أَسْئِلَةٌ عَنِ اْلحَجِّ وَالْصَّلَاةِ يَعْلَمُهَا
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ تُسْأَلَ
وَيُجِيْبُ عَنْهَا
عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: (كُنْتُ جَالِسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسْجِدِ الْخِيفِ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ وَرَجُلٌ مِنْ ثَقِيفٍ، فَسَلَّمَا عَلَيْهِ، وَدَعَيَا لَهُ دُعَاءً حَسَنًا)، ثُمَّ قَالا: (جِئْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ نَسْأَلُكَ). قَالَ:
«إِنْ شِئْتُمَا أَخْبَرْتُكُمَا بِمَا جِئْتُمَا تَسْأَلانِي عَنْهُ فَعَلْتُ، وَإِنْ شِئْتُمَا أَنْ أَسْكُتَ وَتَسْأَلانِي فَعَلْتُ» قَالا: (أَخْبِرْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ نَزْدَدْ إِيمَانًا، أَوْ نَزْدَدْ يَقِينًا)، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ للثَّقَفِيِّ: (سَلْ!) قَالَ: (بَلْ أَنْتَ فَسَلْهُ، فَإِنِّي لأَعْرِفُ لَكَ حَقًّا فَسَلْهُ)، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: (أَخْبِرْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ!) قَالَ:
«جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنْ مَخْرَجِكَ" =أي خروجك= "مِنْ بَيْتِكَ تَؤُمُّ =تقصد= "الْبَيْتَ الْحَرَامَ وَمَا لَكَ فِيهِ"، =من الثواب،= "وَعَنْ طَوَافِكَ بِالْبَيْتِ وَمَا لَكَ فِيهِ، وَعَنْ رَكْعَتَيْكَ بَعْدَ الطَّوَافِ وَمَا لَكَ فِيهِمَا، وَعَنْ طَوَافِكَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَمَا لَكَ فِيهِ، وَعَنْ وُقُوفِكَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ وَمَا لَكَ فِيهِ، وَعَنْ رَمْيِكَ الْجِمَارَ وَمَا لَكَ فِيهِ، وَعَنْ حِلاقِكَ رَأْسَكَ وَمَا لَكَ فِيهِ، وَعَنْ طَوَافِكَ بَعْدَ ذَلِكَ وَمَا لَكَ فِيهِ، وَعَنْ نَحْرِكَ وَمَا لَكَ فِيهِ، وَعَنِ الإِفَاضَةِ» قَالَ: (إِي وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ! عَنْ هَذَا جِئْتُ أَسْأَلُكَ)، قَالَ:
«فَإِنَّكَ إِذَا خَرَجْتَ مِنْ بَيْتِكَ تَؤُمُّ الْبَيْتَ الْحَرَامَ، لَمْ تَضَعْ نَاقَتُكَ خُفًّا وَلا رَفَعَتْهُ؛ إِلاَّ كَتَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَكَ بِهَا حَسَنَةً، وَمَحَا عَنْكَ خَطِيئَةً، وَرَفَعَ لَكَ بِهَا دَرَجَةً"، وأما اليوم فانتظارُ قرعةِ الحجِّ أعوامًا عديدة، وارتفاعُ أسعارِ تكاليف السفر، واتخاذُ التطعيماتِ اللازمةِ ضدّ الأمراضِ ونقلِ عدواها، والمتاعبُ على المعابرِ والحدودِ والمطارات، ورفعُ الأمتعةِ ووضعُها، حلَّ محلَّ ركوبِ النوق والإبل والخيل والبغال، فالدابة تضع خفها وترفعه، والطائرة تقلع من مطار وتهبط في آخر، والسيارات ترتفع صاعدة في الجبال والمرتفعات، وتنخفض منهبطة في الأودية والمنخفضات، حتى الوصول إلى بيت الله الحرام، فإذا وصلته؛ فتذكرْ خليلَ الله إبراهيمَ وابنَه إسماعيلَ اللذين بنياه ورفعا قواعده، وانظر إلى ثواب الطواف حوله.
"وَأَمَّا طَوَافُكَ بِالْبَيْتِ فَإِنَّكَ لا تَضَعُ رِجْلاً وَلا تَرْفَعُهَا؛ إِلاَّ كَتَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَكَ بِهَا حَسَنَةً، وَمَحَا عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً"، فإذا كان المشي من منـزلك إلى بيت من بيوت الله، لأداء فريضة من فرائض الله، تُرفع لك بذلك الدرجات، وتُحط عنك الخطايا، كما صح ذلك عند البخاري (2119)، مسلم (649).
