وتنصحه وتأمره بالخير وتنهاه عن الشر ، فهذا أمر فاضل وفيه الأجر وفيه المثوبة - ولا شك - أنه قد يكون سبباً في توبته وسبباً في صلاحه ، وكذلك إذا كان قريباً له حق كالأخ والقريب تزوره وتسلم عليه وتنصحه وتذكره بالله ، وتتألم أنه وقع في هذه المعصية حتى ولو لم يتب ، تظهر له الألم وتظهر له الحزن ، فإذا رأك تألمت بعض الناس يموت قلبه فلا يتألم فيحيا بغيره ، قد تجد الرجل قاسي القلب لا يتأثر فإذا سمع من بكى بكى ! وإذا وجد من اشتكى اشتكى ! فهذا له أثر .
والحقيقة من الأمر المهم ألا ننظر إلى العصاة وكأننا أفضل منهم وكأننا أحسن منهم ، فلا أحد يعلم ماهي الخاتمة ؟ ولا أحد يعلم ما هي العاقبة ؟
والموفق السعيد - دائماً - يتهم نفسه أنه أحوج الناس إلى رحمة الله ، وأفقر الناس إلى لطف الله عز وجل , تزوره وتتعظ تزوره تعتبر ، بل أعرفُ من الأخيار من كان يأخذ أولاده إلى السجن لزيارة من يقع من أقاربه أو ممن يعرفه حتى يرى ابنه ويتأثر ويتعظ ويكون هذا له زجر ونوع من الأثر على نفسه ، فعلى كل حال مشاهدة العقوبة تردع ، ولذلك أمر الله بجلد الزناة أمام الناس : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } لما فيها من الزجر والعقوبة للقلوب الحية .
والوصية الأخيرة - كما ذكرنا - : أنه ينبغي علينا أن لا نتعالى على الناس ، وأن لا نعتقد أننا سالمون ، فكم من عبد يذنب ذنباً واحداً فيفضحه الله بهذا الذنب فيغفر ذنبه بالعقوبة ويرفع درجته بالأذى والضرر الذي يتبعه من هذا الذنب ويعلي منـزلته بذلك فيصلح بقية حياته ! .
وكم من شخص كثير الحسنات ولكن عنده غيبة أو نميمة أو كلام في الصالحين أو أذية لأولياء الله المتقين قد يكون هالكاً وهو لا يشعر !
الأمور كلها مردها إلى الله ، والله يقول : {لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ } مع أنهم عصاة ، مع أنهم مذنبون ، فعلى كل حال ينبغي للإنسان ألا يُقَنِّطَ إخوانه من رحمة الله .
ومما أذكره : أن أحد طلبة العلم ذات مرة كان راجعاً إلى المدينة ، فقيل له : لو زرت السجون - وكانت زيارته غير مترتبة - فتعظ أو تذكر أهلها ، فصلى ، قال : صليت معهم الظهر ولما صليت الظهر وجدتهم مشتتين متفرقين في المسجد لأنهم يائسون متأثرون ، وإذا جاءهم الواعظ كأنهم ينظرون أن هناك فجوات بينهم ، فاستفتح كلامه وقال : - يا إخوان - كلنا مذنبون وكلنا مقصرون ، منا من ستر الله ذنبه وستر عيبه ، ومنا من كشف الله ستره لحكمةٍ يعلمه-سبحانه- ، ما أنا بأفضل منكم أو أشهد على نفسي أني خير منكم .. وبدأ معهم بقضية : أنه أنا وأنتم في دين الله وشرع الله في الإسلام اجتمعنا على كلمة الإسلام منا من اساء وأذنب وقد تكون عندي ذنوب وأنتم لا تعرفونها ؛ ولكن الله ستر من ستره ، وفضح من فضحه . فأقبلوا عليه أفواجاً وتقاربوا ، وبدأ يحدثهم وبدأ يعظهم، وبدءوا يبكون ، وبدءوا يتأثرون ، ما خرج من السجن إلا وهم يتمسكون فيه يريدون أن يجلس معهم . قالوا : كم جاءنا من شيخ وكم جاءنا واعظ ما نفقه ما يقول ؛
