المطلب الثالث: بيان أنه محور الخصومة بين الرسل وأممهم
قلنا في المرة السابقة آية الميثاق في سورة ، الأعراف ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ وأن حقيقة هذا أنه كان ميثاقًا حقيقيًا مسح الله ظهر آدم بيده وأخرج كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة على هيئة الذر – أي النمل- واستنطقهم ﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا﴾ أثر هذا الميثاق الفطرة، والفطرة قوة في النفس تستلزم الإسلام بذاتها ما لم يمنع منها مانع.
عندما يأتي الرسل إلى أقوامهم بعد أن انحرفوا عن الجادة خرجوا عن الطريق فالناس أمام دعوة الرسل فريقان:
الفريق الأول: فريق مازالت فطرته مستقيمة لم تتلوث شبهنا الفطرة هذه بمؤشر الراديو المنضبط على إذاعة القرآن مجرد أن تقوم بتشغيل الراديو، سوف يستقبل إذاعة القرآن الكريم مباشرة، كذلك يوجد بعض الناس فطرته سوية،لم يحدث لها أي تشوه بمجرد أن يأتي النبي أو الرسول صلى الله عليهم أجمعين يقول لهم ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ يدعوهم إلى مكارم الأخلاق يدعوهم إلى الإحسان، يدعوهم إلى نبذ المنكرات، الخاصة بكل قوم فهؤلاء يسارعون إلى الإيمان، .
الصنف الثاني :فريق طُمست فطرته، وتحولت، المؤشر الخاص به تحول عن مكانه فيأتي الرسل بالبينات،أي آيات واضحة وضوح الشمس أي إنسان عاقل يرى هذه الآيات البينات يعلم أن من بُعث بها معه أمر خارق للعادة فيصدقه فيما يدعيه من النبوة،فيكذبوهم ،فيقولون لهم: هذه الآيات البينات يضرب الصخرة كما حدث مع صالح u فتنشق عن الناقة، وهذه الناقة ﴿لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ﴾ [الشعراء: 155] تشرب ماء وتعطيكم لبن ،أمر معجز وأمام الناس ماذا تنتظرون؟ فمن الناس ممن رأوا الآيات البينات ، يرى الحقيقة الواضحة أمام عينيه ،فالله سبحانه وتعالى لا يظلم الناس شيئا عذاب النار أليم،و شديد وإذا حكم الله على إنسان نسأل الله السلامة بأنه خالدٌ مخلدٌ في النار هو يستحق ذلك فما المصيبة التي فعلها هذا المشرك ؟أتته الآيات البينات واضحة وضوح الشمس أن هذا الرجل الذي يدَّعي أنه نبي أو رسول هو فعلا نبي أو رسول وأنه يبلغ عن ربه ويخاطب فيه فطرته،يظل معه، حتى يعيد المؤشر للاستقبال في الوضع الصحيح، والمؤشر يستقبل ويشاهد آيات بينات أمام عينيه،ثم يكون هناك أمراض، وأغراض إما الكبر، وإما الحسد، ، يقول الله U على فرعون ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْ هَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ [النمل: 14]. فالله U كان يعبد في الأرض فعندما يقول لموسىu: كلامك صحيح وفعلا هو رب العالمين ،ضاعت منه هذه العبادة التي كان يعبدها في الأرض كان يقولوا ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ [القصص: 38]. فيمنعه هذا من الإيمان، وهكذا بعض الناس الكبر، بعض الناس الحسد، بعض الناس الظلم، وهكذا، قصة حيي بن أخطب والد السيدة صفية رضي الله عنها وأرضاه صفية بنت حيي، والد السيدة صفية رضى الله عنها وأرضاها وقصة أخيه أبي ياسر لما ذهب ولقي النبي r فقال له: أهو أهو، قال: هو هو، هذا هو، هو ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾ [البقرة: 146]. مالحل ﴿وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ﴾ فهذه نقطة هو هو فماذا تفعل؟ قال عداوته ما بقيت، سبحان الله قصة إسلام عبد الله بن سلام لما لقي النبي r وأسلم وأخفاه خلف الجدار أو الستار، وقال ما تقولون في عبد الله بن سلام، قالوا: سيدنا وابن سيدنا وحبرنا وابن حبرنا إلى آخر قصص اليهود المعروفة وفي النهاية أن أسلم حاشاه أن يسلم، فخرج وقال اشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله اتقوا الله يا معشر يهود فإنه النبي الذين تعلمون، قالوا: شرنا وابن شرنا.
