تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: العقيدة ومظاهرها وآثارها في الحياة للشيخ عبد الرحمن الدوسري

  1. #1

    افتراضي العقيدة ومظاهرها وآثارها في الحياة للشيخ عبد الرحمن الدوسري

    العقيدة ومظاهرها وآثارها في الحياة
    للشيخ عبد الرحمن الدوسري


    تحقيق القيام بعبودية الله كما أمر, يقي أهله القائمين به من الهزيمتين الفظيعتين المرديتين الجاعلتين أهلهما في مصاف البهائم المسيرة طيلة الحياة, بل أحط من ذلك وأنكى, وهما الهزيمة النفسية والهزيمة الفكرية, فإنهما أخطر وأفظع من كل هزيمة عسكرية, ذلك أن الهزيمة العسكرية تدمي قلوب الرجال, وتذكي فيهم روح النقمة, وتكشف لهم ما في صفوفهم من خليط النفاق, ومرض الجبن والإرجاف, إذا سلمت نفوسهم من سكر الشهوة والهوى, وسلمت عقولهم من مؤثرات الإيهام والتضليل, وقلب الحقائق وفساد التصور الناشئ من الغزو الفكري الذي هو دعامة الحراب اليهودية وأعوانها من شياطين الإنس ودجاجلتها وجلاديها, ولا تسلم عقولهم من ذلك حتى تطهر من محبة أولئك وتتخلص من تسلطهم الفكري, وهذا لا يكون إلا بصدقهم في عبادة الله واجتناب الطاغوت بأي صفة من صفاته وحسن قصدهم لوجه الله, وابتعادهم عن حظوظ النفس وشهواتها الظاهرة والخفية, وقد أرشد الله سبحانه صحابة نبيه - صلى الله عليه وسلم - بعدما رباهم في وقعة (أحد) إلى أسباب الهزيمة وعوامل النصر, وجههم إلى ما يصونهم, ويرفعهم عن الهزيمة النفسية والفكرية, وذلك في سورة آل عمران من آية (129- 161), ومن آية (165- 174). تلك الآيات التي ينبغي للمسلم المؤمن أن يتدبرها ويقف عند كل آية منها متأملاً معانيها, وأن يستحضر ما قاله المفسرون قديماً وحديثاً فيها.



    إن الله أجرى سنته الكونية على أمور لا تمضي جزافاً يجري فيها عاقبة المكذبين مهما أمهل لهم, ليزدادوا إثماً, ويداول الأيام بين الناس, فيجعل الحرب سجالاً كي ينكشف النفاق الذي لا ينكشف لو دام النصر واليسر, ويبتلي عباده لتمحيص سرائرهم وامتحانهم على مدى الصبر في الشدائد ويؤكد استحقاق النصر للمؤمنين الصابرين, والذلة والسحق للكافرين, ويبين أن ما يصيب المؤمنين من هزيمة مؤقتة أو تنكيل من أعدائهم إنما هو بسبب مخالفتهم أمر الله ورسوله, حتى لا يحصل الإصرار واللامبالاة, تجد هذا واضحاً في قوله تعالى: ﴿ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ ﴾ [آل عمران: 137] وفي قوله: ﴿ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ﴾ [آل عمران: 152] وفي قوله: ﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ﴾ [آل عمران: 165] وقوله: ﴿ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ﴾ [آل عمران: 154] وقوله: ﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا ﴾ [آل عمران: 145]، لا يؤجل الموت جبن, ولا تقدمه شجاعة, فالمتدبر لهذه الآيات يجد القرآن يربط ماضي البشرية بحاضرها وحاضرها بماضيها؛ لأن النظام القبلي الذي كان العرب يعيشون في ظله لا يقودهم إلى ربط بعضهم ببعض, فضلاً عن ربطهم بسكان المعمورة قديماً وحديثاً, فهو:

    أولاً: ينقلهم من عزلة القبيلة وقصر التفكير إلى رابطة البشرية واتساع الأفق والنظر, ليعتبروا فيما أصاب غيرهم من المخالفين, ويعرفوا أنهم ليسوا بدعاً من الناس, وأنه ليس لهم ميزة عن سواهم إذا اختل إيمانهم أو ضعف, فإن سنة الله في خلقه لا تتخلف.



