الحمدلله رب العالمين ، والصلاة على رسولنا الكريم وعلى صحبه أجمعين .


قال تعالى لموسى - عليه السلام - في معرض تمسك بالتوراة

وَكَتَبْنَا لَهُوفِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)
معنى الاية الكريمة (وكتبنا لموسى في التوراة من كل ما يحتاج إليه في دينه من الأحكام, موعظة للازدجار والاعتبار وتفصيلا لتكاليف الحلال والحرام والأمر والنهي والقصص والعقائد والأخبار والمغيبات, قال الله له: فخذها بقوة, أي: خذ التوراة بجد واجتهاد, وأمر قومك يعملوا بما شرع الله فيها; فإن مَن أشرك منهم ومِن غيرهم فإني سأريه في الآخرة دار الفاسقين, وهي نار الله التي أعدَّها لأعدائه الخارجين عن طاعته)
إن موسى عليه السلام يمثل أعلى السلطة في قومه والمشار إليهم هم نوابه من الأعوان والأعيان والقادة والعلماء
وكل من له تأثير سواء كان فردا كبيرا أو صغيرا ، إنهم يحتاجون إلى منهج سديد وسياسة عامة واضحة يسير عليها مجتمعهم ، ولذلك كان لبني إسرائيل في فترة من الزمن قوة ومنعة ، فلما أخلوا بما أمر الله تعالى وجبت عليهم سنته ( فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا ).

المتأمل بعين البصيرة والتبصر في كلمتي ( قوة ، وأحسنها ) هما مدار رسم منهجية عامة لجميع شرائح المجتمع ، تقوم بالدور الذي ينبغي أن تقوم به ، بكل أمانة واستحقاق ، وجدارة واتقان ، تلكم: سياسة دول العالم الأول ، مع ما ينقصهم من منهج رباني ، إلا أن سنن الله لا تحابي مؤمنا مع كافر ولا صالح مع مفسد ، ولا تقيا مع فاجر .