وماذا لك إن صليت بعد الطواف ركعتين؟ "وَأَمَّا رَكْعَتَانِ بَعْدَ الطَّوَافِ؛ فَإِنَّهُمَا لَكَ كَعِتْقِ رَقَبَةٍ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ،" وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، كَانَ كَعِتْقِ رَقَبَةٍ». ابن ماجه (2956)
أما الْحَجَرِ الأسود؛ فإنه «نَزَلَ الحَجَرُ الأَسْوَدُ مِنَ الجَنَّةِ، وَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ فَسَوَّدَتْهُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ». الترمذي (877) الصحيحة (2618)
فـ«وَاللَّهِ؛ لَيَبْعَثَنَّهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ لَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا، وَلِسَانٌ يَنْطِقُ بِهِ، يَشْهَدُ عَلَى مَنِ اسْتَلَمَهُ بِحَقٍّ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ (961) وَابْن مَاجَه (2944)، وانظر صحيح الترغيب (1144)، ومشكاة المصابيح (2578)
وورد أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُزَاحِمُ عَلَى الرُّكْنَيْنِ =أي الحجر الأسود والركن اليماني= زِحَامًا مَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إِنَّكَ تُزَاحِمُ عَلَى الرُّكْنَيْنِ زِحَامًا مَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُزَاحِمُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِنْ أَفْعَلْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ مَسْحَهُمَا كَفَّارَةٌ لِلْخَطَايَا» ... هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. الترمذي (959) مشكاة المصابيح (2/ 793) (2580).
"وَأَمَّا سَعْيُكَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَكَعِتْقِ سَبْعِينَ رَقَبَةً،" تذكَّر بسعيك هذا؛ أمَّ العرب هاجرَ أمَّ إسماعيلَ عليه السلام حيث سعت بين الصفا والمروة سبعة أشواط، باحثةً عن الماء لطفلها الرضيع، فأغاثها الله سبحانه وتعالى بماء زمزم، فهذا السعي لما فيه من التعب والمشقة، وما فيه من الإخلاص والاتباع والاقتداء؛ كمن يعتقُ ويحرِّرُ سبعين رقبة.
فمن أراد ثواب عتق الرقاب؛ فعليه الإكثار من الحج والعمرة، والإكثار من ذكر الله تعالى، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ؛ كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ، يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ إِلاَّ رَجُلٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْهُ"، البخاري (6403)، وفي رواية: عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، قَالَ: «مَنْ قَالَ عَشْرًا، كَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ». البخاري (6404).
وكذلك إقراضُ المحتاجين؛ يعادل عتق الرقاب، عن البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ مَنَحَ مَنِيحَةَ لَبَنٍ أَوْ وَرِقٍ، أَوْ هَدَى زُقَاقًا؛ كَانَ لَهُ مِثْلَ عِتْقِ رَقَبَةٍ». .. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: «مَنْ مَنَحَ مَنِيحَةَ وَرِقٍ» إِنَّمَا يَعْنِي بِهِ: قَرْضَ الدَّرَاهِمِ، قَوْلُهُ: «أَوْ هَدَى زُقَاقًا»: يَعْنِي بِهِ هِدَايَةَ الطَّرِيقِ؛ وَهُوَ إِرْشَادُ السَّبِيلِ. الترمذي (1957)، صحيح الترغيب (898).
أيها الحاج! أيها الزائر لبيت الله الحرام! "وَأَمَّا وُقُوفُكَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَهْبِطُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيُبَاهِي بِكُمُ الْمَلائِكَةَ، يَقُولُ: ((هَؤُلاءِ عِبَادِي، أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، يَرْجُونَ رَحْمَتِي وَمَغْفِرَتِي، فَلَوْ كَانَتْ ذُنُوبُكُمْ كَعَدَدِ رَمْلِ عَالِجٍ،)) =[وَرَمْلُ عَالِجٍ جِبَالٌ مُتَوَاصِلَةٌ؛ يَتَّصِلُ أَعْلاهَا بِالدَّهْنَاءِ، وَالدَّهْنَاءُ بِقُرْبِ الْيَمَامَةِ، وَأَسْفَلُهَا بِنَجْدٍ، وَيَتَّسِعُ اتِّسَاعًا كَثِيرًا، حَتَّى قَالَ الْبَكْرِيُّ: رَمْلُ عَالِجٍ يُحِيطُ بِأَكْثَرِ أَرْضِ الْعَرَبِ]. من المصباح المنير في غريب الشرح الكبير في(علج)= ((أَوْ كَزَبَدِ الْبَحْرِ لَغَفَرْتُهَا، أَفِيضُوا عِبَادًا مَغْفُورًا لَكُمْ وَلِمَنْ شَفَعْتُمْ لَهُ))، وفي رواية: "وأما وقوفك بعرفة؛ فإن الله عزَّ وجلَّ يقول لملائكته: ((يا ملائكتي! ما جاء بعبادي؟!)) قالوا: (جاؤوا يلتمسون رضوانك والجنة). فيقول الله عز وجل: ((فإني أشهد نفسي وخلقي أني قد غفرت لهم؛ ولو كانت ذنوبهم عددَ أيامِ الدهر، وعددَ رملِ عالج))". حسنه لغيره في صحيح الترغيب (1113). وقَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ؛ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمِ الْمَلائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلاءِ؟" مسلم (1348).