    ثانياً: يرفع من معنوياتهم ويشمخ برءوسهم فيقول لهم: ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 139] أي: لا يدب فيكم الوهن والضعف بما أصابكم, ولا تحزنوا على ما فاتكم, وأنتم الأعلون بعقيدتكم التي هي أعلى وأسمى من عقيدة غيركم, فأنتم موصولون بالخالق وبضاعتكم سماوية شريفة, وعدوكم عبد للمخلوق يسيره ببضاعة أرضية خاسرة, وأنتم الهداة لجميع البشر والأوصياء عليهم, وهم الشاردون عن هداية الله, المتبعون لأنواع الطواغيت, وأنتم ترجون من الله ما لا يرجونه؛ لأن الله وعدكم وراثة الأرض والتمكين فيها, فالعاقبة الحسنة لكم وليست لهم.



    ثالثاً: يواسيهم الله ويخفف من آلمهم بقوله: ﴿ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ﴾ [آل عمران: 140] يذكر المسلمين أنهم انتصروا بادئ الأمر وأنكوا عدوهم بالسلاح حتى عصى الرماة أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي هو من أمر الله, فأراد الله تأديبهم في نهاية المعركة على اختلال إخلاصهم وطمعهم في الغنيمة التي لا يجوز للمجاهد تغليب حبها والانشغال بها عن نكاية الكفار والإثخان بهم لإعلاء كلمة الله كما أنه - أيضاً - قد أصاب عدوهم قرح في غزوة بدر, فأصبح هناك موازنة وتعادل في حساب الحرب لا يجعل الخسران في كفتكم دون الآخرين.



    رابعاً: يبين الله الحكمة في هذه التربية لعباده, وهي أن يظهر علمه الأزلي الغيبي في عالم الشهادة بينهم, فيتبين المؤمنون الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه من المنافقين المستترين الانتهازيين, فإن الله يعلم بعلم الصنفين, ولكن لا يكشف حقيقتهم إلا الشدة بعد الرخاء, والهزيمة بعد النصر, فذلك الذي يكشف عن خفايا النفوس ويبين معدنها, ولذا قال: ﴿ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 141- 140].



    خامساً: مداولة الأيام, بحيث لا يدوم الرخاء, وتتوالى الفتوح دون شدة وانتكاسة, فهي من سنن الله التي لا تتخلف, والمحك الصادق للاختبار على الصبر وثبات الإيمان, فكم من أناس يجولون في الرخاء ويختفون في الشدة, وبالعكس فكم من أناس لا يصلحون إلا في الشدائد, أما الرخاء فيميعهم ويحللَّهم, فتربية الله لعباده في سنته الكونية تضبط توازنهم في حال الشدة والرخاء, لما يحصل من تهذيب نفوسهم, وحصر اتجاهها إلى الله الذي هو غاية المؤمنين.



    سادساً: اختيار الله منهم من يكرمه بالشهادة، ويختصهم لجواره بسببها, تلك الشهادة التي يتطلع إليها المؤمنون غير كارهين للحياة, ولكنهم متشوقون لجنة عرضها السموات والأرض يزهد فيها سواهم من المنافقين الذين أخبر الله عنهم أنهم ﴿ وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا ﴾ [آل عمران: 156].



    سابعاً: قضية التمحيص الناشئة من انكشاف حقيقة المؤمنين والمنافقين كما أسلفناه في رابع الإرشادات, فإن بهذا يحصل تمييز الخبيث من الطيب, وفرز المؤمن من المنافق الذي كشفته الأحداث.



    ثامناً: تحقيق ما كانوا يتمنونه من الموت قبل أن يلقوه؛ لاشتياقهم إلى القتال ورغبتهم في الجنة, ولا تجدي الأماني دون الصدق في التضحية وحبس النفس على المكروه, إذ بذلك يتحقق الصبر والجهاد, فلا يطلقون الأماني جزافاً, ولا يندفعون بغير توازن وترو, ويشير إليه قول الله تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُون ﴾ [آل عمران: 142- 143] والصادق في تمني الموت لا يترك الثغر الذي أوصاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتزامه والمرابطة فيه للطمع في الغنيمة الذي هو مخالف لما تمناه.



