ورود الأفكار إلى الأذهان يتسابق كزخ المطر سرعةً، وإن أردت أن تشبهها بشيء ءاخر سريع فهو وقع الرصاص في بعض بقاع الأمة الإسلامية ،، -ليس هذا موضوعنا -
الفكرة عندما ترد عليك زائرة فالواجب ضيافتها، فتسقيها من دمك وتَرويها من فِكرك ، فإن آنست منها رُشدا أحللتها عقلك وإن عجرفت لها ماتت في قبور العقل الباطن .
وإن كانت زائرة حيِيّة روّضتها حتى تعافس أخواتها فيظهر لك رونقها أو عُوارها .
فتجلس مع ذويك وتكشف لهم عن وجه فكرتك وتجلّيها لهم جلاء العروس فمن الناس من يقابل الفكرة بالفكرة ومنهم يجابهك بالصراخ وأنت بين هذا وذاك .
وهذا ظاهرة قديمة فالأطروحات لا تكاد تخلو من هذين الرجلين .
والمنطِق المتحضِّر والمبدأ المتمدِّن لا شك أنه مع الرجل الأول، وما ذاك إلا أنه يشعر بشعورك ويحاكي نغمة عقلك ويسايرك الركب ، فأنت من نعمة إلى نعمة ، فهو إما أن يقويك على فكرتك ويهذِّبها لك تهذيبا ، فيقطع فضولها ويزيِّن أطرافها ، وإما أن يزيد خُصلة على خُصلات فكرتك حتى تروق .
ولذا سن العلماء المذاكرة والمناظرة في العلم لأنها أفكار تنقّح ومبادئ تصحح، حتى إن بعضهم طلع الفجر عليه وهو مع أخيه على حاله؛ استلذاذا بما هو فيه وتحليا بما يشتهيه .
هذا المعدِن نادر ليس ندرة الكبريت الأحمر ولكنه عزيز الوجود ، وفي هذا الآن في عصر اتسع التواصل فيه صار كلٌ يبدي رأيه ويزعم أنه أبو عنتر فتعجب من ردود الأفعال ومن المقولات الغرائب ، فالإنصاف ندر وقلَّ ، وفهم الكلام بمجمله وتفصيله عزيز ورَدُّه وقلبه وبيان مشكله أعز وأعز .
فأنت بين موافق ومخالف ..
والأول على أحوال
فأحسنها أنه فقه كلامك واستحسنه وهو أهل لذلك , أو وافقك لأنه عرفك ، أو لاشتراكك وإياه في منظومة واحدة أو جماعة معينة ، أو لأنك أصل وهو فرع ، أو عدم فهمه لما قلت جعله يهز رأسه وأذنيه ويلين جانبه ، فستر بموافقتك على نفسه .
وأما المخالف فالأمور السابقة الذكر ضدها تجعله لك مخالفا .
فالصنف الأول الذي فهم الكلام وخالف لا غبار عليه ،
وأما البقية فتلك المصيبة .
وهؤلاء هم الصرخاء الذين يصرخون في وجه ما تقول ويظنون أن هذا رد عليك وإفحام .
هذه الزمرة لا كثرها الله تطفوا على السطح عند يسمعون دويا فيرتفعون بصوته ، ويذهبون بذهابه ، وعلى قدر الدوي يكون الصراخ .
فمن نعم الله عليك أن يقابلك الأول سواء أكان موافقا أم مخالفا .
ولكن كيف تميز بين هذه الأنواع وكيف تتعامل مع الذين لا يجيدون سوى الصراخ في الملتقيات أو الندوات ؟
هل إهمالك لهم سبيل ؟
أو أن الرد عليهم أحيانا يُجدي ؟
ولا مِرية أن كلا السبيلين منهج وطريق متبّع .
فإذا رأيت أن إخماد نار الخصم بالإهمال فلا تحكّه على جربه ودعه يموت بحتفه ويجدع مارن أنفه بكفه بل ولا تكلف نفسك إلقامه حجرا .. لأن غير ذلك يرفعه .
وإن طرح شبهة قد تنطلي على فئة فادحض شبهته من غير التفات إليه أو مع التفات إن التزم .. فمن رمى الشباك ظفر بالورود والأشواك .