ألا واعلموا رحمكم الرحمن الرحيم؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ. وَأَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ». مالك (32) عن طلحة بن عبيد بن كريز مرسلا. حسنه في صحيح الجامع (513) والصحيحة (1503).
وعرفة زمانٌ ومكان، فمكانه جبلُ نَعْمَانَ المعروفُ بعرفةَ، أو عرفاتٍ، أو جبلِ الرحمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَخَذَ اللهُ الْمِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ بِنَعْمَانَ -يَعْنِي عَرَفَةَ-؛ فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَهَا، فَنَثَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ كَالذَّرِّ، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قِبَلاً" قَالَ: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} (الأعراف: 173). مسند أحمد ط الرسالة (4/ 267) (2455)، الصحيحة (1623)، أمَّا زمانه؛ فمن ظُهر التاسعِ من شهر ذي الحجة من كل عام، وينتهي بطلوع الفجر من يوم الأضحى، فـ«الحَجُّ عَرَفَةُ، مَنْ جَاءَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الحَجَّ، ...». الترمذي (889) صحيح الجامع (3172) وانظر الإرواء (1064)، المشكاة (2714).
وعن عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ الطَّائِيُّ، قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَوْقِفِ يَعْنِي بِجَمْعٍ، قُلْتُ: جِئْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! مِنْ جَبَلِ طَيِّئٍ؛ أَكْلَلْتُ مَطِيَّتِي، وَأَتْعَبْتُ نَفْسِي، وَاللَّهِ! مَا تَرَكْتُ مِنْ حَبْلٍ إِلاَّ وَقَفْتُ عَلَيْهِ، فَهَلْ لِي مِنْ حَجٍّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَدْرَكَ مَعَنَا هَذِهِ الصَّلاةَ، وَأَتَى عَرَفَات، قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلاً أَوْ نَهَارًا؛ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وَقَضَى تَفَثَهُ». أبو داود (1950) صحيح الجامع (1978) ورمز له (حم د ن ك)، والإرواء (1066).
وقد سُئِلَ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ لغير الواقف بعرفة؟ فَقَالَ: «يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ» . مسلم (1162).
وأول الأعمال يوم عيد النحر؛ رمي الجمار ضحى، وكذلك أيام التشريق ترمى الجمار لكن بعد الزوال، فما للحاج فيها من أجر؟ قال صلى الله عليه وسلم: "وَأَمَّا رَمْيُكَ الْجِمَارَ؛ فَلَكَ بِكُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا رَمَيْتَهَا تكفيرُ كَبِيرَةٍ مِنَ الْكَبَائِرِ الْمُوبِقَاتِ الْمُوجِبَاتِ"، وفي رواية: "إذا رميت الجمار كان لك نورًا يوم القيامة". أخرجه البزار الصحيحة (2515). وفي رواية: "وَإِذَا رَمَى الْجِمَارَ؛ لا يَدْرِي أَحَدٌ مَا لَهُ حَتَّى يُوَفَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،" صحيح ابن حبان (1887)، صحيح الترغيب (1155).
"وَأَمَّا نَحْرُكَ؛ فَمَدْخُورٌ لَكَ عِنْدَ رَبِّكَ"، لم يبين قدر الأجر ليدل على عظم الثواب، فهو مدّخر لك عند الله تعالى.