    تاسعاً: توصيتهم بالصمود على المبدأ والثبات على الإيمان, مهما تأزمت الحالة وتحرج الموقف, بل حتى لو مات قائدهم أو قُتل, أياً كانت شخصيته ذلك القائد من رسول أو تابع له, وقد تضمنت هذه التوصية تأنيبهم على الهلع والجزع الذي أصابهم من ظنهم فَقْدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه رسول الله كغيره من الرسل السابقين وما كانوا خالدين, فالموت محتم له, ولا يجوز لأتباعه الارتداد من بعده بالنكوص عن مجاهدة الكفار الذي هو من لوازم الإيمان, بل ينبغي أن يزداد غيظهم وحماسهم انتقاماً من أعدائه, وأخذاً بثأره, وثباتاً على تعاليمه, فإن الإيمان لا يتمثل خارج القلوب في أشخاص تموت, كما هي عقيدة القوميين في الأشخاص الذين تتمثل فيهم قوميتهم ممن يحتكرون لهم الإخلاص والتعظيم, وإنما تبرهن الأعمال الخارجية على صدق وطهارة الضمائر الداخلية, وقد ذكَّرهم الله بصالحي الأمم قبلهم حيث قال: ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ﴾ [آل عمران: 144] إلى أن قال: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 146] محمد - صلى الله عليه وسلم - كغيره من رسل البشر يموتون, ولكن العقيدة باقية ما بقيت السموات والأرض؛ لأنها مرتبطة بالله لا يتخلى عنها إلا الذي قطع صلته بالله, ولا يفضل عليها راحلته أو ماله أو حياته, إلا ضعيف الإيمان, قليل الحب لله.



    عاشراً: تصوير الله لهزيمتهم بالارتداد الحسي؛ لأن الذي ساورهم من الإحساس بعدم جدوى القتال حين ظنوا موت الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعتبر ارتداداً نفسياً لظنهم انهدام الدين بموته, وهذا مخالف للعقيدة.



    الحادي عشر: اقتلاع الله من نفوس المؤمنين الخوف من الموت بإبعاد عوامل الفزع والجزع بتقريره أن لكل نفس أجلاً لن تموت حتى تستوفيه؛ ليستيقنوا أن الأعداء مهما تضخمت أسلحتهم وعظم فتكها لا تقتل أبداً إلا من دنا أجله, وانقطعت لقمته من العيش, وأن الجبن والفرار لا يزيدان في الأجل, والشجاعة والصمود لا ينقصان منه, فما أمامهم إلا اختيار إحدى الحياتين, حياة الدنيا البهيمية تحت ذل الأعداء وإرهاقهم, وضنك المعيشة في الحروب الباردة والكاوية مع الماديين وأشكالهم, أو الحياة الأخرى التي يحصل صاحبها على إحدى الحسنيين.



    الثاني عشر: تعليم الله لهم ضراعة الأتقياء الأبرار من أتباع الرسل السابقين الذين صمدوا أمام عدوهم, ولم يخافوا غير ذنوبهم التي يحسونها من خشية الله, فيعدونها إسرافاً ويستمطرون مدد الله وحياطته بالاستغفار والدعاء الدائمين لجوءاً إلى القوة الغيبية وعدم اغترار منهم بما عندهم, بل انحصرت حالتهم بقول الله: ﴿ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 147] فما أبعد الفرق بينهم وبين القوميين الماديين في حربهم مع اليهود حيث لم نسمع منهم سوى الإقسام بعواصمهم وشخصيات زعمائهم ومذاهبهم الماركسية من الأصنام الناطقة, فلم يذكروا الله طرفة عين, حتى جاءهم بأسه على أيدي أراذل خلقه, والله غالب على أمره.



    إن الله وصف لنا طريقة الربيين بصفة عامة من أتباع كل نبي, ورسم لنا صورتهم الظاهرية والباطنية, فمن صورتهم الظاهرية أنهم ما ضعفوا وما وهنوا أمام البلايا والكروب وشدة النزال والإثخان في القتال, ولم تلن قناتهم عن الاستمرار في المصابرة والجهاد, ولم يستكينوا فيستسلموا لأعدائهم, بل مثلوا الصورة الحقيقية للذي يدافع عن عقيدة وهدف سماوي، ثم أوضح لنا صورتهم الباطنية في صدق مشاعرهم وأدبهم مع الله وعدم ذهولهم عنه في أحرج المواقف وأشد أنواع الهول, بل عظموا جنابه, وانحصر طلبهم في نيل رضائه, فكانت ضراعتهم إليه- سبحانه- طلباً للمغفرة بادئ ذي بدء لا طلباً للنصر, ثم سألوه التثبيت ليربط على قلوبهم ويلهمهم الصبر, حتى كان النصر آخر دعواهم, وهذا هو المثل الأعلى لطهارة القلوب وإخلاصها, والله يطلب من عباده المتقين أن يكونوا على هاتين الصورتين باطناً وظاهراً, ولكن التربية الماسونية اليهودية للقوميين الماديين أبعدتهم عن ذلك حتى صاروا من كسبها والعياذ بالله, وقد نال الربيون ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة, نالوا النصر والتمكين في الدنيا فوق مالهم من الدرجات العلى في جنان الخلد من الله المحب للمحسنين, أعطاهم أفضل ما يتمناه السائلون, حيث لم يطلبوا لأنفسهم شيئاً لصدقهم في العمل وإحسانهم الأدب.

