ما شاع ولم يثبت ..........(طلع البدرُ علينا)...!
ما شاع ولم يثبت ..........(طلع البدرُ علينا)...!
"وهذا النشيد من أشهر ما يتعلق بالهجرة النبوية المباركة.فقد أخرج البيهقي في (الدلائل) بسنده عن ابن عائشة قال: لما قدم عليه السلام المدينة جعل النساء والصبيان يقلن: (1)
طلع البدر علينا *** من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا *** ما دعا لله داع
ورواه في موضع آخر من (الدلائل) في باب: تلقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث قدم من غزوة تبوك، ثم قال: قلت: وهذا يذكره علماؤنا عند مقدمه المدينة من مكة، وقد ذكرناه عنده، لا أنه لما قدم المدينة من ثنية الوداع عند مقدمه من تبوك، والله أعلم، فذكرناه أيضًا هاهنا (2) ".
وأعلّه الحافظ العراقي بكونه معضلًا (3)؛ لأن راوي القصة عبيد الله بن عائشة (وهو من شيوخ الإمام أحمد) مات سنة 228 هـ. فبينه وبين القصة مفاوز.
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في (الفتح): "وأخرج أبو سعيد في (شرف المصطفى) ورويناه في (فوائد الخلعي) من طريق عبيد الله بن عائشة منقطعًا: لما دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة جعل الولائد يقلن:
طلع البدر علينا *** من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا *** ما دعا لله داع
وهو سند معضل، ولعل ذلك كان في قدومه من غزوة تبوك (4) ".
وقد أخرج البخاري -رحمه الله- في صحيحه قال: حدثنا عبد الله بن محمد قال: حدثنا سفيان عن الزهري عن السائب بن يزيد: "أذكر أني خرجت مع الصبيان نتلقى النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى التثنية الوداع مقدمه من غزوة تبوك (5) ".
قال الحافظ ابن حجر: "فأنكر الداودي هذا وتبعه ابن القيم وقال: ثنية الوداع من جهة مكة لا من جهة تبوك، بل هي مقابلها كالمشرق والمغرب، قال: إلا أن يكون هناك ثنية أخرى في تلك الجهة، والثنية ما ارتفع من الأرض. وقيل: الطريق في الجبل. قلت: لا يمنع كونها جهة الحجاز أن يكون خروج المسافر إلى الشام من جهتها، وهذا واضح كما في دخول مكة من ثنية والخروج منها من أخرى، وينتهي كلاهما إلى طريق واحدة. وقد روينا بسند منقطع في (الحلبيات*) قول النسوة لما قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة: "طلع البدر علينا من ثنيات الوداع" فقيل: كان ذلك عند قدومه في الهجرة، وقيل: عند قدومه من غزوة تبوك (6) ".
كذا نسب الحافظ ابن حجر إلى ابن القيم أنه قال: ثنية الوداع من جهة مكة لا من جهة تبوك: وكلام ابن القيم مخالف لذلك تمامًا، فقد قال -رحمه الله-: "فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة، خرج الناس تلقيه، وخرج النساء والصبيان والولائد يقلن:
طلع البدر علينا *** من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا *** ما دعا لله داع
وبعض الرواة يهم في هذا ويقول: إنما كان ذلك عند مقدمه إلى المدينة من مكة، وهو وهم ظاهر، لأن ثنيات الوداع إنما هي من ناحية الشام، لا يراها القادم من مكة إلى المدينة، ولا يمر بها إلا إذا توجّه للشام .. (7) ".
وجاء سبب تسمية ثنية الوداع بذلك وأنها من جهة تبوك في حادثة أخرة، في تحريم نكاح المتعة. قال الحافظ ابن حجر: "وأخرجه الحازمي من حديث جابر، قال: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى غزوة تبوك، حتى إذا كنّا عند العقبة مما يلي الشام جاءت نسوة كنّا تمتعنا بهنّ يطفن برحالنا، فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكرنا ذلك له، فغضب وقام خطيبًا فحمد الله وأثنى عليه، ونهى عن المتعة، فتوادعنا يومئذ فسميت ثنية الوداع (8) ". والحديث "لا يصح فإنه من طريق عباد بن كثير، وهو متروك (9) ".
قال الشيخ الألباني -رحمه الله-: "على أن القصة برمّتها غير ثابتة (10) ".
ومما يدل على ضعف هذه القصة: أن الروايات الصحيحة في دخوله -صلى الله عليه وسلم- طيبة عند هجرته إليها لم تذكر ولو إشارة ما يستشهد به لذلك، بل نقلت تلك الروايات ما قاله أهل المدينة عند وصوله إليها، فقد روى البخاري -رحمه الله- في صحيحه في (باب هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة) حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-، وفيه: "فقيل في المدينة: جاء نبي الله، جاء نبي الله -صلى الله عليه وسلم- فأشرفوا ينظرون ويقولون: جاء نبي الله .. (11) " وفي حديث البراء بن عازب -رحمه الله-: " .. ثم قدم النبي -صلى الله عليه وسلم-، فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم (12) برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حتى جعل الإماء يقلن: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" وفي رواية: "فصعد الرجال والنساء فوق البيوت، وتفرّق الغلمان والخدم في الطُّرق ينادون: يا محمد، يا رسول الله. يا محمد، يا رسول الله (13) ".
فائدة: نقل الصالحي رحمه الله تعالى عن المقريزي أنّ هذا النشيد قيل لما رجع النبي -صلى الله عليه وسلم- من غزوة بدر. فهذا قول ثالث، وسبق أن النشيد لا يصح.
وأخرى: رغم عناية ابن إسحاق -رحمه الله- بالسيرة، وتتبعه لأحداثها، فإنه لم يورد هذا النشيد في سيرته.
"ما شاع ولم يثبت في السيرة النبوية" للعوشن (ص:87) .
.............................. .............................. ................
(1) دلائل النبوة، باب من استقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه .. ، ص 506، وزيادة: أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع، من زيادة رزين، قاله الصالحي (سبل الهدى والرشاد، 3/ 271).
(2) الدلائل، باب تلقي الناس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قدم من غزوة تبوك (5/ 266).
(3) تخريج أحاديث إحياء علوم الدين، دار العاصمة، الطبعة الأولى (3/ 1327).
(4) فتح الباري (7/ 261، 263).
(5) كتاب المغازي، باب كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى كسرى وقيصر (8/ 126 فتح).
*كذا في الأصل وهو خطأ مطبعي، والصواب: الخلعيات.
(6) فتح الباري (8/ 128، 129).
(7) زاد المعاد (3/ 551) الطبعة السادسة، 1405.
(8) فتح الباري (8/ 169).
(9) فتح الباري (8/ 170). والتلخيص الحبير (3/ 178).
(10) سلسلة الأحاديث الضعيفة (2/ 63) الطبعة الثالثة، 1406.
(11) كتاب مناقب الأنصار، رقم 3911.
(12) البخاري، رقم 3925.
(13) أخرجه مسلم، برقم (7522) [2009].