وبعد الرمي والذبح يوم العيد يكون الحلق أو التقصير فما لك أيها الحاج في ذلك من الأجر والثواب. قال صلى الله تعالى عليه وسلم: "وَأَمَّا حِلاقُكَ رَأْسَكَ؛ فَبِكُلِّ شَعْرَةٍ حَلَقْتَهَا حَسَنَةٌ، وَيُمْحَى عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةٌ». قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَإِنْ كَانَتِ الذُّنُوبُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: «إِذًا يُدَّخَرُ لَكَ فِي حَسَنَاتِكَ"، أي فلا يضيع شيء عند الله سبحانه، فإما محوٌ للسيئات، أو رفعةٌ في الدرجات، أو ذخرٌ وادِّخارُ للحسنات.
ثم يأتي طاف الإفاضة، أو الركن؛ فما لَكَ إذا فعلتَه -أيُّها الحاجُّ- بإخلاص واتباع؟ "وَأَمَّا طَوَافُكَ بِالْبَيْتِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّكَ تَطُوفُ وَلا ذَنْبَ لَكَ، فَيَأْتِي مَلَكٌ حَتَّى يَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيْكَ ثُمَّ يَقُولُ: اعْمَلْ لِمَا تَسْتَقْبِلُ فَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا مَضَى».
أرأيت أيها الحاج! يأتيك "مَلَكٌ حَتَّى يَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيْكَ ثُمَّ يَقُولُ: اعْمَلْ لِمَا تَسْتَقْبِلُ فَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا مَضَى". فماذا تريد أكثر من ذلك؟ وانتهى صلى الله عليه وسلم بذلك، من الإجابة على أسئلة الأنصاري، وجاء دور الثقفي، والذي سيكون في الخطبة التالية إن شاء الله تعالى، توبوا إلى الله واستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله؛ فَقَالَ الثَّقَفِيُّ: أَخْبِرْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ! =عن أي شيء جئت أسألك؟= قَالَ: «جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الصَّلاةِ، فَإِنَّكَ إِذَا غَسَلْتَ وَجْهَكَ؛ انْتَثَرَتِ الذُّنُوبُ مِنْ أَشْفَارِ عَيْنَيْكَ"، والمسلم معرَّضٌ لمناظرَ وصورٍ قد تجلب السيئات وتورث العقوبات، فالوضوء يخففها، أو يذهبها ويزيلها.
"وَإِذَا غَسَلْتَ يَدَيْكَ؛ فَمِثْلُ ذَلِكَ انْتَثَرَتِ الذُّنُوبُ مِنْ أَظْفَارِ يَدَيْكَ"، وكذلك الأيدي قد تَبْطِشُ وتظلمُ زوجةً أو ولدا، أو حيوانا أو إنسانا، أو تلمس وتتحسَّسُ وتصافحُ نساءً لسن محارمَ ولا حليلاتٍ، فيقع في الآثام والذنوب والخطايا، فالوضوء يعين على التخلص من هذه الآثار، والتطهر من تلك الأوضار.
"فَإِذَا مَسَحْتَ بِرَأْسِكَ؛ فَمِثْلُ ذَلِكَ انْتَثَرَتِ الذُّنُوبُ عَنْ رَأْسِكَ"، والرأس تتوارد فيه الأفكار الرديئة، والوساوس الشيطانة من كفرية وشركية، فالوضوء بإخلاص يزيلُها، والاستعانة بالله تمحوها.
"فَإِذَا غَسَلْتَ رِجْلَيْكَ؛ انْتَثَرَتِ الذُّنُوبُ مِنْ أَظْفَارِ قَدَمَيْكَ"، والرِّجلان قد تنقلان المسلم إلى المحرمات، وتودي به إلى المهالك، فالوضوء سبب في تقويم سلوك المسلم، إذا علم أن له رباًّ يغفر بالوضوء أمثالَ هذه الذنوب وتلك الخطيئات.
والآن دخل وقت الفريضة، أو أردت أن تتطوع لله رب العالمين، وعلى كلٍّ؛ "فَإِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاةِ؛ فَاقْرَأْ مِنَ الْقُرْآنِ مَا تَيَسَّرَ"، وهذا بعد تكبيرة الإحرام، وقراءةِ سورة الفاتحة، "اقْرَأْ مِنَ الْقُرْآنِ مَا تَيَسَّرَ"، سواء سورة قصيرة أو طويلة، أو آيات من سورة، فالمطلوب ما تيسر من القرآن.