    الثالث عشر: تحذير الله لعباده المؤمنين من طاعة الكافرين وأذيالهم من المنافقين المتسترين تحذيراً تاماً في كل زمان ومكان, جدده الله بهذه المناسبة؛ لأن كارثة (أحد) صارت مجالاً لدسائس الكفار وأذيالهم, وتخويفهم عاقبة الثبات مع النبي - صلى الله عليه وسلم -, وتصوير مخاوف الجهاد وتهويل شأنه؛ ليزعزعوا نفوسهم, فشدد الله في تحذيرهم, ليدفع معنويتهم, ويصونهم من الهزيمة الروحية والفكرية, وأوضح لهم سوء عاقبة الإصغاء لأقوال الكفار وأذيالهم, وهي مشاركتهم في الكفر والخسران, وحرمانهم مما ناله ويناله الربيون من ربهم, وذلك لأن المصغي إلى أقوال ضده في الدين والواثق برأيهم ومشورتهم يصبح متنازلاً عن عقيدته في أول وهلة، ولا يبقى معه إلا مجرد الاسم وهيكل الصورة, إذ تذوب عقيدته, وتزول حقيقته, إذا تبلورت أفكاره بدجل أعدائه, وهمساتهم المسمومة, فيبقى في هزيمة روحية أخطر من نكبته الحسية, ويظل في انهيار طيلة حياته بما خططت الماسونية لذلك لضعفاء العقيدة أو فاقديها من الماديين, ولذا يقوي الله - سبحانه - عزائم عباده فيذكرهم أنه مولاهم وناصرهم ﴿ بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ﴾ [آل عمران: 150] ليس لهم مولى راحم سواه ولا نصير جابر غيره, فلا يجيز لهم الاعتماد على غيره ولا التلقي من غير طريق رسوله - صلى الله عليه وسلم -, فالمؤمن الصادق يستغني بمورد عقيدته الصافي من الله, ويتكيف به دون التفات لما سواه, حتى لا يختلط عقله بزبالات الغش من أعدائه.



    الرابع عشر: تجديد الله وعده الصادق لعباده بإبقاء الرعب في قلوب أعدائهم تقوية لمعنويتهم وتثبيتاً ﴿ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 151] فانصرفوا إلى غيره مما تهواه نفوسهم, فعبدوا الهوى واعتمدوا على أصنام لم يمنحها الله قوة ولو يودع بها نفعاً, وهكذا خلفهم من العصريين الماديين أصحاب النزعات والمذاهب الوطنية والماركسية ممن اتخذوها أرباباً لهم وأصناماً ناطقة.



    الخامس عشر: إن الله صدقهم وعده فأجرى لهم النصر بادئ الأمر لما كانوا جميعاً على مقصد واحد حسن, هو إرادة وجه الله, فاستمر القتل بالمشركين حتى أدبروا وتركوا رحالهم غنيمة, ولكن بعدما اختلت مقاصد بعضهم وفضلوا الغنائم على طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ابتلاهم الله بمكروه الهزيمة بعد فرح النصر؛ تأديباً لهم وتربية في المستقبل ﴿ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ ﴾ (أي: تقتلونهم) ﴿ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُم ْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 152].



    السادس عشر: من تربية الله لهم أن أصابهم بغم يملأ صدورهم جزاءً على ما أنزلوا في نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الغم بفرارهم عنه, ليستشعروا شؤم ما فعلوه, فيستصغروا كل ما حصل منهم من أذى وفوات غنيمة ﴿ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ ﴾ [آل عمران: 153].



