الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين؛ أما بعد:
ينبغي لأهل الإسلام أن يقتفوا طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعوة والإصلاح وسبيل إقامة دولة الإسلام وأن يستلهموا ذلك من سيرته وهديه ويقفوا عند فهم العلماء الراسخين من السلف الصالح رضي الله عنهم الذين أمرنا باتباعهم بإحسان فكل طريق غير هذا الطريق فهو سراب ولايمكن أن يقيم الإسلام في النهاية ، كل الطرق مسدودة إلا طريق محمد صلى الله عليه وسلم وقد قمت بجمع وتلخيص مسائل لأهل العلم تتعلق بطريقته صلى الله عليه وسلم في إقامة الدين مستلهماً ذلك من سيرته العذبة وكيفية تعامله مع أصناف الناس من معاهدين ومحاربين .. مع الأحكام الشرعية المستفادة من ذلك ، أسأل الله تعالى الهداية والتوفيق ، والإعانة والسداد ، وحسن العاقبة ، في الأمور
كلها . والحمد لله رب العالمين.
بين يدي الموضوع
المنهج تعريفه :
لغتاً: الطريق البين الواضح.
والمراد به هنا : الطريقة الشرعية المتّبعة لإقامة دين الإسلام في الأرض .
والمقصود بالشرعية : ما شرعه الله عز وجل في كتابه وفي سنة نبيه . فيخرج بهذا كل طريقة في دين أو مذهب غيره .
والمقصود بالمتّبعة : أن يكون هذا المنهج تبعاً لسلف هذه الأمة ، فيخرج بهذا كل طريق ابتدعه الناس . (من كتاب منهج الاعتدال للشيخ عدنان عرعور)
أدلته : قال تعالى: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً .. [المائدة : (48)] .
وقال: ((..ثم تكون خلافة على منهاج النبوة..))[رواه أحمد (4/273) عن النعمان بن بشير،وصححه شيخنا الألباني في الصحيحة رقم (5)].
فالمنهاج قسم من أقسام الدين وهو محوره الذي يجب السير عليه.
وأمر المنهج توقيفي.
قال تعالى : }وَالسَّابِقُون الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ{ سورة التوبة : الآية 100. فهذا نص صريح في إيجاب إتباع سبيلهم وأنهم الطائفة المنصورة المرضي عنها ،
وفي قوله تعالى : }وَالسَّابِقُون الأَوَّلُونَ{ إشارة إلى تاريخ بدء هذه الجماعة وفي قوله تعالى : } وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ{ إشارة إلى استمرارية هذا الوجود وعموميته وعدم انقطاعه ، وأن ثمة رجالاً مستمرون على هذا الطريق وأن قوام هذا الاستمرار هو الإتباع " اتَّبَعُوهُمْ" فإذا فُقد حملة المنهج أو انعدم شرط الإتباع فقد فقدت الجماعة هذه الصفة وبالتالي فليست هي الفرقة الناجية ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم :" لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين…" أخرجه مسلم عن ثوبان ونحوه في الصحيحين عن معاوية والمغيرة بن شعبة ، وبناء على هذا فأي جماعة نشأت بعد رسول الله بمنهج جيد أو فكر جديد أو تحزب أو خرجت عن الجماعة الأم بعقيدة أو فكر أو منهج فهي جماعة مقطوعة السند غير ناجية المآل.
وقال تعالى : ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنيـن نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً ، إذا كانت الآية السابقة زكت المتبعين للصحابة وأنهم الناجين يوم القيامة فإن هذه الآية بينت ضلال كل من خالف سبيلهم ولو رأيناه ميسوراً قريب المنال فالعبرة بالإقتداء والإتباع لا بالوصول والإسراع.
ومعنى قوله:"نوله ماتولى" أي لايكون الله له ولياً ولاناصراً ولامعيناً ولكن يجعل الله وليه الأمر الذي سلكه فإذا أعرض عن سبيل المؤمنين الذي هو الدعوة قبل التمكين والدعوة والجهاد بعده إلى أمور محدثة مستوردة من الشرق والغرب ليست من سبيل المؤمنين بل من سبيل أعدائهم تخلى الله عن نصرتهم وجعل هذه الطرائق المحدثة هي مولاه وناصرته ، ولعل هذا سر عدم انتصار تلك الدعوات التي خالفت منهجهم وعدلت عن طريقتهم وإذا قدر الله انتصاراً لبعضهم فليس دليل على صحة منهجهم إذ قد يكون انتصاراً تفضلياً لا استحقاقياً أو يكون غلبة كونية لاشرعية فليس كل من انتصر كان على الحق ولاحجة بالنتائج ولا فيمن خالف.
فمن واجب المسلمين أن يسيروا وفق هذا المنهج الشرعي فهذا من أسرار قوتهم وكل منهج غريب لايمكن أن يحقق الإسلام في النهاية.
ومن الأدلة أيضاً على أن أمر المنهج توقيفي قوله تعالى: ﴿قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ..﴾
وفي حديث حُذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- بيان لذلك أيضاً حيثُ قال: كان الناس يسألون رسول الله عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يُدركني؛ فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهليّة وشر، وجاء الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: ((نعم))، قلت: وهل بعد هذا الشر من خير قال: ((نعم؛ وفيه دخن)) قلت: وما دخنه؟ قال: ((قوم يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر ..)) متفق عليه
إذاً هذا الدخن انحراف يعتري المنهج الحق الذي كان يسود مرحلة الخير الخالص؛ فيؤدي إلى تشويه المحجّة البيضاء التي ليلها كنهارها، ألم يقل –صلى الله عليه وسلم- في تفسير الدخن كما جاء في الحديث نفسه عندما سأله حُذيفة –رضي الله عنه-: ((قومٌ يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر)).
هذا هو أصل الداء وجذر البلاء، أنه انحرافٌ عن السنّة في المنهج، وانصراف عن السمت النبوي في السلوك والعمل.
ومن الأدلة على ذلك ما ثبت في عرض عتبة بن ربيعه بتكليف من زعماء قريش: حيث قال للرسول صلى الله عليه وسلم: (فرقت جماعتنا وعبت ديننا وشتمت الآباء وشتمت الآلهة وفضحتنا في العرب، أيها الرجل إن كنت إنما بك الرياسة عقدنا لك فكنت رأسنا - أي تكون رئيس الحكومة أو رئيس الوزراء - وأن كنت تريد شرفا سودناك علينا - أي رئيس البرلمان - وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا - أي تكون ملكا أو رئس الجمهورية -)، فلم يقبل الرسول وتلا عليه أول سورة فصلت، لأنه عرض مقابل جوهر هذا الدين وهي القيام بالتوحيد.