منهجية العلم ونشر ثقافة التعلم والقراءة تثري العقل ، وبمهارات وقدرات تساعد على عمارة الأرض وإقامة سلطان العدل ، ثقافة القوة لدى الدول العظمى كانت بمنهجية نشر ثقافة العلوم المتنوعة ، ورسم سياساتها حتى توجت نفسها من ضمن دول العالم الأول ، وحضارتها المزدهرة فاقت حاضرة الإسلام باختراعاتها وإبداعاتها الفكرية المختلفة .
جاءت هذه القوة من خلال خطين متوازيين رصدت لها ميزانيات ضخمة من القطاع الحكومي ودعم القطاع الأهلي الواعي بضرورة أن تكون للأمة قوة ومنعة ، فعلى سبيل المثال :
أولت مؤسسة " فورد " الأمريكية منذ نشأتها كمؤسسة تجارية بحتة ،أن تكون رائدة في العمل الخيري الذي يهتم في الجانب العلمي والاجتماعي والسياسي، فكان لها السبق في ذلك ، ورصدت مئات الملايين لدعم مشاريعها العلمية في الولايات المتحدة للارتقاء بها بمباركة الحكومة ، فالخط الأول الذي منح القوة والمنعة لدول العالم الأول اهتمامهم بالجوانب العلمية المختلفة بشتى فروعها ، وتغذيتها ورعايتها وتطويرها ونشرها، وكانت سياستها القوية على قواعد المفاهيم العلمية، بل تعدى ذلك لشراء العقول المهاجرة وتوطينها ، والخط الثاني الذي يوازيه بنفس الأهمية تعزيز ثقافة المواطن العلمية ، وتوعيته بأهميتها وأهمية المواطنة التي ترقى به وبأمته من أجل ذلك.. صنعوا كوادرقادرة على الانجاز والابداع العلمي والاتيان بكل جديد .
هذين الاتجاهين : اتجاه منهجية دولة تهتم بالعلم وتنشره وتشجع أبناءها ، واتجاه مؤسسي أهلي يسعى بنفس الوتيرة للرقي بمستقبل الأمة ، من هذين المنطلقين تتكون الريادة والمنعة ، والصدارة والقوة بين الأمم ،
كما كانت الخلافة الإسلامية في عهدها القديم آخذة بزمام التقدم والقوة وتثقيف الناس على سياسة أمراءها وعلمائها وأعيانها .. إلخ .
هذا الوصف لا يعني - وأمة الإسلام تعيش في أصعب أوقاتها - أن تقف مكتوفة الأيدي متشائمة كئيبة بمصيرها ، بل على عكس ذلك فإن الخط الزمني ينذر أويشير ببشارة أو بشارات ، فيها بصيص أمل يتعاظم جيلا بعد جيل وفق الحدود والإمكانات لأفرادها ، من رأس الهرم إلى أدناها ، تزرع وتبذل حتى يأتي الجيل الذي بعده ليكمل الرؤية المنشودة لها .
غير أن هذه الرؤية المشار اليها آنفا تسير ببطء كبير، وينقص من حالها : تلكم الجوانب الأخلاقية المظلمة التي وصمت به أمتنا في أكثر من جانب ، مما أثر على أداء المسير العلمي في حركتها فلا تسمع من دعم مؤسسي يذكر أو استفادة من قدرات على طريق الإصلاح ، وإن جد فإنه ضعيف في مركزه لم تظهر معالمه .
لا ريب وأن شق طريق الإصلاح العلمي وتأسيس مراكزه وهو عنوان قوة الأمة في تغيير مساراتها الاجتماعية والاقتصادية، أمرا ليس بالهين ، ولكنه ليس مستحيلا ، إنها مسؤولية جميع أفراد الأمة ،ونخص بالذكر أعيانها وتجارها وعلماءها ومؤسساتها العامة والخاصة ، إنهم جزء من هذا الحدث ، لقد أصبحت الحاجة إلى التغيير في منهجية تعاطي السياسة العلمية بين أفراد الأمة، بعد توفير حاجة الطعام والشراب أمرا لا مناص منه ،لإحداث الثورة العلمية والانقلاب المفاهيمي الإيجابي، نحو تعاطي شعوب أمتنا تجاه التثقيف العلمي وإبداعاته المتنوعة بضرورة ماسه وحاجة ملحة ، إن أردنا أن ننقل حالها الاجتماعي والأخلاقي والاقتصادي المتردي إلى وضعه المستقر ، ثم التعافي والثبات إلى فضاء الريادة .
تكلم الكثير عن أهمية العلم وفوائده وثماره ، ولم يتناولوا منهجية التوجيه المبرمج نحو سياسة التغيير من محاوره المختلفة ، لتستثمر الأموال والطاقات المهدورة وتسلط الأضواء عليها.
إنه ليس قرارا يوقع عليه الساسة فقط وليس برامج من هنا وهناك في الفضائيات أو الإذاعات أو تناول في الصحف على استحياء ، كلا إنما هو قرار الأمة بأجمعها والمؤثرين فيها وبمستقبلها ، لتنأى بهم عن الضياع والتشرذم الذي أثخن في جسد شعوبها .
تأمل معي في غاية شباب أمتنا في هذا الوقت : شهادة لتحصيل مال فقط . لاعلم يطمح به للتغيير وتعزيز تأثيره بمن حوله ليسمو بأخلاق المجتمع ورفع هممه لتحسين صورته أمام الناس .
هذه دعوة أناشد به الأمة لترتقي بأوضاعها المتردية بكل الميادين لتنهض من جديد وتمسك بزمام الريادة كما كانت من قبل فتسطر اسمها في سجل الخالدين بشكل جاد وواضح بعيدا عن الصراعات الحزبية والمكاسب السياسية .
والله المسؤول أن يبرم للأمة أمر رشد تعان عليه على نفسها.
والحمدلله رب العالمين
كتبه محمد الحجي – ابو ناصر