عيوب النُّطق وأثرها على النَّقل
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
إنَّ سلامة اللسان من عيوب النطق والبيان - من اللُّثْغة (العدول بحرف إلى حرف) والعِيّ (خلاف البيان، ورجل عياياء: إذا عَيَّ بالأمر والمنطق) والتمتمة (ثِقل التاء على المتكلّم والتردّد فيها) واللفف (ثِقلٌ عند الكلام، وهو أنْ يستعجل في الفاء ويلجلج فيها) والرَّتَت (الإدغام في غير موضعه، والأرتّ: الذي يُدغِم حرفا لا يُدغَم، أو حرفا في حرف) واللُّكْنَة (العِيُّ وهو ثِقَل اللسان) إلخ - من الأسباب الهامّة في التواصل المُفهِم بين المبلِّغ والسَّامع والمؤدِّي والمتلقِّي، وأداء الرسالة العلميّة أداءً صحيحا سالما، ومن آثار هذه الأهمية ما وقع من التنازع في صحّة صلاة القارىء خلف الألثغ والأرتّ ونحوهما، وفي أبواب البيوع شيء من ذلك، كما وقع من تمسُّك أبي محمد ابن حزم بحروف بعض الألفاظ وعدم العدول إلى غيرها للألثغ مثلا واكتفى منه بأنْ يأتي بما يقدر عليه فإنْ عجز جملةً قال ما يوافق المعنى، وسمّى أبو الفضل ابن حجر ذلك (جمودًا) ولكنه لم يَردّ كلام أبي محمد بما يشفي ويقنع. ثم إنَّه قد نُصَّ في بعض الشروح الحديثيّة على إمساك المحدِّث عن التحديث إذا خشيء التغيُّر في لسانه، وذلك عند إحالته المعاني الصحيحة، وتصحيفه المباني المستقيمة. ومعرفة ذلك يفتقر إلى تيقُّظ المتلقّي حتى يُحسن الوقوف على الغلط والتصحيف ثم ردّ الغلط إلى الصواب ثم معرفة سبب الغلط ومنشأه.
وللعلامة البحر: أحمد تيمور باشا، لهجات العرب.
وللدكتور سليمان بن إبراهيم العايد بحث بعنوان: من عيوب النطق: اللثغ بالراء.
وكتب التصحيف عموما مشهورة مثل كتاب التصحيف للعسكري ط. وتصحيف المحدثين / أو التصحيف وأخبار المصحّفين للدارقطني. مفقود. وتصحيح التصحيف للصفدي ط. والتطريف للسيوطي ط .. وغيرها .
وفيما يأتي أعرض بإيجاز بعض الأمثلة لمن وقع في أو روي عنه تصحيف اللسان بسبب عيب من عيوب النطق والبيان:
1- حَبَّان بن مُنقِذ / وقيل: منقذ بن عمرو:
روى القعنبيُّ ويحيى الليثي وأبو مصعب ومحمد بن الحسن وعبد الله بن يوسف وإسماعيل بن أبي أويس - وعن الأخيرين خ في صحيحه- جميعا: عن مالك.
وأخرجه البخاري أيضًا من طريق: عبد العزيز بن مسلم.
وأخرجه البخاري عن أبي نعيم الفضل بن دُكَين ومسلم من طريق وكيع؛ كلاهما عن: سفيان (هو الثوري وذكر العيني وغيره أنه ابن عيينة).
وأخرجه مسلم من طريق محمد بن جعفر، عن: شعبة؛
أربعتهم: (مالك، عبد العزيز، سفيان، شعبة) عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، قال: (ذَكَرَ رجلٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يُخدَع في البيوع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من بايعت، فقل: لا خِلابة». وللرواة عن مالك سوى ابن يوسف وإسماعيل: (فكان الرجل إذا بايع يقول: لا خلابة). ولسفيان وعبد العزيز عند البخاري: (فكان الرجل يقولُه). ولم يقل سفيان: (الرجل).
وأخرجه مسلم من طريق إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار، به، وزاد: (فكان إذا بايع يقول: «لا خِيَابَة»).
قال مسلم: سفيان وشعبة ليس في حديثهما: (فكان إذا بايع يقول: لا خيابة).
قلت: كأنّ هذه الزيادة معلّة عند البخاري (راجع أصحاب عبد الله بن دينار في شرح العلل لابن رجب).
قال المازري في المعلم 2/257: (قوله: «لا خِيابة»: أشار بعضهم إلى أنه كان ألثغ فلهذا غيَّر الكلمة).
وقال النووي في شرح مسلم: («خِيابة» هو بياء مثناة تحت بدل اللام هكذا هو في جميع النسخ).
وقال القاضي عِياض في الإكمال 5/164: («لا خِلابة» كذا هي الكلمة الأخيرة بياء باثنتين من تحتها بدل اللام عند أكثر شيوخنا في هذا الحديث فى مسلم وغيره، وهو الصحيح؛ لأنه كان أنفع). وما جاء في مطبوعة الإكمال: (لأنه كان أنفع). تصحيف، والصواب: (ألثغ).