وبعد القراء يكون الركوع، "ثُمَّ إِذَا رَكَعْتَ؛ فَأَمْكِنْ يَدَيْكَ مِنْ رُكْبَتَيْكَ، وَافْرُجْ بَيْنَ أَصَابِعِكَ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا"، فالركوع يحتاج إلى ركن الاطمئنان، الذي هو –أي الطمأنينة- ركن في جميع أركان الصلاة. ثم يكون الرفع من الركوع والاطمئنان فيه.
ثم يكون الهوي إلى السجود، فـ"إِذَا سَجَدْتَ؛ فَأَمْكِنْ وَجْهَكَ مِنَ السُّجُودِ كُلِّهِ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا"، وذلك على السبع أعضاء؛ الوجه والكفّان والركبتان والقدمان.
وإياك أن تشغلك السرعة والعجلة، "وَلا تَنْقُرْ نَقْرًا"، كنقر الديكة والغربان، فصلاة النقارين غير صحيحة، ومردودة على أصحابها، فإن أردتَ التطوعَ والنافلةَ، وأفضلَ الأوقات؛ فابتعد عن الأوقات المكروهة، "وَصَلِّ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ وَآخِرِهِ». قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ إِنْ صَلَّيْتُ كُلَّهُ، قَالَ: «إِذًا فَأَنْتَ إِذًا أَنْتَ» الأحاديث الطوال للطبراني (ص: 320) (61)، واللفظ له، وأخبار مكة للأزرقي (2/ 5، 6)، ومسند البزار (12/ 317) (6177)، و حسنه لغيره في صحيح الترغيب والترهيب (1112) عن ابن عمر رضي الله عنهما وقال [المنذري في ترغيبه: رواه الطبراني في الكبير، والبزار ... وقال: وقد روي هذا الحديث من وجوه ولا نعلم له أحسن من هذا الطريق قال المملي رضي الله عنه: وهي طريق لا بأس بها؛ رواتها كلهم موثقون، ورواه ابن حبان في صحيحه].
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لنا ذُنُوبنا، وَقَنِّعْنا بِمَا رَزَقْتَنا، وَبَارِكْ لنا فِيهِ، وَاخْلُفْ عَلَى كُلِّ غَائِبَةٍ لِنا بِخَيْرٍ. اللَّهُمَّ إِنّا ضعفاءُ فَقَوِّ في رِضَاكَ ضَعْفنا، وَخُذْ إِلَى الْخَيْرِ بِنَواصِيَنا، وَاجْعَلِ الإِسْلامَ مُنْتَهَى رِضَائنا، اللَّهُمَّ إِنّا ضعفاءُ فَقَوِّنِا، وَإِنّا أذلاَّءُ فَأَعِزَّنا، وَإِنّا فقراءُ فَارْزُقْنِا. نَعُوذُ بِوَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ، وَكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ؛ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْءٍ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ، اللَّهُمَّ أَنْتَ تَكْشِفُ الْمَغْرَمَ وَالْمَأْثَمَ، اللَّهُمَّ لا يُخْلَفُ وَعْدُكَ, وَلا يُهْزَمُ جُنْدُكَ، وَلا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ، سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ.
اللَّهُمَّ بَارِكْ لنا فِي دِيننا الَّذِي هُوَ عِصْمَتنا، وَبَارِكْ لنا فِي دُنْيَانا الَّتِي فِيهَا بَلاغنا، وَبَارِكْ لنا فِي آخِرَتنا الَّتِي إِلَيْهَا مَصِيرنا، وَاجْعَلْ حَيَاتنا- مَا أَحْيَيْتَنا- زِيَادَةً فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلْ وَفَاتنا -إِذَا تَوَفَّيْتَنا- رَاحَةً مِنْ كُلِّ شَرٍّ.
اللَّهُمَّ احْفَظْنا بِالإِسْلامِ قَائِمين، وَاحْفَظْنا بِالإِسْلامِ قَاعِدين، وَاحْفَظْنا بِالإِسْلامِ رَاقِدين، وَلا تُطِمعْ فِيَّ عَدُوًّا حَاسِدًا، وَنَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي كُلُّهُ بِيَدِكَ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْءٍ, أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 102). أيها الناس! كونوا من {الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} (النساء: 146، 147) أيها المسلم! {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} (العنكبوت: 45)
كتب وخطب ونقل من المظان/ أبو المنذر فؤاد بن يوسف أبو سعيد
مسجد الزعفران- الوسطى- غزة- فلسطين
الثاني من ذي القعدة 1432 هلالية وفق 30 سبتمبر 2011 شمسية
للتواصل مع الشيخ عبر البريد الالكتروني: zafran57@hotmail.com