لأنهم مساكين يحسون بالفجوات ، أبناء المسلمين ضاعوا بالقرناء في شتات لا يعلمه إلا الله عز وجل ، ينشأ الطفل قل أن يرى أباه في اليوم الواحد ، ما يأتي أبوه إلا في جوف الليل الأظلم ، وسهران مع أصحابه أو في كده وتعبه ، أين يجد التوجيه ؟! كان الابن من الصغر يجلس مجالس الكبار يَعَلم كيف يستقبل الكبار كيف يكرم ضيفه ؟! كيف يحسن رفده ؟ كيف يتخلق بالأخلاق ؟! يسمع قصص أبيه وجده وأسرته وعائلته وقصص الأخيار فيحب أن يفعل فعلهم ؛ لكن في اليوم ما وجد هذا - إلا من رحم الله - ، يجلس الساعات الطويلة مع قرناء السوء الذين يحطمونه ويدمرونه ويخذلونه عن طاعة الله عز وجل ، فإذا دمرت نفسه خرج هذا المسكين وهو فلذة كبد لأَمَهْ من إماء الله أو عبد من عباد الله فتلقفه الأشرار في ذنب أو معصية ، وقع في المعصية ودخل السجن انتهى كل شيء ما أحد يزوره ! لا وليس وحدها نقصر في زيارته ونبدأ نأكل في عرضه فنغتابه ، وننمه ، ونتكلم فيه ، وننظر إليه نظرات الشزر ، وننظر وكأنه خرج من الإسلام ؟!
ماهذا في دين الرحمة !! وما بعث الله نبيه-عليه الصلاة والسلام- إلا رحمة للعالمين ، العبد العاصي شارب الخمر يقولون الصحابة : فيه وفيه .. فقال : (( مه !! لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم ، إنه يحب الله ورسوله )) شارب خمر يقولون : هذا فلان الذي تقطر الخمر من لحيته فقال-عليه الصلاة والسلام- : (( ما علمته إلا أنه يحب الله ورسوله )) العبد عليه - دائماً - أن يعلم الرسالة رسالة رحمة ، ثم إذا خرج من هذا المجتمع وبدءوا ينظرون له هذه النظرة ، فقل أن تجد من يزوره وقل أن تجد من ينصحه ؛ لكن لو الأخيار ذهبوا لزيارته ودخلوا إليه وسلموا عليه ووعظوه وذكروه ولا يعظوه موعظة تكون مؤثرة أثراً ييئس من رحمة الله ، بعضهم يعظ ويغلظ في الموعظة ، لا : { وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} قول ينبأ بالرحمة ، - يا أخي - ما نيئس منك ، هذه هنّة وزلة ، لعل الله أن يصلح بها ، وكل جواد له كبوة ، - يا أخي - ما نيئس منك إن شاء الله ترجع معنا والله يتولاك برحمته ، إن شاء الله يكفر الله عنك هذا الذنب ، تب إلى الله ، ارجع إلى الله ، أنت فيك - إن شاء الله - خير ، وأنت ابن ناس أو كذا الكلام الطيب الكلام الذي يحيي جذوة الإيمان في القلوب وفي النفوس ، فإذا بالرجل يستفيق من غفلته فأعَنَّاه على الشيطان ولم نعن الشيطان عليه ؛ لكن إذا ما يزوه أحد ، وخرج هذا المسكين في ريعان شبابه ومقتبل عمره مراهقون وشببه صغار في مقتبل حياتهم ، تدمر حياتهم ويصبحون كلاً على المجتمع وبلاءً على المجتمع وحرب على المجتمع بسبب تصرفاتنا ، لا نقول : نحن كل التصرفات لكن لتصرفاتنا أثر . بل الأدهى من ذلك والأمَرُّ أنه جاءني من يشتكي يقول : ولدي دخل السجن وجئت أزوره فعاتبني إمام المسجد ! فالبعض عن حسن نية يغلو في الطاعة ، والده فلذة كبده ما يروح ينظر إلى ولده ! فهذه أخطاء تقع ، نذهب وننصحه ونذكره فإذا رجع إلى بيته جئنا وأحطنا به لأنه غريق ينبغي علينا أن ننقذه