قال القاضي في المشارق: («خِلابة» كذا هو أوله ياء باثنتين تحتها وآخره باء بواحدة وخاءه مكسورة، وكان الرجل ألثغ من شجّة في دماغه، فكان يحب أن يقول ما أمره به النبي صلى الله عليه وسلم: «لا خِلابة» فلا يطيعه لسانه).
وقال القرطبي في المُفهم: (روايتنا فيه بالياء باثنتين من تحتها مكان اللام، وهو الصحيح؛ لأنه كان ألثغ، يخرج اللام من غير مخرجها). وقال ابن حجر في الفتح: (كأنّه كان لا يفصح باللام للثغة لسانه).
قال القاضي في الإكمال 5/164: (وعبَّر بعضهم: «لا خيانة» بالنون، وهو تصحيف). وقال في المشارق: (وعند ابن أبي جعفر لبعض شيوخه: «خيانة» كالأوّل إلا أنّ آخره نون، وهو وإنْ كان صحيحًا في المعنى فهو تصحيف في الرواية).
و(ابن أبي جعفر) المذكور في المشارق، هو الإمام العلامة فقيه المغرب شيخ المالكية أبو محمد عبد الله بن أبي جعفر الخُشَنِي، حَدَّثَ عنه القاضي عياض بصحيح مسلم رواية القَلَانِسِي، بِمُرْسِيَة سنة (508 هـ)، وقد جاء عند العيني في عمدة القاري (11/233): (وعن أبي جعفر). وهو غلط صوابه ما تقدّم.
وفي بعض الروايات في غير مسلم أنه كان يقول: «لا خِذَابة» بالذال المعجمة. قال ابن قُرْقُول (وأظن كلامه في المطالع): (إنّ هذا الرجل كان ألثغ ولا يعطيه لسانه إخراج الكلام، وكان ينطق يا باثنتين من تحت، أو ذالا معجمة). قال في المشارق: (كله تغيير للّام، ولثغ في اللسان).
2- بلال رضي الله عنه، مؤذّن النبي صلى الله عليه وسلم:
روي أنَّ بلالا كان يقول: (أسهد) يجعل الشِّيْن سِيْنًا. (ذكره الشيخ أبو محمد ابن قدامة في المغني).
قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية عند حديثه عن بلال رضي الله عنه: (كان من أفصح الناس، لا كما يعتقده بعض الناس أنّ سِيْنَهُ كانت شِيْنًا، حتى إنّ بعض الناس يَروي حديثًا في ذلك لا أصل له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنَّ سِيْنَ بلالٍ عند الله شِيْنٌ»). وقال ابن كثير في البداية -أيضًا-: (ولما شُرِعَ الأذان بالمدينة كان هو الذي يؤذّن بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن أم مكتوم، يتناوبان تارة هذا وتارة هذا، وكان بلال نديّ الصوت، حسنه، فصيحا، وما يروى: «إنّ سين بلال عند الله شين» فليس له أصل). قال السخاويُّ في المقاصد الحسنة: (ولو كانت فيه لُثْغَة لتوفّرت الدّواعي على نقلها، ولَعابها أهل النّفاق والضّلال المجتهدين في التنقّص لأهل الإسلام). قال المزيُّ -فيما نقله عنه البرهان السَّفَاقُسِيُّ-: (إنه اشتهر على ألسنة العوام، ولم نره في شيء من الكتب). (ذكره الزركشي في التذكرة والسخاوي في المقاصد والقاري في الأسرار).
3- سلمان / الفارسي رضي الله عنه:
روى أبو معاوية، عن الأعمش، عن سليمان بن ميسرة، عن طارق بن شهاب، عن سلمان، قال: (دخل رجل الجنة في ذباب، ودخل رجل النار في ذباب ...) فذكره. خرّجه أحمد (العلل رواية عبد الله 2/1596) ومن طريقه الخطيب في الكفاية (برقم: 562 دِمْياطِي) وغيرهم.
قال أحمد بن حنبل: قال أبو معاوية: قال الأعمش: (دباب، يعني: أنّ سلمان كان في لسانه عُجمة). (كذا في العلل 2/1596، والكفاية بإعجام الذّال في الموضعين). قلت: الأَوْلَى بالسياق، إهمال الأُوْلى من لسان سلمان، وإعجام الثانية من حكاية الأعمش؛ ولعلّ ممّا يؤيّد ذلك أيضًا أنّ الخطيب خرّجه في باب: (اتِّباع المحدِّث على لفظه وإنْ خالف اللغة الفصيحة). والله أعلم.