    السابع عشر: أنزل الله سكينته في نفوس المؤمنين بإلقاء نعاس يغشاهم أمنة منه تخالج أحاسيسهم وجوارحهم, بخلاف الذين تزعزع إيمانهم, فقد أهمتهم أنفسهم وظلوا في قلق وفزع كشأن من لم يرتبط بعقيدة صحيحة يعرف طريقه على ضوئها, بخلاف المرتبط بالله الراضي بقضائه, وقد صورت الآية حالة الفريقين.



    الثامن عشر: نهي الله وتحذيره للمؤمنين من مشابهة الكفار الذين يحكمون على ما ظهر لهم من الملابسات أنها علل وأسباب للموت والقتل والهزيمة, ذلك في آية (156: 158) فإن قول الكفرة يكشف عن فساد عقيدتهم وجهلهم بحقيقة الحياة وأحداثها, فهم دائماً في تشاؤم وتطير, أما المؤمن فهو بعقيدته إلى ما يجريه الله من الأحداث لاستيقانه أن لن يصيبه إلا ما كتب الله له أو عليه, فلا يجزع للضراء ويتطير, ولا يزهو بالسراء ويفخر, ولا يخيفه شيء سوى ذنوبه, التي تحول دون رحمة الله, فيؤكد الله لهم أن الموت لا يقدمه الخروج للعدو, بل ولا البروز للقتال, وأنه لا يأتي قبل الأجل الذي حدده الله, ويقول: ﴿ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ﴾ [آل عمران: 154] ويخبر عما يساورهم من سوء الإحساس أنه زيادة عقوبة ﴿ لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ ﴾ [آل عمران: 156] وأن رحمته بالمقتولين خير من حياة المنافقين المقطوعين الصلة بالله, وأن الجميع سيحشرون إلى الله فيخسر عنده من بخل عليه بنفسه أو ماله.



    التاسع عشر: تعليم الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - الذي رباه على اللين والسماحة أن يعفو عن المخالفين لأمره, والواهنين عن نصرته, وأن يستغفر لهم تأليفاً وجبراً لقلوبهم وتدعيماً لمحبته في نفوسهم.



    العشرون: أمر الله بمشورتهم مع كونه يتولاه ويعلمه ما لا يعلمه, ولكنه تقرير عام لمبدأ الشورى في حكم دين الله, وقد أطلق كيفيتها لعلمه - تعالى - باختلاف الأحوال والبيئات لتكون حسبما يلائم مصلحة المسلمين, وقد أثبتت الوقائع أن اتساعها يحدث الفوضى ويفسح المحال لأعداء الإسلام لشراء الأصوات والضمائر, فلا يبعد أن يكون إيجابها من باب العام الذي أريد به الخصوص.



    الحادي والعشرون: تثبيت الله لقلوب المؤمنين وحصر اتجاههم إليه بالقوة في الأخذ بالأسباب والقذف بها, وأنه لا ناصر لهم سواه, فليتوكلوا عليه وحده ويصدقوا معه ويضرعوا إليه, فإنه لا يعطي النصر إلا لمن يستحقه, ولا يهزم إلا من يستحق الهزيمة, وقد ينصر الكافر نكاية بكافر مثله, أو بعصاة المسلمين, أو بالمنافقين المسيطرين عليهم, ثم يقلب نصره للكافر عقوبة عليه إذا استيقظ المغلوب ورجع إلى الله بصدق وإخلاص.



    الثاني والعشرون: تأكيد الله لعباده أن الغلول لا يمكن حصوله من نبي أبداً, لأن طمع الرماة في الغنيمة وتركهم الثغر الذي أمرهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يتمركزوا فيه, سببه خوفهم عدم الإعطاء منها لكونهم لم يشاركوا المقاتلين فيها, لاسيما وقد غشهم بعض المنافقين باختفاء بعض مغانم بدر كعادتهم في دس الكذب, فسمى الله ذلك غلولاً وبرأ نبيه وإخوانه منه بقوله: ﴿ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ ﴾ [آل عمران: 161].



    الثالث والعشرون: تذكير الله لهم ومنته عليهم بأعظم نعمه وأشرف مكرمة هي بعث نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم من أنفسهم خاصة يهديهم من الضلال, ويرتفع بمستواهم الذي هبطت به الوثنية, ويشمخ برءوسهم التي أخضعتها طواغيتها, فهي نعمة لا يعدلها جميع ما في الدنيا, فعليهم أن يرعوها حق رعايتها بصدق متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأن يكون أحب إليهم وأغلى عليهم من أنفسهم فيجعلونها وقاءً له وفداءً هي وأموالهم وأهليهم في حياته, ولسنته بعد مماته.