تتصور معي المصيبة التي فعلها هذا المشرك كي يستحق الخلود في النار، هو يُكّذِّب، و بعض الناس يُعرِض ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ﴾ [الأحقاف: 3]. ففطرته غير مستقيمة، وأتى من يقول ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾فيعرض عنه تمامًا ورضًا بما هو عليه من كفر، أتته الحجة فلما يستمع إليها، ولم يلتفت إليها فهذا نوع من أنواع الكفر كفر الأعراض وغير من أنواع الكفر المشهورة،فالرسل كانوا يأتون أقوامهم ويقولون لهم هذه المقولة ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ ثم يقيمون عليهم الحجج والبينات، بالحجج والجدال باللسان وبالآيات البينات المعجزات كانت الخصومة كلها والعداء كله هنا لأن لم يكن يوجد أحد ينازع الرسل في أن الله هو خالق السماوات والأرض كل النزاع كان في أنه يعبد وحده .
(تقدم أن توحيد العبادة هو مفتتح دعوات الرسل جميعهم، فمـا مـن رسول بعثه الله إلا وكان أول ما يدعو قومه إليه هو توحيد الله، ولذا كانت الخصومة بين الأنبياء وأقوامهم في ذلك، فالأنبياء يدعونهم إلى توحيـد الله وإخلاص العبادة له، والأقوام يصرون على البقاء على الشرك وعبادة الأوثان إلا من هداه الله منهم.
*قال الله تعالى عن قوم نوح u: ﴿ وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ ولَا تَذَرُنَّ وَدًّا ولَا سُوَاعًا ولَا يَغُوثَ وَيعُوقَ وَنَسْرًا* وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا ولَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا﴾ [نوح: 23-24]،يوصوا بعضهم البعض﴿لَا تَذَرُنَّ ﴾– أي لا تتركون آلهتكم، وقلنا كما قال ابن منظور في لسان العرب: والآلهة الأصنام وهي أسماء بحسب ما يسمونها ويعتقدونها
*(وقال عن قوم هود u: ﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ [الأحقاف: 22]،فالخصومة في إفراد الله وحده بالعبادة.
(﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾
﴿ قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [هود: 53].وقال عن قوم صالح u: ﴿ قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾ [هود: 62].
وقال عن قوم شعيب u: ﴿ قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾ [هود: 87].
وقال عن كفـار قريـش: ﴿ وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا﴾) فأبو جهل وأبو لهب ومشركي قريش كانوا يفهمون تماما معنى لا إله إلا الله ،ومع ذلك كانوا يرفضونها﴿ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ فماذا فعلوا؟ ﴿وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ﴾ دائما فكل المصائب مصدرها الملأ والمراد بهم،علية القوم وسموا ملأ لأنهم يملئون النفس والعين مهابة وإجلالا ،وهؤلاء الذين عندهم موانع تمنعهم من اتباع الرسل ، لكن الفقراء والعبيد، والناس الذين لا يوجد عندهم كبر، ولا عندهم موانع دنيوية تمنعهم من أنهم يلزمون الشريعة، يلزمونها ، لكن الملأ هم المصيبة ﴿وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ﴾ هم الذين يحركون الأحداث كلها .
(﴿وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ﴾) وهذه الآية يُعير بها أهل الحق الذين يكسلون عن الحق والذين يُضعفون عن حمل الأمانة، والذين لا يقومون بحق الله فيه،فأهل الباطل يتواصون ﴿أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ﴾ أصبروا أي تجرعوا المرارة، تكلفوا المشقة، تكبدوا الخسائر من أجل آلهتكم ﴿ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ﴾ فما بال أهل الحق يضعفون عن حمل الحق ، ما بال أهل الحق ينشغلون بغير الحق الذين اصطفاه الله سبحانه وتعالى وأكرمه وهداه إلى الحق لماذا لا يُقاتل دونه؟ الله المستعان.