وأخرج أبو نعيم في تاريخ أصبهان من طريق يعقوب الدَّوْرَقِي، ثنا معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن أبي عثمان (النَّهْدي)، أنّ سلمان: (كان لا يُفقَه كلامه من شدّة عُجمته، وكان يسمِّي الخشب خشبان). قال الذهبيُّ في السِّيَر: (تفرّد به: الثقة يعقوب الدورقي عنه، وأنكره أبو محمد بن قتيبة - أعني عُجمته - ولم يصنع شيئا، فقال: «له كلام يضارع كلام فصحاء العرب». قلت: وجود الفصاحة لا ينافي وجود العُجمة في النُّطق، كما أنّ وجود فصاحة النطق من كثير العلماء غير محصّل للإعراب ..).
4- شُعبة بن الحجَّاج:
أخرج الخطيب في التاريخ من طريق أبي عبيد الآجُرِّي قال: سمعت أبا داود قال: لما مات شعبة قال سفيان: مات الحديث. قلت له: هو أحسن حديثا من سفيان؟ فقال: ليس في الدنيا أحسن حديثا من شعبة، ومالك على القلة، والزهري أحسن الناس حديثا، وشعبة يخطئ فيما لا يضرّه ولا يُعاب عليه. يعني: في الأسماء).
ومن هذه المواضع:
أ*- قال إسحاق بن إبراهيم بن هانئ في مسائله 2/برقم: 2305: (إنَّ شعبة يقول: نُبَيْط بن شَرِيْط. قال: كان في لسانه لُثْغة، إذا أراد أن يقول: شريط، قال سييط).
قال زُهَيْر تعليقا على (شَرِيْط): (كذا في الأصل والسياق يقتضي أنْ تكون: سييط). قلت: كما قال، ثم لعلها: شييط. والله أعلم.
وفي المنتخب من: «العلل للخَلَّال» برقم: 163 طارق: (قلت لأبي عبد الله: إنَّ شعبة يقول: نُبَيْط بن شَنِيْط. قال أبو عبد الله: كان في لسانه لُثغة، أراد أن يقول: شَرِيْط، قال: شنيط). كذا بالنون، ولعل الأقرب بمثنّاة تحتيّة كما في مسائل ابن هانئ. والله أعلم.
ب*- وروى محمد بن جعفر (غُنْدَر)، حدثنا شعبة، عن خالد، عن أبي بشر العَنْبَرِي، عن ابن الثَّلِبِّ، عن أبيه: (أنَّ رجلا أعتق نصيبًا له من مملوك، فلم يضمنه النبي صلى الله عليه وسلم». خرّجه أحمد ط. عالم الكتب (7/879 وقد أهدانيها من سنوات فضيلة الشيخ المحقق محمود خليل الصَّعِيْدِي حفظه الله) وعنه أبو داود في سننه (تحفة الأشراف 2/114). وفي المسند (7/880) وبنحوه في العلل رواية عبد الله: قال أحمد: (كذا قال غُنْدَرٌ: ابن الثَّلِب، وإنما هو: ابن التَّلِب، وكان شعبة في لسانه شيء - يعني لُثْغَة - ولعلَّ غُنْدَرًا لم يَفهم عنه). وفي سنن أبي داود: (قال أحمد: «إنما هو بالتاء، يعني: التلب، وكان شعبة ألثغ لم يبيِّن التاء من الثاء»).
قلت: هذه النصوص صريحة جدا في أنّ الأصل في الرواية عن شعبة (الثلب) بالمثلثة / للثغة، وأنّ الصواب في حقيقة الأمر: التلب بالمثناة. وقد رُسِمَت في كثير من المصادر بالمثنّاة (التلب) ولعله مراعاة للصواب – وهو غير صواب -، انظر: مسند أحمد ط. الرسالة (39/508)، سنن أبي داود: تـ: عبد الحميد (4/25) ، وعوَّامة (4/357)، والمكنز (3948).
ومراعاة الصواب في هذه المسألة عَينا فيه مخالفة ظاهرة لنص أحمد المتقدِّم، وعموما فيه مخالفة لغرض المصنّف مما يعدّ خروجا عن الصواب ومراعاة للجادّة بما يخالف الجادة. والله أعلم.
وانظر:
ذكر خطأ شعبة في أسماء الرجال من خلال العلل ومعرفة الرجال
(لطيفة)
ذكر السبكي في طبقات الشافعية في ترجمة عمر بن محمد بن مسعود أبو غانم، مُلْقِي ابن سُرَيج، قال السبكي: (والمُلْقِي فيما أحسِب كالمُعِيد الآن، أَو كالقارىء على المدرِّس، أو المُسْتَمْلِي على المُمْلِي. وهو الذى كانت به لثغة يسيرة، وكان بابن سُرَيج مثلها، فلمّا انتهى إلى مسألة إمامة الألثغ استحيى أَن يقول لابن سُرَيج: هل تصح إمامتك؟ فقال: هل تصح إمامتي؟ فقال له ابن سُرَيج: نعم، وإمامتى أيضًا).
قال العلامة عُمَر رضا كحَّالة: (المُعِيد دون المدرّس، وأرقى درجة من عامّة الطلبة، وهو الذي يعيد الدروس بعد إلقاء المدرّس المحاضر على الطلبة).
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=271661