قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمة الله تعالى:
ولما أعرض كثير من أرباب الكلام والحروف، وأرباب العمل والصوت، عنالقرآن والإيمان، تجدهم في العقل على طريق كثير من المتكلمة، يجعلون العقل وحده أصلعلمهم، و يفردونه، ويجعلون الإيمان والقرآن تابعين له‏.‏
والمعقولات عندهم هي الأصول الكلية الأولية، المستغنية بنفسها عنالإيمان والقرآن‏.‏
وكثير من المتصوفة يذمون العقل ويعيبونه، ويرون أن الأحوال العالية،والمقامات الرفيعة، لا تحصل إلا مع عدمه، ويقرون من الأمور بما يكذب به صريحالعقل‏.‏
ويمدحون السكر والجنون والوله، وأمورًا من المعارف والأحوال التي لاتكون إلا مع زوال العقل والتمييز، كما يصدقون بأمور يعلم بالعقل الصريح بطلانها،ممن لم يعلم صدقه، وكلا الطرفين مذموم‏.‏
بل العقل شرط في معرفة العلوم،وكمال وصلاح الأعمال،وبه يكمل العلموالعمل، لكنه ليس مستقلا بذلك، لكنه غريزة في النفس، وقوة فيها، بمنزلة قوة البصرالتي في العين، فإن اتصل به نور الإيمان والقرآن، كان كنور العين إذا اتصل به نورالشمس والنار‏.‏
وإن انفرد بنفسه لم يبصر الأمور التي يعجز وحده عن دركها، وإن عزلبالكلية، كانت الأقوال، والأفعال مع عدمه‏:‏ أمورًا حيوانية، قد يكون فيها محبة،ووجد، وذوق كما قد يحصل للبهيمة‏.‏
فالأحوال الحاصلة مع عدم العقل ناقصة، والأقوال المخالفة للعقلباطلة‏.‏
والرسل جاءت بما يعجز العقل عن دركه، لم تأت بما يعلم بالعقلامتناعه، لكن المسرفون فيه قضوا بوجوب أشياء وجوازها، وامتناعها لحجج عقلية بزعمهماعتقدوها حقا، وهي باطل، وعارضوا بها النبوات وما جاءت به، والمعرضون عنه صدقوابأشياء باطلة، ودخلوا في أحوال، وأعمال فاسدة، وخرجوا عن التمييز الذي فضل الله بهبني آدم على غيرهم‏.‏
وقد يقترب من كل من الطائفتين بعض أهل الحديث، تارة بعزل العقل عنمحل ولايته، وتارة بمعارضة السنن به‏.‏
فهذا الانحراف الذي بين الحرفية والصوتية في العقل التمييزي بمنزلةالانحراف الذي بينهم في الوجد القلبي، فإن الصوتية صدقوا وعظموه، وأسرفوا فيه، حتىجعلوه هو الميزان، وهو الغاية، كما يفعل أولئك في العقل، والحرفية أعرضت عن ذلك،وطعنت فيه ولم تعده من صفات الكمال‏.‏
وسبب ذلك‏:‏ أن أهل الحرف لما كان مطلوبهم العلم، وبابه هو العقل،وأهل الصوت لما كان مطلوبهم العمل وبابه الحب، صار كل فريق يعظم ما يتعلق به، ويذمالآخر، مع أنه لابد من علم، وعمل؛ عقل علمي، وعمل ذهني، وحب، تمييز، وحركة‏.‏قال‏:‏ وحال حرف، وصوت، وكلاهما إذا كان موزونًا بالكتاب والسنة كان هو الصراطالمستقيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وسلم‏.‏
[مجموع الفتاوي/3]