(﴿وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ﴾ [ص: 4- 7].
وقـال: ﴿ وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا﴾ أقول: كل من يرى هذا الاستهزاء بالدين وبسنة سيد المرسلين r والاستهزاء بأهل الدين فليعلم أنها سنة ماضية، الله U يقول لنبيه ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام: 33].﴿وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ﴾ [القلم: 51]. فالنبي r سيد العقلاء، وسيد الحكماء يُوصف بالجنون، ويرمى بالكذب، ويُرمى بالسحر والكهانة فهذا فيه تسلية لأتباع النبي r ﴿ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ﴾ [المطففين: 29].
(﴿وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا * إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾) هذا هو الوقود الذي يتزود به المرء في حال الغربة، وفي حال الصراع مع الباطل وقود استحضار الآخرة وأن إلى الله المصير، وإليه يرجع الأمر كله سبحانه وتعالى، وإلى الله ترجع الأمور، إليه المصير كل يذهب إلى الله U
إِلَى دَيَّان يَوْم الْدِّيْن نَمْضِي
وَعِنْد الْلَّه تَجْتَمِع الْخُصُوْم
(﴿ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾ [الفرقان: 41- 44].
فهذه النصوص وما جاء في معناها تدل أوضح دلالـة أن المعـترك والخصومة بين الأنبياء وأقوامهم إنما كان حول توحيد العبادة والدعـوة إلى إخلاص الدين لله.
وقد ثبت في الصحيح أن النبيr قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيمـوا الصـلاة، ويؤتـوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم، وأموالهم، إلا بحـق الإسـلام وحسابهم على الله».
وثبت في الصحيح أيضا عن النبيr قال: «من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرُم ماله ودمه وحسابه على الله».
نقول الآيات تدل على أن المعترك والخصومة بين الأنبياء وقومهم هو حول توحيد العبادة والدعوة إلى الإخلاص إلى دين الله، وأيضًا الخصومة بين أتباع النبي وبين خصومهم في هذه القضية هم الآن يختصمون أهل الدين، وأهل السنة الذين يريدون أن يقولوا ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ ﴾ [آل عمران: 85]، يريدون أن يبدلوا كلام الله،فمن يبتغ غير الإسلام دينا يقبل منه، أهل السنة وأهل الدين يقولون لا يُتحاكم إلا لله، التحاكم عبادة لا تُصرف إلا لله وحده يعلمون يقين أن الله U سمى من يحكم بغير ما أنزل الله، وما يتحاكم من غير الله طاغوت، وأن من يقول أنه مؤمن ويتحاكم إلى الطاغوت فهذا زعمٌ كاذب ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ [النساء: 60] المعركة الأساسية محاولة التحاكم للطاغوت وإصباغ الشرعية على هذا الطاغوت وأن يتحاكم إليه الناس من دون الله سمي هذا الطاغوت، الطاغوت الليبرالي أو العلماني أو الديمقراطي، أو المدني كلها أسماء لا تُغني عن الحقائق شيئا ولا تبدل الحقائق ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ﴾ هذا زعم كاذب ﴿ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا﴾ [النساء: 60، 61].
آيات تنطق وكأنها نزلت هذه الأيام والله كل برامج التوك شو الذين يصدون صدودا عن الشريعة ويخوفون الناس منها، ويخوفون الناس من أهل الدين هؤلاء قال الله U فيهم ﴿رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا﴾ الذي سماهم خالقهم سبحانه وتعالى خذ وصفهم من خالقهم ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: 14]. ﴿رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا﴾ كل من صد عن الدين أو صد عن السنة أو خوف من الشريعة أو صد عن إعلاء التوحيد أو أراد تسوية أهل الإيمان بأهل الكفر فهذا حكم ربه عليه وسماه منافق، وكل من رضي بالطاغوت حاكمًا ومشرعًا يتحكم إليه لنيل حقه ويصبغ عليه القوانين الإلزامية فهذا أخبر ربه وخالقه عنه أن زعمه بالإيمان كاذب، وإن هذا إيمان كاذب لا ينفع شيئا.