قال الإمام الألباني رحمه الله: (هذه القصة أخرجها ابن إسحاق في المغازي: 1/185 من سيرة ابن هشام بسند حسن عن محمد بن كعب القرظي مرسلا ووصله عبد بن حميد وأبو يعلى والبغوي من طريق أخرى من حديث جابر رضي الله عنه كما في تفسير ابن كثير: 4/91 - 90 وسنده حسن إن شاء الله، وصححها غيره من علماء السيرة المعاصرين)
ولو عرض هذا العرض على بعض من يرون الدخول في البرلمانات النيابية ، لسارعوا يهرولون حيث الملك والسلطان والحكومة لهم مع التنازل عن القضايا الأساسية ، وما يتبعها من ولاء وبراء.
وفي ليلة العقبة الثانية جاء أحد الصحابة الأنصار وقال : " يا رسول الله دعنا نميل على أهل
منى ميلة رجل واحد بأسيافنا " فكان جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا، لم
نؤمر بذلك ولم يأذن الله لي في محاربتهم "
فسبيل المؤمنين هو الاقتصار على الدعوة قبل التمكين والدعوة والجهاد بعد التمكين عندما تكون للمسلمين شوكة وأرض ينطلقون منها
ولو عرض هذا العرض على بعض من يرون الجهاد ولايلتزمون بهديه صلى الله عليه وسلم في ذلك ، لسارعوا يهرولون ولو أدى ذلك إلى إبادة قرى المسلمين عن بكرة أبيها.
إذا عرفنا ذلك:
هل الذين ابتدعوا طرقاً للوصول للحكم أو طرقاً أخرى للحكم نفسه غير طريقهم اتبعوهم بإحسان؟
هل هم بهذه المخالفات –التي يسمونها اجتهادات-يتبعون سبيل المؤمنين-الصحابة-الذي أوجبه الله على الناس جميعاً؟أم يتبعون سبيل أعدائهم..؟
هل من منهج الصحابة رضي الله عنهم تقديم المصالح الخاصة والعامة على النصوص؟
هل من منهجهم إباحة المحظورات وترك الواجبات وهجر المسنونات بدعوى مصلحة الدعوة؟
هل من منهجهم جمع..جمع.. دون علم وتربية؟
هل من منهجهم التحزبات وتكثير الأتباع من غير ضبط ولا أخلاق؟!
الطريق النبوية في إقامة الدولة الإسلامية
أولاً: لابد أن نعلم أن ديننا دين كامل (دين ودولة) والدليل على ذلك قول الله تعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا "وقد قيل لسمان الفارسي رضي الله عنه له "لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة قال أجل لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول وأن لا نستنجي باليمين وأن لا يستنجي أحدنا بأقل من ثلاثة أحجار أو نستنجي برجيع أو عظم" أخرجه أصحاب السنن وصححه الألباني
ثانياً: لقد بين الشارع الطريقة التي توصلنا إلى قيام الدولة والدليل قول الله تعالى: "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ ..." فيها دلالة واضحة على ضرورة التزام منهج النبي صلى الله عليه وسلم بدءً من الخلاء إلى قيام الدولة ولا يجوز الحياد إلى غيرها وطريقته باختصار جماعة فبيئة فمجتمع فسلطان فدولة.
فالنبي صلى الله عليه وسلم شكّل في مكة جماعة وتحتوي على خطوط متوازية بناء الجماعة على العقيدة وتربيتهم عليها وتوسيع الدعوة والجماعة على ذلك والمفاصلة عليها ثم أخذ الرسول يبحث عن بيئة بعد أن ربى جماعة صلبة من المؤمنين الخلص الذين تصهرهم المحنة فيثبتون عليها ولمّا علم الله صدق الصحابة بصبرهم سهّل لهم بيئة المدينة(وَلَنَب لُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) (محمد:31) ومن كان عنده بصيرة في دين الله وسنته علم أن الله سبحانه هو الذي يتكفل بهذه الدعوة فحيثما أراد لها مسيرة صحيحة عرّض طلائعها للمحنة الطويلة وأبطأ عليهم النصر وقللهم وبطأ الناس عنهم حتى يعلم أن قد صبروا وثبتوا وتهيأوا وصلحوا لأن يكونوا هم الصفوة الخاصة الأمينة ثم نقل خطاهم بعد ذلك بيده سبحانه فالله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لايعلمون.
لابد من معرفة ماكانت عليه الجماعة الأولى : كيف تربّت؟...وبماذا تربت؟...وكيف سارت؟...أصولها...ع قيدتها...منهاجها. ..أخلاقها...تصر فها... ثم تربية النشء على ذلك
فالخلاصة أن كل مرحلة أو ظرف عاش فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عاش فيه أصحابه رضي الله عنهم من بعده فلنا نحن الأتباع فيهم أسوة حسنة ونحدد القدرة والاستطاعة وفق ماتعاملوا به في هذه الظروف المختلفة ونزاول فيها ما زاول فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى نكون على هدى مستقيم ، وقد قسم الشيخ عدنان عرعور الظروف والأحوال أو قل المجتمعات التي تعرض لها النبي صلى الله عليه وسلم و أصحابه رضي الله عنهم إلى سبعة مجتمعات حتى نعرف كيف تعاملوا مع هذه المجتمعات والأحوال المختلفة:
1. المجتمع المكي:
مميزات هذا المجتمع:
أ*- السلطة للأعداء الكفار
ب*- يحارب فيه الإسلام والمسلمون
واجب المسلم في هذا المجتمع:
الصبر والدعوة والرفق والعفو ، فهذا مجتمع عبارة عن مدرسة تربوية عظيمة إيمانية وروحية وخلقية.
2. المجتمع المدني قبل الهجرة أو المجتمع الدعوي:
مميزاته: لاعنف ، لاقتال ، تحمل بعض التنغصات.
أرسل إليهم الرسول دعاة مصعب بن عمير رضي الله عنه.
3. المجتمع المدني بعد الهجرة (عهد التمكين الأول الذي فيه ضعف أو بداية إنشاء الدولة الإسلامية)
مميزاته: يستكمل فيه التربية الإيمانية والخلقية والتربية الجهادية ويكون فيه السياسة والدفاع وتبرم فيه المعاهدات والمصالحات.
4. المجتمع العمري (خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، عهد التمكين القوي وفيه السلطة العظمى للمسلمين)
5. المجتمع اليمني:
مميزاته: استسلام شعب بأكمله للإسلام فأرسل إليهم الرسول أمراء علي ومعاذ رضي الله عنهم بينما أرسل للمجتمع المدني قبل الهجرة دعاة مصعب بن عمير رضي الله عنه.