    الرابع والعشرون: تكرير المساواة من الله لهم على ما أصابهم وتوضيحه للسبب بقوله: ﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ﴾ [آل عمران: 165] فيذكرهم الله أنهم قد أصابوا من عدوهم أضعاف ما أصاب منهم, ولكن طبيعة العدو تجسيم الحقير من المكاسب وتغطية أعظم الخسائر, فيجب أن يزن المؤمنون مكاسبهم وخسارتهم بالمعيار الصحيح, ويحاسبوا أنفسهم على النقص كما أسلفنا في الوجه الثالث.



    الخامس والعشرون: إخبار الله المؤمنين عن المنافقين بأوصافهم لا بأشخاصهم، فهداية القرآن اقتضت ذلك؛ لأن الأوصاف تطرد في كل مناسبة على مَرّ الأزمان, وأنهم هم الذين لما قيل لهم: ﴿ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُ مْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ ﴾ [آل عمران: 167] وهم ﴿ الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [آل عمران: 168] يأيها الدعاة إلى القعود عن القتال خشية الموت والمتمادون في إشاعة الإرجاف.



    السادس والعشرون: إخبار الله عن حسن المصير والحياة الطيبة عنده للشهداء الذين قتلوا في سبيل الله لإخلاص قصدهم في إعلاء كلمته، وأن حياتهم لا تنقطع بالموت الحسي من قتل وغيره, كما تنقطع حياة الجبناء والمنافقين الباخلين على الله إذا ماتوا على الفراش كالحيوان في مربطه, بل الجزاء من حسن العمل, فالذين وهبوا أنفسهم لله أبدلهم بحياة لا يعلم مدى طيبها وجمالها إلا هو ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُو نَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 169- 171] حياة جديدة كريمة ورزق عند ربهم لا يقدر أحد قدره, وفرح بما نالوه من وعده لا يتصوره متصور, وتطمين لهم على إخوانهم الذين خلفوهم من خلفهم أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون لتقر أعينهم ويكمل نعيمهم فهم يستبشرون بذلك, وقد أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن بعض معاني هذه الحياة التي لا نعلم كنهها بقوله عن شهداء (أحد): "جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر, ترد أنهار الجنة تأكل من ثمارها, وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش, فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا: من يبلغ إخواننا عنا أننا أحياء في الجنة؛ لئلا يزهدوا في الجنة, ولا ينكلوا عند الحرب, فقال الله: أنا أبلغهم عنكم فأنزل: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ ﴾ إلى آخر الآيات"[1]. رواه أبو داود ورواه مسلم بأطول من هذا, وبهذا الأمل العظيم قويت معنويات المؤمنين واشتدت رغبتهم في الجهاد حتى توسعت فتوحهم, بخلاف المنطق القومي والبعثي الذي يربي الجنود على خدمة علم الوطن الذي يحكم بغير ما أنزل الله, ويتبجح البعثيون بأنهم يخلقون عربياً لا يؤمن بالله ورسله ونعيمه وناره - نعوذ بالله- فلأي شيء يموت الجندي ما دام لا يؤمن بالجنة ولا يرجوها, أيضحي بنفسه في سبيل أدعياء العروبة والاشتراكية؟!!


    --------------------------------------------------------------------------------

    [1] أخرجه مسلم في صحيحه (1887) من طريق مسروق عن ابن مسعود مرفوعًا به مطولًا.

    وأخرجه أبو داود (2520), والحاكم (2/97) من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس بسنده به مختصرًا.
    والشـرك فـاحذره فشـرك ظاهـر ***** ذا القسـم ليس بـقابـل الغفـران

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Dec 2010
    الدولة
    الرياض
    المشاركات
    133

    افتراضي رد: العقيدة ومظاهرها وآثارها في الحياة للشيخ عبد الرحمن الدوسري

    جزاك الله خير ونفع الله بك .
    سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم
    اللهم صلي وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Oct 2007
    المشاركات
    17,333

    افتراضي


    جزاك الله خيرا

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    13,804

    افتراضي

    بارك الله فيك .
    رحم الله العلامة الدوسري ، فله مقالات وكتابات رائعة تفوح مسكا .

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •