هُزِمْنَا في أنابوليس بوثيقة قاصمة
فهمي هويدي
لم يخيب مؤتمر أنابوليس رجاء الذين أساءوا الظن به ورفضوا المراهنة عليه, لأن حصيلته جاءت كارثية بالنسبة للفلسطينيين, ومهينة للعرب أجمعين.
(1)
خلال الأسابيع التي سبقت المؤتمر ظل رئيس السلطة الفلسطينية السيد محمود عباس يشدد على أنه لن يذهب إلى أنابوليس قبل إعلان أولمرت تجميد الاستيطان، ووقف البناء في جدار الفصل العنصري، ورفع الحواجز العسكرية في أرجاء الضفة, وقال في أكثر من مناسبة وتصريح: إن مشاركته في المؤتمر مشروطة أيضًا بالتوصل إلى وثيقة مبادئ تحدد مسبقًا مصير القضايا الأساسية في الصراع: القدس, واللاجئون, والحدود, والمستوطنات, والأمن.
هذه المشاركة المشروطة كان لها صداها في أكثر من بلد عربي, فقد قرأنا تصريحات قوية صدرت من أكثر من عاصمة تحدثت عن ضرورة الانطلاق في المؤتمر من مرجعيات واضحة ترتكز على قواعد القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة, وقرار مجلس الأمن رقم242, بحيث يظل الأساس هو العودة إلى حدود عام1967م، وتطبيق قرار الأمم المتحدة رقم 194 الخاص بعودة اللاجئين, ومبادرة السلام العربية التي تحدثت عن الأرض مقابل السلام.
ونبهت تلك التصريحات المعلنة إلى أن خريطة الطريق التي أطلقتها الإدارة الأمريكية ينبغي أن تظل مجرد آلية للتنفيذ وليست مرجعية. كما أفاضت في الحديث عن الاستحقاقات التي ينبغي أن تفي بها إسرائيل قبل الذهاب إلى المؤتمر, وفي مقدمتها وقف بناء المستوطنات, وإلغاء أو الحد من نقاط التفتيش التي تعوق حركة الفلسطينيين بالضفة.. إلخ.
ومن بين ما أعلنته دمشق أن مشاركتها معلقة على إدراج موضوع احتلال هضبة الجولان على جدول أعماله, وأعلن رسميًّا في أثناء اجتماع وزراء الخارجية العرب الأخير في القاهرة, أن دمشق تلقت وعدًا بالاستجابة لمطلبها.
في هذه الأجواء المسكونة بالتشدد في المواقف والمطالب, تحدث أبو مازن مرارًا عن أن المؤتمر فرصة لن تتكرر لإحلال السلام في الشرق الأوسط, وسار في الركب نفر من الكتاب الذين ما برحوا يبشروننا بفجر السلام الذي لاح, وأمله الذي حل بعد طول انتظار, وإرهاصات اليسر التي تجلت بعد سنوات الإحباط والعسر, بعد ذلك التصعيد في الاشتراطات والتعبئة الإعلامية المتفائلة.. ما الذي حدث؟.
(2)
حدث الكثير في أثناء المؤتمر وبعده, من ذلك مثلا:
ـ أن كل ما أعلن من شروط, سواء من جانب العرب تم تجاهلها, وذهب الجميع دون أن يلبي أي شرط منها, أو أبو مازن الذي قال: إنه لن يذهب ولن يوقع إلا إذا حدث كذا وكذا, ذهب راضيًا, ووقع مرغمًا, حتى إن صحيفة هاآرتس ذكرت في عدد11/ 28 أن الرجل حين تردد في التوقيع على وثيقة التفاهم بعدما اكتشف أنها تجاهلت مطالبه, فإن وزيرة الخارجية الأمريكية وبَّخَتْه قائلة: أقلعوا عن هذه الألاعيب والمناورات، ويجب أن نتفق الآن, فوقع صاغرًا, حسب ما ذكرته صحيفة هآرتس.
ـ حين أعلنت وثيقة التفاهم فإنها لم تستجب لأي مطلب فلسطيني أو عربي, وكل ما قالته: إن الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي وافقا على البدء فورًا في مفاوضات ثنائية (لا دخل للعرب بها, وليسوا طرفًا فيها) لحل جميع القضايا العالقة, وستشكل منهما لجنة متابعة لهذا الغرض, من مهامها تنفيذ الواجبات التي تمليها خريطة الطريق, كما ستشكل هيئة أمريكية ـ فلسطينية ـ إسرائيلية؛ للتثبت من الالتزام بالخريطة المذكورة.
بالتالي فإن الوثيقة لم تضف جديدا حين تحدثت عن إطلاق مفاوضات حاصلة بالفعل (أبو مازن وأولمرت اجتمعا تسع مرات, ويلتقيان بصورة منتظمة كل أسبوعين), كما أنها لم تُشر إلى أية مرجعية للمفاوضات سوى خريطة الطريق, التي ذُكٍرت ست مرات في النص المعلن, ومن ثم تم تجاهل مبادرة السلام العربية؛ التي كانت الدول العربية قد أعلنت أن الالتزام بمرجعيتها شرط لمشاركتها في المؤتمر, وهي صفعة للعرب تلقاها الجميع في صمت.
ـ برغم الاعتراض الفلسطيني على وصف إسرائيل بأنها دولة يهودية, وهو ما تم تجنبه في وثيقة التفاهم, فإن كلا من الرئيس بوش ورئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت تحدثا في خطابيهما صراحة عن يهودية الدولة, الأمر الذي يفتح الباب على مصراعيه لنفي وطرد العرب الموجودين في إسرائيل, في حين يغلقه تماًما في وجه اللاجئين الفلسطينيين.
ـ في11/28 اعتبرت القناة الثانية في التليفزيون الإسرائيلي أن أولمرت حقق إنجازًا كبيرًا في المؤتمر, وأن الوثيقة التي أعلنها الرئيس بوش جاءت ملبية لمطالب الجناح اليميني المتطرف في الحكومة الإسرائيلية, حيث لم تكن سوى إعلان نوايا فضفاض لا يلزم إسرائيل بشيء.
ـ لم يكد أولمرت يصل إلى إسرائيل بعد المؤتمر حتى أعلن عن ثلاثة لاءات اعتبرتها الأهرام تهديدًا بنسف الوثيقة التي لم يكن قد جف مدادها بعد, حيث صرح لوسائل الإعلام بأنه لا مجال للتفاوض حول القدس, وليس هناك التزام بموعد نهائي للمفاوضات, ولن يكون هناك اتفاق قبل القضاء على كل أثر للمقاومة التي وصفها بأنها ضمن خلايا الإرهاب.
ـ موضوع الجولان تم نسيانه, ولم يعد إلى ذكره أحد, مما يعني أن الوعد بإدراجه لم يكن التزاما بقدر ما كان جزرة أريد بها جذب سوريا لحضور المؤتمر لتوفير الإجماع العربي.
(3)
بعدما أطيح بالمبادرة العربية, وتحول العرب إلى كومبارس في خلفية الصورة التي احتل أولمرت صدارتها متكئا على بوش, في حين سار وراءهما أبو مازن, فإن الفلسطينيين خرجوا مكبلين بكارثتين من العيار الثقيل هما:
* الإقرار في وثيقة التفاهم بمرجعية خريطة الطريق دون غيرها, ومن ثم إسقاط المرجعيات الأخرى بما في ذلك قرارات الأمم المتحدة, الأمر الذي ارتهن القضية كلها بالإرادة الأمريكية, ولا تنس أن الحكم في أي خلاف فلسطيني ـ إسرائيلي صار أمريكيًّا أيضًا, وله خلفية تنسيق مع الإسرائيليين.
وللعلم فإن الخريطة تتضمن ثلاث مراحل, وإسرائيل معنية بالمرحلة الأولى دون غيرها, التي تقضي بوقف العنف والتحريض عليه, مع عودة التنسيق الأمني بين الطرفين, وهو ما يعني إنهاء المقاومة وقمع معارضي الاستسلام لإسرائيل, وملاحقة الجميع من خلال التنسيق الأمني.
في هذه الحالة فإن السلطة الفلسطينية تصبح ملزمة بإعلان حرب مفتوحة على فصائل المقاومة بالتعاون مع الإسرائيليين من خلال التنسيق الأمني معهم, وهو المشهد العبثي وغير المعقول الحاصل الآن في الضفة الغربية.
وقد بدأت أولي حلقاته في نابلس, حيث قامت الأجهزة الأمنية الفلسطينية, بالتعاون مع الأجهزة الإسرائيلية بملاحقة عناصر المقاومة وتجريدها من سلاحها, قبل الذهاب إلى أنابوليس تأكيدًا لالتزام السلطة بخريطة الطريق, ولم يقف الأمر عند ذلك الحد؛ لأن القيادة الإسرائيلية قامت بتزويد السلطة ببعض الدبابات الروسية والبنادق والذخيرة؛ لتعزيز قدرتها، وإنجاح مهمة التحرير الجديدة؛ التي بدأت في النهوض بها!!.