6. المجتمع الحجاجي (عصر الحجاج بن يوسف)
مميزاته: السلطة والناس مسلمون غير أن فيهم حاكم ظالم فاسق لم يظهر منه كفر بواح.
الواجب اتجاه هذا الأمير الصبر ، وعلى العلماء إرجاع الناس إلى الدين.
7. المجتمع الحبشي (هجرة السلمون إلى الحبشة):
مميزاته: يشابه المجتمع المكي من حيث لايقبل الإسلام حكومة ولا شعب ولكنهم مسالمون لايؤذون أحد ، يعيش الرجل بين أظهرهم بدون أذية ، فهو خير للضعفاء من المجتمع المكي.
من شريط (المجتمعات التي يتعرض لها المسلم وأحكامها للشيخ عدنان عرعور حفظه الله)
وقال ابن القيم -رحمه الله-: فصل في ترتيب سياق هديه مع الكفار والمنافقين من حين بعث إلى حين لقي الله تعالي ، أول ما أوحى إليه ربه أن يقرأ باسم ربه الذي خلق وذلك أول نبوته فأمره أن يقرأ في نفسه ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ ، ثم أنزل عليه يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ ]المدثر:1-2[ ، فنبأه قومه ثم أنذر من حولهم من العرب ثم أنذر العرب قاطبة ثم أنذر العالمين .
فأقام بضعة عشر سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية ويؤمر بالكف والصبر والصفح ثم أذن له في الهجرة وأذن له في القتال ثم أمره أن يقاتل من قاتله ويكف عمن اعتزله ولم يقاتله ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام: أهل صلح وهدنة ، وأهل حرب ، وأهل ذمة ، فأمر أن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم ، وأن يوفى لهم به ما استقاموا على العهد فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد وأمر أن يقاتل من نقض عهده ، ولما نزلت سورة براءة نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها فأمر أن يقاتل عدوه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية أو يدخلوا في الإسلام وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم فجاهد الكفار بالسيف والسنان ، والمنافقين بالحجة واللسان وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار ونبذ عهودهم إليهم وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام :-
قسماً: أمره بقتالهم وهم الذين نقضوا عهده ولم يستقيموا له فحاربهم وظهر عليهم. وقسماً: لهم عهد مؤقت لم ينقضوه ولم يظاهروا عليه فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم.
وقسماً: لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه أو كان لهم عهد مطلق فأمر أن يؤجلهم أربعة أشهر فإذا انسلخت قاتلهم إلى أن قال فقاتل الناقض لعهده وأجل من لا عهد له أو له عهد مطلق أربعة أشهر وأمره أن يتم للموفى بعهده عهده إلى مدته فأسلم هؤلاء كلهم ولم يقيموا على كفرهم إلى مدتهم وضرب على أهل الذمة الجزية فاستقر أمر الكفار معه بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام : محاربين له ، وأهل عهد ، وأهل ذمة ، ثم آل حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام فصاروا معه قسمين : محاربين ، وأهل ذمة .
والمحاربون له خائفون منه فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام : مسلم مؤمن به ، ومسالم له آمن ، وخائف محارب .أهـ. (باختصار من الزاد 81/82) .
يظهر من هذا التلخيص لمراحل تشريع الجهاد أنه مر بمراحل :-
أولها: مرحلة الكف والإعراض والصفح حيث كان القتال محرماً قال تعالى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ]النساء:77[.
روى ابن جرير والنسائي في سننهِ عن ابن عباس أن عبد الرحمن بن عوف وأصحاباً له أتوا النبي صلي الله عليه وسلم:" فقالوا: يا رسول الله كنا في عز ونحن مشركون فلما آمنا صرنا أذلة ، فقال إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا " .
فلما حوله الله إلى المدينة أمر بالقتال فكفوا فأنزل الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ ]النساء:77 [.
وقال ابن القيم - رحمه الله - عن هذه المرحلة: والله سبحانه يأمرهم بالصبر والعفو والصفح حتى قويت الشوكة واشتد الجناح فأذن لهم بالقتال ولم يفرضه عليهم فقال : أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ]الحج:39[ .أهـ .
وهذه هي المرحلة الثانية: مرحلة الإذن بالقتال .
ثم المرحلة الثالثة: وهى الأمر بالقتال لمن قاتلهم دون من يقاتل: وذلك بقوله تعالى:وَقَاتِل ُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُم ْ ]البقرة:190[ .
ثم المرحلة الرابعة: فرض عليهم قتال المشركين كافة ، بقوله تعالى: قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ ..(
وعن ابن عباس وأبى العالية ومجاهد والحسن وقتادة والربيع بن أنس والسدي ومقاتل بن حيان وزيد بن أسلم يعنى حتى لا يكون شرك .
وقال النبي صلي الله عليه وسلم:" أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم وحسابهم على الله " [متفق عليه] . وهذه المرحلة الأخيرة هي التي استقر عليها الأمر في معاملة المسلمين للكفار من جميع الأجناس ، أهل الكتاب وغيرهم .
نخلص بعد هذا الكلام النفيس لابن القيم في بيان المراحل التي تنقل فيها الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته وجهاده إلى النتائج التالية:
1- أن الرسول صلى الله عليه وسلم في المرحلة المكية قد أُمِرَ بكف اليد وترك الجهاد المسلح مع كفار قريش، وأُمِرَ فيها بجهاد البلاغ والبيان، وتحمل في سبيل ذلك هو وأصحابه رضي الله عنهم من الأذى أصنافًا كثيرة• ولا شك أن في الأمر بكف اليد في المرحلة المكية حكمًا وغايات عظيمة لعل من أبرزها:
- ضعف المسلمين وقلة عددهم بحيث لو تمت المواجهة مع المشركين فإن ذلك من شأنه أن يئد الدعوة في مهدها•
- ومنها: الإعداد والتربية للأتباع التي يقوم على كاهلها نشر الإسلام ونصرة الدين•
- ومنها: أن يأخذ البلاغ حقه، وتقوم الحجة على المشركين، ويتم البيان للناس عن حقيقة الإسلام وحقيقة سبيل المجرمين، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة•
وغير ذلك من الحكم.