وننتشله ، ثم إذا رجع بعد خروجه من السجن وصلح حاله نحبه ونكرمه ونجله ونوقره ؛ لأن من ذاق لذة المعصية ، فتركها وتاب إلى الله فهو بخير ، حتى إن بعض العلماء يقول : من عصى ، وتاب إلى الله بعد لذة المعصية وشهوة المعصية ، ولم يرجع إليها أفضل ممن من لم يعص ؛ لأن الذي ذاق لذة المعصية وشهوة المعصية ورأى فتنة المعصية والمغريات وجاء رجع إلى الله عز وجل كل فترة يأتيه الشيطان يذكره بهذه المعاصي ولذاتها ، فإذا به يعيش حياة مليئة بالجهاد والصبر على طاعة الله عز وجل يقول : لا .. ثم لا .. ، ولذلك عصى -آدم عليه السلام- كما نص الله-تعالى- : { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} ، فالذي اجتبى الأنبياء والصالحين والأخيار في كل زمان ومكان رحمته واسعة ! ولن تضيق بسببنا ، فعلينا أن ننصح ونذكر ، والأب الذي تعلم أن ابنه في السجن تزوره وتأتي إليه وتجلس معه وتنصحه ، وتقول له : أنا لا ألومك أكثر مما أنت فيه لكن أقول لك تذكر لو هذا الأبن تعهدته وتابعته ، ونريد أن ابنك إذا رجع تقوم عليه ويجتمع الحي وتجتمع المدينة ويصبح كل من وقع في المعصية يجد من يعينه على البعد عن المعاصي ماذا يحدث ؟! وماذا يكون ؟! المرأة زانية ، فيتحدث الصحابة بعد رجمها : زانية بغي وقعت في الزنا-والعياذ بالله- ثم جاءت تائبة إلى الله ورسوله تابت توبة نصوحاً من قلبها ، وجاء ماعز إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تائباً من الذنب فرجم ، فلما رجم اختلف فيه الصحابة فقال بعضهم : في النار ، وقال بعضهم : في الجنة . اختلفوا ، فدخل عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم يختلفون ، فسألوه ، فقال-عليه الصلاة والسلام- : (( إنه - الآن - ينغمس في أنهار الجنة )) هذا العاصي الذي تحتقرونه : (( إنه - الآن - ينغمس في أنهار الجنة )) والمرأة التي تابت إلى الله وجاءت وهي حامل من الزنا ، وتريد أن يقام عليها الحد تائبة إلى الله عز وجل ، فلما عرضت نفسها على الله ، وأقيم عليها الحد ، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم يصلي عليها ، وعاتبه عمر فقال-عليه الصلاة والسلام- : (( وهل وجدت شيئاً أفضل من أن جادت بنفسها لله )) يعني بذلت نفسها كلها لله من أجل أن تطهر من الذنب لا تحتقر أهل الذنوب ، - نحن - نحتقر الذنوب ونكره الذنوب لكن هناك مراتب جعلها الله عز وجل للإساءة والذنب : { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} وعلينا على كل حال أن نتذكر أن الله بعث رسوله صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين ، وأنه ما بعثه عذاباً على الناس ، وأنه بعثه ميسراً ، لا معسراً وبعثه مبشراً لا منفراً ، فطوبى ثم طوبى لمن جعله الله رحمة للمسلمين ! ، طوبى لمن كان بحيه أرحم بالناس من نفسه ! طوبى لمن كان في حيّه وفي مجتمعه يحس كأنهم أبناؤه وفلذة كبده فيسعى لهم في كل خير ويدعوهم إلى الطاعة ويبعدهم عن المعصية .
نسأل الله العظيم أن يتولانا وإياكم برحمته ، والله - تعالى- أعلم .