هذا التحول المثير دفع بعض الباحثين إلى المقارنة بين ممارسات الأجهزة الأمنية الفلسطينية في ظل حكومة سلام فياض, وبين جيش لبنان الجنوبي الذي قاده أنطوان لحد, وأنشأته إسرائيل لتعزيز مصالحها الأمنية في لبنان, وقد أشار إلى هذه المقارنة الدكتور غسان الخطيب الذي تولي عدة مناصب وزارية في حكومات أبو مازن, في مذكرة أعدها بالتعاون مع بعض الباحثين الإسرائيليين, ومن هؤلاء العقيد المتقاعد داني رشيف؛ الذي كان من بين الذين أشرفوا على تشكيل جيش لبنان الجنوبي.
وفي سياق حديثيه على المقابلة بين الحالتين اللبنانية والفلسطينية قال: إن القوتين العسكريتين دُربتا وجُهزتا من جانب قوات أجنبية لمواجهة أجنحة في مجتمعها, وليس لمواجهة عدو خارجي, وهو ما يهدد شرعية أجهزة الأمن الفلسطينية؛ لأن المجتمع سينظر إليها باعتبارها تخدم العدو الأول للفلسطينيين.
* الكارثة الثانية تمثلت في تبني الوثيقة لما سمي برؤية بوش, التي أطلقها في عام 2002م، ودعا فيها إلى إقامة دولتين إحداهما إسرائيلية (خالصة لليهود), وأخرى عربية لتستوعب الفلسطينيين، ومصممة بحيث تتوافق مع المصالح الإسرائيلية, وهو ما أعلن عنه صراحة شمعون بيريز, ورددته وزيرة الخارجية تسيبي ليفني في مؤتمر الدول المانحة؛ الذي عقد في نيويورك خلال سبتمبر الماضي.
من ثم فهذه الدولة لا علاقة لها بالحلم الفلسطيني, لأنه أريد لها أن تكون حارسة للحلم الإسرائيلي, إذ هي حسب رؤية بوش ليست مستقلة ذات سيادة, لكنها كيان هلامي حدوده مؤقتة, منقوص السيادة ومنزوع السلاح, بل إنها ليست على الأرض المحتلة عام1967م، التي يؤيد الأمريكيون الموقف الإسرائيلي الرافض للعودة إلى ما وراء حدودها.
ومن أسف أن أبو مازن تحدث أكثر من مرة عن أنه يريد أن يستعيد من إسرائيل مساحة الضفة وغزة، المقدرة بـ6205 كيلومترات مربعة, ولم يربط ذلك بحدود 4 يونيو/ حزيران 67م، وألمح هو وبعض أركان السلطة إلى القبول بمبدأ تبادل الأراضي الذي يعني الإبقاء على المستوطنات في الضفة (150 مستوطنة يسكنها نصف مليون شخص، بالإضافة إلى200 بؤرة استيطانية), مقابل إعطاء الفلسطينيين مساحة مماثلة في أي مكان آخر في صحراء النقب مثلا.
وخطورة هذه الفكرة تتمثل في أمرين, أولهما أن القبول بمبدأ تبادل الأراضي التي هي جوهر الصراع يفتح الباب لتبادل السكان, ومن ثم طرد فلسطينيي 1948م؛ لتبقى إسرائيل لليهود وحدهم, والثاني أن إسرائيل التي تسرق85% من مياه الضفة, أقامت المستوطنات فوق70% من هذه المياه.
الأمر الذي يعني استمرار استئثار إسرائيل بتلك المياه, واجتماع هذين العاملين في الدولة الفلسطينية المزعومة من شأنه أن يُسهم في الإجهاز على القضية الفلسطينية وتصفيتها, وهو ما يجعل رؤية بوش معادلة في خطورتها لوعد بلفور, الذي به بدأت الكارثة الكبرى.
(4)
أخشى ما أخشاه أن تبتلع الدول العربية الطعم المخدر, وتتوهم أن بشائر السلام قد لاحت, ومن ثم تبدأ في التطبيع مع إسرائيل, ظنًّا منها أن الحل قادم في الطريق لا ريب, وهو احتمال ليس بعيدًا؛ لأن بعض العرب طرقوا هذا الباب بعد إعلان المبادرة العربية (2002)م؛ التي رفضتها إسرائيل.
حتى قرأنا تصريحًا لوزير خارجية خليجي التقى وزيرة خارجية إسرائيل قبل شهرين, وبرر لقاءه بأنه كان يحدثها في المبادرة العربية, كما أن وفدًا يمثل الجامعة العربية زار تل أبيب لأول مرة في تاريخ الجامعة, بدعوي شرح المبادرة, وإذا كان ذلك قد حدث في ظل المبادرة المرفوضة, فاحتمال حدوثه أكبر بعد إعلان الوثيقة المشبوهة التي كانت الوفود العربية من بين شهودها.