2- أن الجهاد المسلح للكفار لم يؤذن فيه إلا بعد الهجرة بعد أن تهيأ للمسلمين المكان الذي يأمنون فيه وينطلقون منه ويفيئون إليه•
وجاء الإذن في أول الأمر لرفع الظلم، ثم تلا ذلك الأمر بجهاد المعتدي، ثم لمَّا قويت شوكة المسلمين بدأ جهاد الطلب حتى انتهى أمر الجهاد بعد آية السيف إلى أن لا يقبل من الناس إلا الإسلام أو الجزية أو الحرب•
الفوائد الفقهية فِي قصة الحديبية قال ابن القيم رحمه الله :
"والعهد الذي كان بين النَّبِي وبين المشركين، لَم يكن عهدًا بين أبي بصير وأصحابه وبينهم، وعلى هذا فإذا كان بين بعض ملوك المسلمين وبعض أهل الذمة من النصارى وغيرهم عهد، جاز لملك آخر من ملوك المسلمين أن يغزوهم، ويغنم أموالهم إذا لَم يكن بينه وبينهم عهد، كما أفتى به شيخ الإسلام فِي نصارى ملطبة وسبيهم مستدلاًّ بقصة أبي بصير مع المشركين. اهـ. زاد المعاد (3/309).
ولكل بلد إمامه وأحكامه وعهوده الخاصة بالإجماع ، قال شيخ الإسلام الإمام محمـد بن عبد الوهاب(الدرر السنية:7/239) : الأئمة مجمعون من كل مذهب ، على أن من تغلب على بلد أو بلدان له حكم الإمام في جميع الأشياء"أ.هـ. وقال الشوكاني عن تعدد الأئمة(السيل الجرار:4/512) فقال: "ويجب الطاعة لكل واحد منهم بعد البيعة له على أهل القطر الذي ينفذ فيه أوامره ونواهيه وكذلك صاحب القطر الآخر ، فإذا قام من ينازعه في القطر الذي قد ثبتت فيه ولايته وبايعه أهله كان الحكم فيه أن يقتل إذا لم يتب ، ولا تجب على أهل القطر الآخر طاعته ولا الدخول تحت ولايته لتباعد الأقطار"أ.هـ. وقال ابن القيم مبيناً أن عهده مع المشركين لم يكن عهدًا بين أبي بصير وبينهم حينما قتل الرسولين وانحاز بمن معه بالساحل : "وعلى هذا فإذا كان بين بعض ملوك المسلمين وبعض أهل الذمة من النصارى وغيرهم عهدٌ جاز لملك آخر من ملوك المسلمين أن يغزوهم ويغنم أموالهم إذا لم يكن بينه وبينهم عهد"أ.هـ.
ونصرة المسلم لأخيه المسلم المظلوم واجبة ، سواء كان الظالِم مسلمًا أو كافرًا، وسواء كانوا أفرادًا أو جماعات أو دولاً، إلا أن هذا مقيد في الشريعة بألا يكون بين المسلمين والكفار عهد وميثاق، قال تعالى: ﴿وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُم ْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاق﴾.
قال ابن كثير: يقول تعالى: وإن استنصروكم هؤلاء الأعراب الذين لَم يهاجروا فِي قتال دينِي، على عدو لهم فانصروهم، فإنه واجب عليكم نصرهم؛ لأنَّهم إخوانكم فِي الدين، إلا أن يستنصروكم على قوم من الكفار ﴿بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاق﴾ أي: مهادنة إلى مدة، فلا تخفروا ذمتكم، ولا تنقضوا أيْمانكم مع الذين عاهدتم. وهذا مروي عن ابن عباس . اهـ. التفسير (4/97).
قال ابن العربي: يريد إن دعوا من أرض الحرب عونكم بنفير أو مال لاستنقاذهم، فأعينوهم، فذلك عليكم فرض، إلا على قوم بينكم وبينهم عهد، فلا تقاتلوهم عليهم، يريد حتَّى يتم العهد أو ينبذ على سواء. اهـ. أحكام القرآن (2/887).
قال القرطبِي: إلا أن يستنصروكم على قوم كفار بينكم وبينهم ميثاق فلا تنصروهم عليهم، ولا تنقضوا العهد حتَّى تتم مدته. اهـ. الجامع لأحكام القرآن (8/57).
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: وقوله تعالى: ﴿إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاق﴾ أي: عهد بترك القتال، فإنَّهم إذا أراد المؤمنون المتميزون الذين لَم يهاجروا قتالهم، فلا تعينوهم عليهم؛ لأجل ما بينكم وبينهم من الميثاق. اهـ.
فمن هذا كله يستفاد أن كل دولة مستقلة في الحكم، فإذا كان بينها وبين دولة كافرة عهد وميثاق، فاعْتَدَت هذه الدولة الكافرة على دولة أخرى مسلمة، فلا يصح للدولة المسلمة أن تنصر أختها المسلمة على الكافرة ما دام بينها وبين الكافرة عهد وميثاق، ويؤكد هذا فعل النَّبِي فِي صلح الحديبية، فإنه لَم ينصر أبا بصير وأبا جندل على كفار قريش؛ لأن بينه وبين كفار قريش عهدًا وميثاقًا، وأصحابه الكرام الذين تحت ولايته لَم ينصروا أبا بصير وأبا جندل، بل التزموا بالعهد الذي عاهد عليه إمامهم وولي أمرهم رسول الله كفار قريش.
ومن ذلك أيضًا: أنه إذا كان بين بعض ملوك المسلمين وبعض ملوك الكفار عهد جاز لملك آخر من ملوك المسلمين أن يغزو الكفار، فليس عهد ولا ميثاق ملك ملزمًا للآخر من الملوك، بل كل دولة مستقلة وحدها.
فإن قيل: هل ندع الكفار يستحلون دماء وأعراض وأرض إخواننا المسلمين، ونحن واقفون مكتوفو الأيدي ننظر إليهم؟ أَوَ يرضى بِهذا مسلم؟.
فيقال: إن المسلمين الذين بينهم وبين الكفار عهد وميثاق لهم حالتان:
- الأولى: أن يكونوا أقوياء، ففي هذه الحالة يعلم المسلمون الأقوياءُ الكفار المعتدين أنَّهم إن لَم ينتهوا عن ظلم إخوانِهم فسينقضون العهد والميثاق كما قال تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ﴾. فإن انتهى الكفار، وإلا أعانوا إخوانَهم المسلمين.
- الثانية: أن يكونوا ضعفاء، وبقاء العهد والميثاق فيه مصلحة لهم فِي حفظ دينهم وأعراضهم ودنياهم، ونقضهم للميثاق يسبب مفسدة أكبر من النفع المترتب على نقضه: ففي مثل هذه الحالة يبقى هؤلاء المسلمون على عهدهم وميثاقهم ولا ينصرون إخوانَهم، كما هو حال رسول الله مع أبي بصير وأبي جندل، فإنه لَم ينقض العهد والميثاق؛ لأجل نصرة أبي بصير وأبي جندل، وتخليصهم من الكفار المعذبين لهم أشد العذاب.
وقال ابن القيم في ذكر أحكام صلح الحديبية ( زاد المعاد::3/272) : "ومنها : أن مصالحة المشركين ببعض ما فيه ضيم على المسلمين جائزة للمصلحة الراجحة ودفع ما هو شر منه ، ففيه دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما"أ.هـ. وقال (ص:371) : "إذا كان بالمسلمين ضعف وعدوهم أقوى منهم"أ.هـ.
والإسلام أباح معاقدة ومعاهدة الكفار ولو على شروط فيها حيف على المسلمين إذا كان في ذلك مصلحة راجحة للمسلمين كدفع ضرر عنهم خاصة عند الضعف والعجز ، وأوجب حفظ العهد الذي بيننا وبينهم ، إذا وفّوا بعهدهم وذمتهم. قال الله تعالى : فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [التوبة:4] ، ومما يبين معنى الآية السابقة :
(1) ما روى البخاري في {بَاب الشُّرُوطِ فِي الْجِهَادِ وَالْمُصَالَحَة ِ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ وَكِتَابَةِ الشُّرُوطِ} ، ورواه ابن حبان وَبَوَّب عَلِيْه {ذِكْرُ مَا يُسْتَحَبُّ لِلإِمَامِ اسْتِعْمَالُ المُهَادَنَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَعْدَاءِ اللهِ إِذَا رَأَى بِالمُسْلِمِيْن َ ضَعَفًا يَعْجَزُوْنَ عَنْهُمْ} ، وَبَوَّبَ عَلَيْه البَيْهَقِيُّ {بَاب الهُدْنَةِ عَلَى أَنْ يَرُدَّ الإِمَامُ مَنْ جَاءَ بَلَدَهُ مُسْلِمًا مِنْ المُشْرِكِيْنَ} عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ في قِْصةِ الحُدَيْبِيَةِ فِي حَدِيثٍ طَويْلٍ وفِيْه : "فَدَعَا النَّبِيُّ الْكَاتِبَ فَقَالَ النَّبِيُّ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، قَالَ سُهَيْلٌ : أَمَّا الرَّحْمَنُ فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا هُوَ ، وَلَكِـنْ اكْتُبْ : بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ : وَاللَّهِ لاَ نَكْتُبُهَا إِلاَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ : "اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ". ثُمَّ قَالَ : "هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ" ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنْ الْبَيْتِ وَلاَ قَاتَلْنَاكَ ، وَلَكِنْ اكْتُبْ : مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ : "وَاللَّهِ إِنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي : اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْـنُ عَبْدِ اللَّهِ". فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ : "عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَنَطُوفَ بِهِ" ، فَقَالَ : سُهَيْلٌ وَاللَّهِ لاَ تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً ، وَلَكِنْ ذَلِكَ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِـلِ فَكَتَبَ. فَقَالَ : سُهَيْلٌ : وَعَلَى أَنَّهُ لاَ يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلاَّ رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا ، قَالَ الْمُسْلِمُونَ : سُبْحَانَ اللَّهِ كَيْفَ يُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا. وفي رواية للبخاري في{بَاب مَا يَجُوزُ مِنْ الشُّرُوطِ فِي الإِسْلاَمِ وَالأَحْكَامِ وَالْمُبَايَعَة ِ} :" فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ أَبَا جَنْدَلِ بْنَ سُهَيْلٍ إِلَى أَبِيهِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو ، وَلَمْ يَأْتِ رَسُولَ اللَّهِ أَحَدٌ مِنْ الرِّجَالِ إِلاَّ رَدَّهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا". أقول : فانظر كيف عجز كبار الصحابة حاشا أبي بكر عن تحمل مثل هذه الشروط حتى قال سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ كما في رواية للشيخين : "اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ ؛ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ ، وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ النَّبِيِّ لَرَدَدْتُهُ". رواه البخاري – وهو في مسلم – في باب {إِثْمِ مَنْ عَاهَدَ ثُمَّ غَدَرَ وَقَوْلِ اللَّهِ الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ}.
- قال ابن قدامة (المغني:13/154) : "ومعنى الهدنة أن يعقد لأهل الحرب عقداً على ترك القتال مدة بعوضٍ وبغيرِ عوضٍ ، وتسمى مهادنة وموادعة معاهدة ، وذلك جائز بدليل قول الله تعالى : براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين[التوبة:1] ، وقال سبحانه وإن جنحوا للسلم فاجنح لها[الأنفال:61] ، وروى مروان ومسور بن مخرمة أن النبي صالح سهيل بن عمرو بالحديبية على وضع القتال عشر سنين ، ولأنه قد يكون بالمسلمين ضعفٌ فيهادنهم حتى يقوى المسلمون ، ولا يجوز ذلك إلا للنظر لمسلمين ، إما : أن يكون بهم ضعف عن قتالهم ، وإما أن يطمع في إسلامهم بهدنتهم ، أو في أدائهم الجزية ، والتزامهم أحكام الملة ، أو غير ذلك من المصالح"أ.هـ.
(2) روى مسلم عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ : مَا مَنَعَنِي أَنْ أَشْهَدَ بَدْرًا إِلاَّ أَنِّي خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي حُسَيْلٌ قَالَ فَأَخَذَنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ ، قَالُـوا : إِنَّكُمْ تُرِيدُونَ مُحَمَّدًا ؟ فَقُلْنَا : مَا نُرِيدُهُ مَا نُرِيدُ إِلاَّ الْمَدِينَةَ ، فَأَخَذُوا مِنَّا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَنَنْصَرِفَنَّ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلاَ نُقَاتِلُ مَعَهُ. فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ ، فَقَالَ : "انْصَرِفَا نَفِيْ لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَنَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ". قال ابن القيم (زاد المعاد:3/125) : "وكان من هديه أن أعداءه إذا عاهدوا واحداً من أصحابه على عهد لا يضر بالمسلمين من غير رضاه أمضاه لهم كما عاهدوا حذيفة وأباه الحسيل أن لا يقاتلاهم معه ، فأمضى لهم ذلك وقال لهما : [انصرفا نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم]"أ.هـ.
(3) روى أحمد وأبو داود وصححه ابن حبان والحاكم ، وبوّب عليه ابن حبان : {ذكر الإخبار عن نفي جواز حبس الإمام أهل العهد وأصحاب بردهم في دار الإسلام} ، عن أَبِي رَافِعٍ قَالَ : بَعَثَتْنِي قُرَيْشٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَلَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ أُلْقِيَ فِي قَلْبِي الإِسْلامُ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي وَاللَّهِ لاَ أَرْجِعُ إِلَيْهِمْ أَبَدًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ :إِنِّي لاَ أَخِيسُ بِالْعَهْدِ وَلاَ أَحْبِسُ الْبُرُدَ ، وَلَكِنْ ارْجِعْ فَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِكَ الَّذِي فِي نَفْسِكَ الآنَ فَارْجِعْ. قَالَ : فَذَهَبْتُ ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ فَأَسْلَمْتُ" : قـال ابن القيم (زاد المعاد:3/138) : "وكان هديه أيضاً ألا يحبس الرسول عنده إذا اختار دينه فلا يمنعه من اللحاق بقومه ، بل يرده إليهم كما قال أبو رافع : بعثتني قريش إلى النبى ، فلما أتيته وقع في قلبي الإسلام فقلت : يا رسول الله! لا أرجع إليهم فقال : (إني لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد ، ارجع إليهم فإن كان في قلبك الذي فيه الآن فارجع) ، قال أبو داود : وكان هذا في المدة التي شرط لهم رسول الله أن يرد إليهم من جاء منهم وإن كان مسلماً"أ.هـ.
ولذا فعلى المسلم أن لا يندفع لمجـرد العاطفه ليعترض على المعاهدات دون النظر في الأدلة كلها على ضوء القواعد الكلية ، مع النظر في عواقب الأمور التي لا يحسنها في الغالب إلا من آتاه الله الرسوخ في العلم والفهم من ورثة الرسول من أهل العلم ، فإنه لا مجال للاستحسانات والتخرصات والأهواء في ما يتعلق بمصالح الأمة الكبرى ، فهذا عمرُ يعترض على الصلح بالدنية ، وعلي يمتنع عن محو البسملة والرسالة استعظاماً لذلك ، وسهلٌ لو كان له من الأمر شيء لرد على رسول الله أمره ، وهؤلاء الصحابة يمتنعون عن حلق رؤسهم من شدة غضبهم ، والنبي صابر على أمر الله ، صابر على صدّ أعدائه عن البيت الحرام وحميتهم الجاهلية ، وصابر على توقف أصحابه في الاستجابة لأمره ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (منهاج السنة النبوية:8/409) : "ولا ريب أن الذي حملهم على ذلك حب الله ورسوله وبغض الكفار ومحبتهم أن يظهر الإيمان على الكفر ، وأن لا يكون قد دخل على أهل الإيمان غضاضة وضيم من أهل الكفر ، ورأوا أن قتالهم لئلا يضاموا هذا الضيم أحب إليهم من هذه المصالحة التي فيها من الضيم ما فيها ، لكن معلوم وجوب تقديم النص على الرأي والشرعِ على الهوى. فالأصل الذي افترق فيه المؤمنون بالرسل والمخالفون لهم تقديم نصوصهم على الآراء وشرعهم على الأهواء ، وأصل الشر من تقديم الرأي على النص والهوى على الشرع ... والقصة كانت عظيمة بلغت منهم مبلغا عظيما لا تحمله عامة النفوس ، وإلا فهم خير الخلق وأفضل الناس وأعظمهم علماً وإيماناً وهم الذين بايعوا تحت الشجرة وقد رضي الله عنهم وأثنى عليهم ، وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار"أ.هـ. ويقول ابن القيم ضمن فوائد أحكام صلح الحديبية(زاد المعاد:3/303) : "فكـل من التمس المعاونة على محبوب لله تعالى مرض له ، أجيب إلى ذلك كائناً من كان ، ما لم يترتب على إعانته على ذلك المحبوب مبغوض لله أعظم منه ، وهذا من أدق المواضع وأصعبها وأشقها على النفوس ، ولذلك ضاق عنه من الصحابة من ضاق ، وقال عمر ما قال حتى عمل له أعمالاً بعده"أ.هـ.
و المقصود من هذا الباب هو الاسترشاد بالهدي النبوي من الأخذ بالأسباب الشرعية والحسية بتفويت أعلى المفاسد عن المسلمين ولو بالوقوع بأدناهما كما هي القواعد الكلية المقررة ، ومن ذلك :
1- الركون إلى الصلح ولو ببعض التنازلات لصالح المشركين كما فعل النبي في الحديبية حين مسح "بسم الله" ، و "رسول الله" ، وأقر تسليم بعض من أسلم للكفار ، قال ابن القيم(زاد المعاد:3/272) : "ومنها : أن مصالحة المشركين ببعض ما فيه ضيم على المسلمين جائزة للمصلحة الراجحة ودفع ما هو شر منه ، ففيه دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما"أ.هـ.
2- الدخول بمحالفات مع بعض الكفرة الأقوياء ، فقد كانت خزاعة مسلمها وكافرها في جيش النبي في غزوة الفتح ، وروى أبو داود فِي {بَاب فِي صُلْحِ الْعَدُوِّ} ، وابن ماجة وأحمد بإسناد صحيح عن ذِي مِخْبَرٍ قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ : سَتُصَالِحُونَ الرُّومَ صُلْحًا آمِنًا ، فَتَغْزُونَ أَنْتُمْ وَهُمْ عَدُوًّا مِنْ وَرَائِكُمْ" ، قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز (فتاوى ومقالات:6/185) :"فهذا معناه الاستعانة بهم على قتال العدو الذي من وراءنا"أ.هـ.
3- الدخول تحت حماية عدو كافر أقوى من العدو الصائل لدفعه ، فقد أمر أصحابه بالدخول تحت حماية ملك الحبشة النصراني ، ودخل مكة تحت حمايـة المطعم بن عدي ، وأبو بكر تحت حماية ابن الدَّغِنَة ، قال ابن القيم (زاد المعاد:1/95) : "فأذن لهم رسول الله في الهجرة إلى الحبشة ، وقـال : إن بها ملكًا لا يظلم الناس عنده ... فأقاموا في الحبشة في أحسن جوار"أ.هـ.
4- دفع المال للصائل لدفعه عن بلاد المسلمين ، فقد روى البزار والطبراني أن النبي أراد في الخندق إعطاء بعض الكفار مالاً ليردهم عن المدينة ، قال ابن القيم(زاد المعاد:3/241) : "أراد رسول الله أن يصالح عيينة بن حصن والحارث بن عوف رئيسي غطفان على ثلث ثمار المدينة وينصرفا بقومهما وجرت المراوضة على ذلك"أ.هـ. بل ذكر العلماء أن من المؤلفة قلوبهم الكافر يعطى من الزكاة لدفع شره ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية (السياسة الشرعية:1/46): " والمؤلفة قلوبهم نوعان: كافر ومسلم، فالكافر إما أن تُرْجَى بعطيته منفعة كإسلامه ، أو دفع مضرّته إذا لم يندفع إلا بذلك"أ.هـ.
