تحفةُ الأحوذي بشرح " جامع الترمذي " .
للإمام الحافظ / أبي العلا محمد بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري ( 1353 هـ ) .
(رقمُ الفائدة – رقم الصفحة )
معرفة المسنِد ، والحافظ ، والمحدّث
( 1 / 8 -9 –10) حدُّ المسـنِد : من يرويْ الحديثَ بإسنادِه ، سواء كان عندهُ علمٌ به ، أو ليس له إلا مجرد الرواية ، وعن مالكٍ أنّه قال : لا يؤخذ عن مبتدعٍ يدعو إلى بدعة ، ولا عن سفيهٍ يعلن بالسفه ، ولا عمن يكذبُ في أحاديث الناس ، وإن كان يصدق في حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا عمن يعرف في هذا الشأن .
قال الشيخ فتح الدين بن سيد الناس : وأما المحدّث في عصرنا ، فهوَ من اشتغلَ بالحديثِ روايةً ، ودرايةً ، واطلع على كثيرٍ من الروايات والرواة في عصره ، واشتهر فيه ضبطه ، فإن توسع حتى عرفَ شيوخه ، وشيخ شيوخه ، طبقة بعد طبقة ، بحيث ما يكون ما يعرفه في كل طبقة أكثر مما يجهل فهو الحافظ ، وقال غيره : إن ذلك يختلف باختلاف الأزمان
وقيل الحافظ : من أحاط بـ مائة ألف حديث ، وقيل الحجة : من أحاط بـ ثلاثمائة حديث والحاكم :من أحاط علمه بجميع الأحاديث المروية سندًا ومتنًا ، وجرحاً وتعديلاً ، وتاريخًا .
فضل علم الحديثِ وأهله
( 2 / 11 ) لولاهُ لقالَ من شاءَ ما شاءَ ، وخبَطَ النّاسُ خبطَ عشواءَ ، وركبوا متنَ عمـياءَ ، ويا له من علمٍ نيط بدمه الحق والهدى ، ونيط بعنقه الفوز بالدرجات العلى {أهلِ الحديث همُ أهل النبي وإن – لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا}
الحديث الأول : قال رسول الله صلى عليه وسلم { أولى النّاسِ بي يومَ القيامةِ أكثرُهم عليَّ صلاةً } يصلون قولًا وفعلًا
الحديثُ الثاني : عن ابنِ مسعودٍ مرفوعًا { نضّر الله امرءا سمعَ منّي شيئا فبلّغه كما سمعه ، فربّ مبلّغ أوعى له من سامع}
قال القاضي أبو بكر بن العربي : قال علماء الحديث : ما منْ رجلٍ يطلبُ الحديثَ إلا كان على وجهه نضرة لحديث...
الحديث الثالث : عن ابن عباسٍ مرفوعا { اللهم ارحمْ خلفائي ، قلنا يا رسول الله ومن خلفاؤك ؟ قال : الذين يروون أحاديثي ويعلمونها النّاس }
الحديثُ الرابع : عن إبراهيم العذري مرفوعًا { يحملُ هذا العلمَِ من كلّ خلفٍ عدولُه ، ينفونَ عنهُ تحريفَ الغالين ، وانتحالَ المبطِلين ، وتأويل الجاهلين } ضعف طرقها كلها الدارقطني ، وابن عبد البر ، لكن جزم العلائي بحسنه لطرقه .
الحديث الخامس : عن معاوية بن قرة عنْ أبيه مرفوعا { إذا فسد أهلُ الشامِ فلا خيرَ فيكم ، لا تزال طائفة من أمتي منصورين ، لا يضرّهم من خذلهم حتى تقوم الساعة } قال الترمذي : حسنٌ صحيحٌ ، وقال ابن المديني:أصحابُ الحديث
فيما يتعلق بتدوين الحديث
( 3 / 22 ) آثارُ النبي صلى الله عليه وسلم لم تكنْ في عصرِه ولا في عصر الصحابةِ وتبعهم مدونة ومرتبة لوجهين :
أحدهما : أنّهم قد نُهوا عنه في ابتداء الحال ، خشيةَ أن يختلطَ بعضه بالقرآن العظيم .
الثاني : سعةُ حفظهم ، وسيلان أذهانهم ، ولأن أكثرهم لم يعرف الكتابة ثم حديث في آخر عصر التابعين التدوين .
قلتُ : وراجع الكلام على هذا الفصل في تلخيص " المنهاج " للنووي ، فلا حاجة للتكرار!
وما يدلُّ أنَّ بعضهم كان يكتب ما ورد عن عبد الله بن عمرو { اكتبْ ! فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا الحق }
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم { اكتبوا لأبي شاة } وحفظُ أبي هريرة رضي اللهُ عنه ، ولم يكن ينس! وصحيفة ابن حزم ، وصحيفة أبي بكر في " الزكاة " .
ويجمع بينهما : أنّ النهي خاصٌّ وقتَ نزولِ القرآن ، أو نسخ الإذن للنهي ، أو النهي خاص لمن يلتبس عليه .
حملةُ العلمِ في الإسلامِ أكثرُهم من العجم
( 4 / 38 ) كان صاحبُ صناعة النحو ( سيبـويه والزجّاج والفارسي ) وكلهم عجمٌ ، وكذلك حملةُ الحديث ، وعلماءُ أصولِ الفقه ، وأكثرُ المفسرين ، إذْ العرب قد أشغلتهم الرياسة في الدولة العباسية .
وراجعْ مقدَّمة ابنِ الصلاح :
روينا عن ( الزهري ) قال : قدمت على ( عبد الملك بن مروان ) فقال : من أين قدمت يا زهري ؟ قلت : من مكة . قال : فمن خلفت بها يسود أهلها ؟ قلت : ( عطاء بن أبي رباح ) . قال : فمن العرب أم من الموالي ؟ قال : قلت : من الموالي . قال : وبم سادهم ؟ قلت : بالديانة والرواية . قال : إن أهل الديانة الرواية لينبغي أن يسودوا . قال : فمن يسود أهل اليمن ؟ قال : قلت : ( طاووس بن كيسان ) . قال : فمن العرب أم من الموالي ؟ قال : قلت : من الموالي . قال : وبم سادهم ؟ قلت : بما سادهم به عطاء . قال : إنه لينبغي . قال : فمن يسود أهل مصر ؟ قال : قلت : ( يزيد بن أبي حبيب ) . قال : فمن العرب أم من الموالي ؟ قال : قلت : من الموالي . قال : فمن يسود أهل الشام ؟ قال : قلت : مكحول . قال : فمن العرب أم من الموالي ؟ قال : قلت : من الموالي عبد نوبي أعتقته امرأة من هذيل . قال : فمن يسود أهل الجزيرة ؟ قلت : ( ميمون بن مهران ) . قال : فمن العرب أم من الموالي ؟ قال : قلت : من الموالي . قال : فمن يسود أهل خراسان ؟ قال : قلت : ( الضحاك بن مزاحم ) . قال : فمن العرب أم من الموالي ؟ قال : قلت : من الموالي . قال : فمن يسود أهل البصرة ؟ قال : قلت : ( الحسن بن أبي الحسن ) . قال : فمن العرب أم من الموالي ؟ قال : قلت : من الموالي . قال : ويلك فمن يسود أهل الكوفة ؟ قال : قلت : ( إبراهيم النخعي ) . قال : فمن العرب أم من الموالي ؟ قال : قلت : من العرب . قال : ويلك يا زهري فرجت عني والله لتسودن الموالي على العرب حتى يخطب لها على المنابر والعرب تحتها . قال : قلت : يا أمير المؤمنين ؟ إنما هو أمر الله ودينه من حفظه ساد ومن ضيعه سقط
وفيما نرويه عن ( عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ) قال : لما مات العبادلة صار الفقه في جميع البلدان إلى الموالي إلا المدينة فإن الله خصها بقرشي فكان فقيه أهل المدينة ( سعيد بن المسيب ) غير مدافع
( 245 ) قلت : وفي هذا بعض الميل فقد كان حينئذ من العرب غير ( ابن المسيب ) فقهاء أئمة مشاهير منهم ( الشعبي والنخعي ) وجميع الفقهاء السبعة الذين منهم ( ابن المسيب ) عرب إلا ( سليمان بن يسار ) والله أعلم
طبقات الكتب الحديثية
( 5 / 44 – 45 ) الطبقةُ الأولى : الموطأ ، والصحيـحانُ ، فقد اتفـقَ المحدثون على أنّ جميعَ ما فيهما من المتصل المرفوع صحيحٌ بالقطع ، وأنهما متواتران إلى مصنّفيهما ، واستدركَ عليه الحاكم ، وأصاب بعضًا ، وأخطأ بعضًا ، لكن الشيخان لا يقولان بكثيرٍ ما يقوله الحاكم ، وأما الموطأ فكله صحيحٌ على رأيِهِ ، وأما قول غيره فإنه لا يوجد مرسل ومنقطعٌ إلا قد اتصلَ به السند من طرقٍ أخرى ، فلا جرم أنها صحيحةٌ من هذا الوجه .
الطبقةُ الثانيةُ : كتبٌ لم تبلغ درجة الموطأ والصحيحين ، ولكن أهلها معروفون بالتبحر والعدالة ، كسنن أبي داود ، وجامع الترمذي ، ومجتبى النسائي .
الطبقةُ الثالثةُ : مسانيد وجوامع ومصنفات ، صنفت قبل البخاري ومسلم وزمنهما ، وبعدهما ، جمعت بين الصحيح والحسن والضعيف ، ولم يفحصْ عن صحتها وسقمهما المحدثون كثير فحْصٍ ، كمصنّف عبد الرزاق وابن أبي شيبة ، ومسند عبد بن حميد ، وأبي داود الطيالسي ، وكتب البيهقي ، والطحاوي ، والطبراني ، وكان مقصودهم الجمع!
الطبقةُ الرابعةُ : قصد مصنّفوها بعد قرون متطاولة ، جمع ما لو يوجد في الطبقتين الأوليين ، وكانتْ على ألسنةِ من لم يكتبْ حديثه المحدثون ، ككثيرٍ من الوعّاظ المتشدقين ، والضعفاء ، والحكماء ، وأخبار بني إسرائيل ، ومظنّة هذه الأحاديث كتاب " الضعفاء " لابن حبان و " الكامل " لابن عدي وكتب الخطيب وأبي نعيم وابن عساكر وابن النجار والديلمي ، وأصلح هذه الطبقة ما كان ضعيفًا محتمِلًا ، وأسؤها ما كان موضوعًا شديد النكارة .
الطبقةُ الخامسةُ : ما اشتهرَ على ألسنةِ الفقهاء والمؤرخين والصوفية ، وليس له أصل في هذه الطبقات الأربع ، ومنها ما دسّه الماجن في دينه ، والعالم بلسانه .
أما الطبقة الأولى والثانية : فعليها اعتماد المحدّثين ، وحوم حماها مرتفعهم ومسرحهم ، وأما الثالثة : فلا يباشرها للعمل فيها والقول بها إلا النحارير والجهابذة الذين يحفظون أسماء الرجال ، وعلل الأحاديث ، وربما أخذت المتابعات والشواهد وأما الرابعة : فالاشتغال بجمعها ، أو الاستنـباط منها نوعُ تعمّق من المتأخرين .