هذا الكلام صحيح إجمالا. فإن الفطرة والبداهة العقلية توجب وجود الخالق وانتهاء تسلسل العلل عنده، وهي كذلك توجب له أحسن الصفات وأكملها، وتوجب تنزهه عن النقائص سبحانه وتعالى. ولكن لا يمكن الوصول إلى معرفة أن ذلك الخالق هو الله عز وجل، ومعرفة صفاته الخبرية الذاتية والفعلية إلا من طريق الوحي وما جاء به المرسلون، والله أعلى وأعلم.
هذه واردات تأتي لبعض الناس ويأتيه ماهو أشد منها فى أمور العقيدة ويأتيه وساوس أنه غير موحد مع أنه يعبد الله وحده وأعصابه مهزوزة من ساعتها وعندما يقرأ فى القرآن يأتيه وسواس يقول له ياعم هو أنت بتصدق هذا الكلام يا عم اثبت أن الله هو الخالق وعندما يرى النصارى يأتيه هاجس لماذا لا يكون هؤلاء على حق وكل ما يأتيه هذا الوسواس يقول لا إله إلا الله ولا يستطيع أن ينام جيدا فأعصابه متوترة
بارك الله فيكم. قل لصاحب هذه الوساوس أن حجية ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم على أن الخالق هو الله وأن القرءان كتابه المنزل، لا تخفى على ذي عينين! فإن الإله الذي دعا إليه نبي الإسلام هو المعبود الوحيد فيما يعبد أهل الملل الذي تنطبق عليه سائر مقتضيات العقل المجرد في التوحيد المحض ونسبة سائر الكمالات إليه وتنزيهه عن سائر النقائص، ولا يمكن أن يدعي عاقل أن ذلك الشرط يتحقق في ملة يعبد أصحابها إلها هو ثلاثة آلهة وإله واحد في الوقت نفسه، خرج من رحم امرأة وصلب ومات ودفن لثلاثة أيام، أو ملة يعبد أصحابها مخلوقات يشركونها في خصال الربوبية مع خالقها تصريحا أو بالاقتضاء، أو ملة يعبد أصحابها إلها هو الخالق وهو المخلوق معا هو عين كل شيء أو هو حال في كل شيء .. إلى آخر هذا الهراء الذي يعتقده أصحاب الملل الباطلة!
حجية دين محمد صلى الله عليه وسلم لا تخفى على عاقل ولله الحمد، ولا يشترط لقيامها على عقلاء العالم ممن سمعوا بهذه الملة من يهود أو نصارى أو غيرهم من أهل الملل والنحل أن نبذل الجواب المفصل عن سائر شبهات المجرمين على الشريعة وعلى الجهاد ومسائل المرأة وهذه الأشياء كما يتصور كثير من الناس في هذا الزمان! صحيح إن جهد الدعاة في محاربة تلك الشبهات مشكور مأجور إن شاء الله تعالى ولكن القصد أن حجية دين محمد صلى الله عليه وسلم أظهر من أن يشتبه عاقل منصف في بطلانها بسبب فلسفة من فلسفات الأخلاق السائدة عند الغرب أو عند غيرهم في هذا الزمان أو في غيره!
ولهذا لم يكن الصحابة والسلف الأول يطيلون في الأخذ والرد والسجال مع الكفار كما يشترط عامتهم اليوم حتى تزال جميع الشبهات وتجاب سائر الاتهامات وإن ظل الحوار مستمرا لعشرات السنين! ينظر الناظر منهم في التاريخ فيرى جحافل المسلمين تنطلق بالفتح والغزو والسيف ولا تمكث بما يكفي - في زعمه - للمحاججة والإقناع ودفع الشبهات .. الخ! والحق أن الحق ظاهر جلي واضح كما ترى، والأجوبة الجامعة المانعة من جنس هذا الذي كتبته لك الآن، تكفي كل صادق منصف عاقل، ولولا هذا ما اقتضت حكمة الله أن يكون القرءان على ما ترى من الوجازة والبلاغة! لم نر القرءان مبسوطة حججه في مجلدات مطولة من الآيات المنزلة، وإنما نراه كما ترى! فإن العاقل يكفيه ما نزل في كتاب رب العالمين، فإن قبل فبها ونعمت وإلا كانت الأخرى، والحمد لله على نعمة الإسلام!
ما تفضل به الأستاذ أبو الفداء سدده الله جيد مسد لمن كانت له شبه عقلية مستمرة مستقرة بحيث يصل إلى درجة الشك الموصل للتوقف عن عبادة الله تعالى. والذي يظهر لي أن صاحبك يعاني من واردات ووساوس نفسية. فإن الرجل ما توقف- بحمد الله- عن العبادة ونفسه كارهة لهذه الوساوس بدليل أنه كاره لها وضائقة بها نفسه حتى أصابه الأرق.
وهذه الواردات لا يكاد يسلم منها أحد وقد كانت تحدث لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاء أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه : إنّا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به ، فقال : أو قد وجدتموه؟. قالوا : نعم ، قال : ذاك صريح الإيمان.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل فقال : إني أحدث نفسي بالشيء لأن أكون حممة أحب إلي من أن أتكلم به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : الحمد لله الذي رد أمره إلى الوسوسة. رواه أبو داود.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه أن علاج مثل هذه الوسوسة هو الاستعاذة بالله من الشيطان والانتهاء عن التفكير.
ففي الصحيحين :"يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا ؟ من خلق كذا ؟ حتى يقول من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته."
قال الإمام المازري رحمه الله:" ظاهر الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يدفعوا الخواطر بالإعراض عنها والرد لها من غير استدلال ولا نظر في إبطالها قال والذي يقال في هذا المعنى إن الخواطر على قسمين فأما التي ليست بمستقرة ولا اجتلبتها شبهة طرأت فهي التي تدفع بالإعراض عنها وعلى هذا يحمل الحديث وعلى مثلها ينطلق اسم الوسوسة فكأنه لما كان أمراً طارئاً بغير أصل دفع بغير نظر في دليل إذ لا أصل له ينظر فيه وأما الخواطر المستقرة التي أوجبتها الشبهة فإنها لا تدفع إلا بالاستدلال والنظر في إبطالها والله أعلم."
وقال العلامة ابن باز رحمه الله تعالى في جواب له وقد سئل بما يقارب سؤالك: "وعلى من وجد شيئاً من هذه الوساوس أو ألقي إليه شيء منها أن يستعظمها وينكرها من أعماق قلبه إنكاراً شديداً وأن يقول آمنت بالله ورسله، وأن يستعيذ بالله من نزغات الشيطان، وأن ينتهي عنها ويطرحها؛ كما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك في الأحاديث السابقة، وأخبر أن استعظامها وإنكارها هو صريح الإيـمان، وعليه ألا يتمادى على السائلين في هذا الباب؛ لأن ذلك قد يفضي إلى شر كثير، وإلى شكوك لا تنتهي، فأحسن علاج للقضاء على ذلك والسلامة منه هو امتثال ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم والتمسك به والتعويل عليه وعدم الخوض في ذلك وهذا هو الموافق لقول الله عز وجل: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
والله تعالى أعلم.