4- إذا تُيِقنَ عدم القدرة على مقاومة العدو وحصول الفتنة بالدين وجب الفرار إلى مكان يسلمون فيه على دينهم لقوله تعالى فيهم أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً ، ولقوله "مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ عَنْهُ" ، وقول الله عزوجل لعيسى عليه السلام "حَرِّزْ عِبَادِي إِلَى الطُّورِ". قال الكاساني في بدائع الصنائع (7/98) : "الغزاة إذا جاءهم جمع من المشركين مالا طاقة لهم به وخافوهم أن يقتلوهم فلا بأس أن ينحازوا إلى بعض أمصار المسلمين"أ.هـ. وقد ذكر ذلك الطاهر بن عاشور من الحالات الست التي يتغلب فيها الكفار فقال(التحرير والتنوير:1/1014) : "الحالة الأولى : أن يكون المؤمن ببلد يفتن فيه في إيمانه فيرغم على الكفر ، وهو يستطيع الخروج فهذا حكمه حكم الذين نزلت فيهم الآية"أ.هـ.
5- أو يصالحوهم على يكون للكفار حكم القوة وتجري الأحكام بينهم على مقتضى الشريعة ، وقد أشار شيخ الإسلام إلى ذلك حينما سئل عن بلدة "ماردين" لا تجرى عليها أحكام الإسلام وجندها مسلمون ، فقال (مجموع الفتاوى:28 /240) : "والمقيم بها إن كان عاجزًا عن إقامة دينه وجبت الهجرة عليه ، و إلا استحبت ولم تجب"أ.هـ. وقال ابن عاشور (التحرير والتنوير:1/1014) : "الحالة الرابعة : أن يتغلب الكفار على بلد أهله مسلمون ولا يفتنوهم في دينهم ولا في عبادتهم ولا في أموالهم، ولكنهم يكون لهم حكم القوة عليهم فقط وتجري الأحكام بينهم على مقتضى شريعة الإسلام ، كما وقع في صقلية حين استولى عليها رجير النرمندي . وكما وقع في بلاد غرناطة حين استولى عليها طاغيـة الجلالقة على شروط منها احترام دينهم ، فإن أهلها أقاموا بها مدة وأقام منهم علماؤهم ، وكانوا يلون القضاء والفتوى والعدالة والأمانة ونحو ذلك ، وهاجر فريق منهم فلم يعب المهاجر على القاطن ولا القاطن على المهاجر".
وقال ابن القيم (زاد المعاد:3/267) في فوائد قصة الحديبية : "ومنها : أن الاستعانة بالمشرك المأمون في الجهاد جائزة عند الحاجة ؛ لأن عينه الخزاعي كان كافراً إذ ذاك ، وفيه من المصلحة أنه أقرب إلى اختلاطه بالعدو وأخذه أخبارهم"أ.هـ.
والاستعانة بالكفار لمصلحة حماية بيضة الإسلام والمسلمين جائزٌ شرعاً ، وقد ذكرت هذه المسألة في أبواب الفقه لا في أبواب الاعتقاد على اعتبار أنها مسألة خلافية ، وحتى من اختار من العلماء عدم الاستعانة بالكفار لم يصم القائلين بها بموالاة الكفار أو بالتهوين من شأنها : فهذا ابن المنذر يذكر في كتابه (الأوسط:11/177)" {باب ذكر الاختلاف في المشرك يستعان به على العدو} ، ويختار عدم جواز الاستعانة بهم ، ثم يقول :"فإن استعان بهم إمام أعطوا أقل ما قيل ، وهو أن يرضخ لهم شيئاً ، إذ لا نعلم حجة توجب أن يسهم لهم"أ.هـ. قال سماحة الشيخ ابن باز(مجموع فتاوى ومقالات:7/364) : "ومما يجب التنبيه عليه أن بعض الناس قد يظن أن الاستعانة بأهل الشرك تعتبر موالاة لهم ، وليس الأمر كذلك فالاستعانة شيء والموالاة شيء آخر. فلم يكن النبي حين استعان بالمطعم بن عدي ، أو بعبد الله بن أريقط ، أو بيهود خيبر مواليا لأهل الشرك ، ولا متخذا لهم بطانة ، وإنما فعل ذلك للحاجة إليهم واستخدامهم في أمور تنفع المسلمين ولا تضرهم. وهكذا بعثه المهاجرين من مكة إلى بلاد الحبشة ليس ذلك موالاة للنصارى ، وإنما فعل ذلك لمصلحة المسلمين ، وتخفيف الشر عنهم. فيجب على المسلم أن يفرق ما فرق الله بينه ، وأن ينزل الأدلة منازلها ، والله سبحانه هو الموفق والهادي لا إله غيره ولا رب سواه"أ.هـ.
الخلاف في استعانة المسلمين بالكفار في القتال
اختلف الفقهاء في جواز الاستعانة بغير المسلمين في موطنين :
(الموطن الأول) : الاستعانة بهم على قتال أهل الحرب : فذهب الحنفية والشافعية والحنابلة في رواية مشهورة في مذهبهم ـ وهي رواية عن الإمام مالك ـ إلى جواز الاستعانة بغير المسلم عند الحاجة ، واشترط الشافعية والحنابلة أن يعرف الإمام حسن رأيهم في المسلمين ويأمن خيانتهم. وزاد الشافعي أن يكون بالمسلمين قلة وبالمشـركين كثرة مع كون حكم الإسلام هو الغالب عليهم ، وتكره الاستعانة بهم إذا كان حكم الشرك هو الظاهر. وأما المالكية فالرواية الأولى ما تقدم عن الإمام مالك بالجواز مطلقاً. والثانية : المنع مطلقاً ، لكن يجوز أن يكونوا في خدمات الجيش. والثالثة : وهي المعتمدة عندهم : منع الاستعانة بالمشرك , لكن لا يمنع إذا خرج من تلقاء نفسه. (الموطن الثاني) : الاستعانة بهم على قتال البغاة : فذهب المالكية والشافعية والحنابلة على تحريم الاستعانة بالكفار في قتال البغاة ; لأن القصد كفهم ، والكفار لا يقصدون إلا قتلهم. فإن دعت الحاجة إلى الاستعانة بهم جاز بشرط القدرة على كف المستعان بهم عن قتلهم. وأجاز الحنفية الاستعانة بهم على قتال البغاة ولو لم تكن هناك حاجة بشرط أن يكون حكم أهل العدل هو الظاهر ; لأن أهل العدل يقاتلون لإعزاز الدين , والاستعانة على البغاة بهم كالاستعانة عليهم بأدوات القتال. انظر : المغني لابن قدامة(13/98) ، التمهيد(11/123) ، والافصاح لابن هبيرة(2/286) ، والموسـوعة الفقهية (مفردة : الجهاد - الاستعانة بغير المسلمين على قتال العدو)
وأدلة الفريقين في جواز الاستعانة بالكفار ما يلي :
أدلة المانعين : استدل المالكية بحديث رواه مسلم وأصحاب السنن عَنْ عَائِشَةَ أن النَّبِيُّ قال لمشرك : "فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ". وهذا فيه اختلاف مع غرابة في إسناده ، ولعل البخاري اجتنب إخراجه لذلك ، واكتفى الترمذي بالحكم على الحديث بقوله : "حسن غريب" ، وعامة العلماء ـ ومنهم مسلم ـ تلقوه بالقبول لرواية الإمام مالك الحديث كما هي عادة المحدثين في أسانيد أهل المدينة ، وله شاهدان ضعيفان.