المبحث الثاني: وجوب إفراد الله بالعبادة، وتحته مطالب
المطلب الأول: معنى العبادة والأصول التي تُبنى عليها.
العبادة في اللغة معناها: الخضوع والذل، يقال: (بعير معبد)، أي: مذلل)، تقوده بسهولة (ويقال و(طريـق معبد): إذا كان مذللا قد وطئته الأقدام)، فطريق مذلل لا توجد فيه أي صعوبات و لا عوائق ولا أمور ناشذة .
تطلق العبادة على شيئين:
الإطلاق الأول: على الفعل الذي هو التعبد الذي هو فعل المكلف.
الإطلاق الثاني: على المفعول الذي هو المتعبد به أو القُربة.
فالفعل الذي هو التعبد الذي هو فعل المكلف لو أحبينا نعرف العبادة بهذا الإطلاق يكون تعريفها :ما قاله ابن القيم: (كمال المحبة مع كمال الذل)، وقال:
وَعِبَادَة الْرَّحْمَن غَايَة حُبِّه
مَع ذَل عَابِدِه هُما قَطْبَانِ
إذا لو عرفنا العبادة باعتبار الفعل الذي هو فعل المكلف ،كمال حب المكلف لله U مع كمال ذله له U وهذا تعريف رائق لأنك قد تحب شخص ولكن لا تذل له تفعل كل ما يقول لك وتترك كل ما ينهاك عنه ولكن لأنك تحبه فقط، وقد تخضع لإنسان أو لشخص وتذل له فتفعل ما يأمرك به وتترك ما ينهاك عنه لأنك تخاف منه فقط أما في حق رب العالمين فالعبادة تجمع المعنيين فلابد أن تحبه غاية الحب، وأن تخضع له وتذل غاية الذل، كمال الحب مع كمال الذل.
وَعِبَادَة الْرَّحْمَن غَايَة حُبِّه
مَع ذَل عَابِدِه هُما قَطْبَانِ
وأيضا ذكر الشيخ السعدي هذا المعنى وقال: العبادة روحها وحقيقتها تحقيق الحب والخضوع لله فالحب التام، والخضوع التام لله U هو حقيقة العبادة فمتى خلت العبادة عن أحد هذين الأمرين أو من أحدهما فليست عبادة فإن حقيقتها الذل والانكسار لله ولا يكون إلا مع محبته المحبة التامة التي هي أصل المحب كلها.
تعريف العبادة بالإطلاق الثاني: أنها تطلق على المفعول الذي هو المتعبد به أو القُربة كما في تعريف ابن تيمية: (هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمـال الظاهرة والباطنة).
وهي تبنى على ثلاثة أركان:
الأول: كمال الحب للمعبود سبحانه، كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ﴾ [البقرة: 165].
الثاني: كمال الرجاء، كما قال تعالى: ﴿وَيرْجُونَ رَحْمَتَهُ﴾ [الإسراء: 57].
الثالث: كمال الخوف من الله سبحانه، كما قـال تعـالى: ﴿ وَيخَافُونَ عَذَابَهُ﴾ [الإسراء: 57]. ولذلك قالوا أن العبادة عند أهل السنة طائر له جناحان رأسه المحبة، وجناح في الخوف، وجناح في الرجاء،فلكي يحلق الطائر لابد من الرأس والجناحين ،المحبة، والخوف، والرجاء.
(وقد جمع الله سبحانه بين هذه الأركان الثلاثة العظيمة في فاتحة الكتـاب في قوله سبحانه: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: 2- 4]، فالآية الأولى فيها المحبة؛ فإن الله منعم، والمنعم يُحبُّ علـى قـدر إنعامه، والآية الثانية فيها الرجاء، فالمتصف بالرحمة ترجى رحمتـه، والآية الثالثة فيها الخوف، فمالك الجزاء والحساب يخاف عذابه.
ولهذا قال تعالى عقب ذلك: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾) بعد ما يحلق الواحد منا مع آية محبة، وآية رجاء، وآية خوف،فيعلن العبودية لله U مباشرة بالاستعانة باللهU ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾،كيف يستقيم على هذه العبودية وفيها مشاق يستعين بالله U ب﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ .
(أي: أعبدك يا رب هـذه الثلاث: بمحبتك التي دل عليها: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ﴾، ورجائك الـذي دل عليه:﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، وخوفـك الـذي دل عليـه: ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾.
والعبادة لا تقبل إلا بشرطين:
1 - الإخلاص فيها للمعبود؛ فإن الله لا يقبل من العمل إلا الخـالص لوجهه سبحانه وتعالى، قال: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [البينة: 5]، وقَال تعالى: ﴿أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾ [الزمر: 3]، وقال تعـالى: ﴿قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي﴾ [الزمر: 14].
2 - المتابعة للرسول r؛ فإن الله لا يقبل من العمل إلا الموافق لهدي الرسولr قال الله تعالى: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ [الحشر: 7]، وقَال تعالى: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65].
وقولهr «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فـهو رد» (أي مردود عليه).
فلا عبرة بالعمل ما لم يكـن خالصا لله صوابا على سنة رسـول اللهr).
مثال ذلك: الصلاة عبادة حتى تقبل هذه الصلاة وتكون عند الله U نافعة ومؤتيه لثمرتها ، تبرأ بها ذمتك، وتؤتى ثوابها، ماذا يحدث؟
أولاً:تخلص في نيتك وأنت تصلي أي تتوجه بهذه الصلاة لله U فمن صلى لغير الله حبطت صلاته،.
ثانيا: المتابعة أن تصلي كما أمر النبي r وكما شرع.
إذًا لابد من الإخلاص، والمتابعة لهدي النبي r، وهذا في كل أمور الدين كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (جماع الدين أصلان ألا نعبد إلا الله، وأن نعبد الله بما شرع على لسان نبيه r).
الأصل الأول:ألا نعبد إلا الله وحده.
الأصل الثاني: ولا نعبده إلا بما شرع، قال وهذا هو تحقيق الشهادتين، شهادة لا إله إلا الله ،وشهادة أن محمد رسول الله أي: نعبده بما شرع على لسان نبيه r.
ولذلك في الأثر عن فضيل الذي هو ذكر هنا في قوله تعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الملك: 2]:قالوا: وما أحسن العمل ؟ قال: «أخلصه وأصوبه»، قيل: وما أخلصـه وأصوبه؟ قال:«إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبـل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا، والخالص مـا كان لله، والصواب ما كان على السنة»
ومن الآيات الجامعة لهذين الشرطين قوله تعالى في آخر سورة الكهف: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا ولَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110].
أهمية هذين الشرطين :
1- أن الله U أمر بإخلاص العبادة له، وأخبر عن بطلان كل ما لغيره.
2- اختص الله U نفسه بالتشريع فمن لم يتابع النبي r جعل غير الله مشرعا.
3- أن الله أنكر على من شرع بغير تشريعه فقال ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ﴾ [الشورى: 21].
4- أن من لم يتابع النبي r يقول بعدم كمال الدين، والله U يقول: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ [المائدة: 3].
5- أن من لم يتابع النبي r ويجعل هناك طريقا واحد للوصول إلى الله يجعل مسوغ لكل واحد من البشر أن يكون له طريق خاص به، وهذا يؤدي إلى التناحر ويحول حياة البشر إلى جحيم، فحياة الناس لا تستقيم إلا إذا كان لهم طريق واحد يسيرون عليه.
6- أن من ترك إتباع النبي r حكم بأن الناس لا يحتاجون إلى أنبياء أو رسل يعرفونهم طريق الله U.
هذا والحمد لله رب العالمين، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
نسألكم الدعاء أختكم أم محمد الظن
http://iti.s146.com/play.php?catsmktba=69
رابط الصوت للدرس الثالث