أدلة القائلين بالجواز للحاجة وهي كثيرة :
(الدليل الأول) : دخول قبيلة خزاعة في حلف النبي وفيهم مشركون ، وقاتلوا مع النبي قريش عام الفتح ، قال سماحة الشيخ ابن باز(فتاوى ومقالات:6/172) :"ولا شك أن الاستعانة بغير المسلمين في الدفاع عن المسلمين وعن بلادهم وحمايتها من كيد الأعداء أمر جائز شرعاً ، بل واجب محتم عند الضرورة إلى ذلك لما في ذلك من إعانة للمسلمين وحمايتهم من كيد أعدائهم وصد العدوان المتوقع عنهم ... وكانت خزاعة مسلمها وكافرها في جيش النبي في غزوة الفتح ضد كفار أهل مكة"أ.هـ.
(الدليل الثاني) : روى أحمد وأبو داود بإسناد صحيح قال النبي : "سَتُصَالِحُو َ الرُّومَ صُلْحًا آمِنًا ، فَتَغْزُونَ أَنْتُمْ وَهُمْ عَدُوًّا مِنْ وَرَائِكُمْ ، فَتُنْصَرُونَ وَتَغْنَمُونَ وَتَسْلَمُونَ" ، ذكره ابن حبان في باب {ذِكْرِ الإِخْبَارِ عَنْ وَصْفِ مُصَالَحَةِ المُسْلِمِيْنَ الرُّوْمَ} ، والمجد في "المنتقى" في باب {ما جاء في الاستعانة بالمشركين} ، قال سماحة الشيخ ابن باز (فتاوى ومقالات:6/185) مبيناً جواز استعانة المسلم بكافر ليدفع شـر كافر آخر أو مسلم معتد : "وصح عنه أنه قال : "إنكم تصالحون الروم صلحا آمنا ثم تقاتلون أنتم وهم عدوا من ورائكم" فهذا معناه الاستعانة بهم على قتال العدو الذي من وراءنا"أ.هـ.
(الدليل الثالث) : شهود كثير من المشركين غزوة حنين مع النبي في جيش ، كما روى مسلم في "صحيحه" عَنْ صَفْوَانَ بنِ أُمَيَّةَ قَالَ : وَاللَّهِ لَقَدْ أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ مَا أَعْطَانِي وَإِنَّهُ لأَبْغَضُ النَّاسِ إِلَيَّ ، فَمَا بَرِحَ يُعْطِينِي حَتَّى إِنَّهُ لأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ". قال الحافظ ابن حجر (6/179) وذكر نسخ حكم عدم الاستعانة بالكافر : "وحجة النسخ شهود صفوان بن أمية حنيناً مع النبي وهو مشرك ، وقصته مشهورة في المغازي"أ.هـ.
(الدليل الرابع) : استعانة النبي بدروع صفوان بن أمية وهو مشرك ، قال الإمام الشافعي (الأم:4/372) : "واستعان رسول الله في غزاة حنين سنة ثمان بصفوان بن أمية وهو مشرك"أ.هـ. وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز (مجموع فتاوى ومقالات:6/109) : "وقال يوم بدر : لا أستعين بمشرك ، ولم يقل لا تستعينوا ، بل قال : لا أستعين لأنه ذلك الوقت غير محتاج لهم ، والحمد لله معه جماعة مسلمون ، وكان ذلك من أسباب هداية الذي رده حتى أسلم. وفي يوم الفتح استعان بدروع من صفوان بن أمية وكان على دين قومه"أ.هـ.
(الدليل الخامس) : استعانة النبي بالمنافقين في غزواته خاصة في يوم أحد والخندق والمصطلق: روى البخاري ومسلم قصة انخذال المنافقين عن النبي فَنَزَلَتْ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ". قال الشيخ السعدي : "لما أمروا بالقتال وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أي : ذبًا عن دين الله وحماية له وطلباً لمرضاة الله أَوِ ادْفَعُواْ عن محارمكم وبلدكم إن لم يكن لكم نية صالحة"أ.هـ. وقال الصنعاني (سبل السلام:1/199): "ويجوز الاستعانة بالمنافق إجماعاً لاستعانته بعبد الله بن أبيّ وأصحابه"أ.هـ.
(الدليل السابع) : استعانة النبي في هجرته بدليل عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ كما روى البخاري فِي {بَاب اسْتِئْجَارِ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ} ، قال سماحة الشيخ ابن باز (مجموع فتاوى ومقالات:6/109) مبينًا جواز الاستعانة بغير المسلمين : "واستعان بعبد الله بن أريقط في سفره وهجرته إلى المدينة - وهو كافر - لما عرف أنه صالح لهذا الشيء وأن لا خطر منه في الدلالة"أ.هـ.
(الدليل الثامن) : استجارة النبي بمطعم بن عدي لما رجع من الطائف وخاف أهل مكة فحماه ، قال سماحة الشيخ ابن باز (مجموع فتاوى ومقالات:6/109) : "فاستجار بالمطعم وهو من كبارهم في الكفر وحماه لما دعت الضرورة إلى ذلك ، وكان يعرض نفسه عليه الصلاة والسلام على المشركين في منازلهم في منى يطلب منهم أن يجيروه حتى يبلغ رسالة ربه عليه الصلاة والسلام على تنوع كفرهم"أ.هـ.
(الدليل التاسع) : روى البخاري : "إِذْ جَاءَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ خُزَاعَةَ ـ وَكَانُوا عَيْبَةَ نُصْحِ رَسُولِ اللَّهِ " ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية (مجموع الفتاوى:4/114) : "وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله مسلمهم وكافرهم ، وكان يقبل نصحهم وكل هذا في الصحيحين ، وكان أبو طالب ينصر النبي ويذب عنه مع شركه ، وهذا كثير فإن المشركين وأهل الكتاب : فيهم المؤتمن كما قال تعالى وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً"أ.هـ.
(الدليل العاشر) : اتخاذ النبي عيناً مأموناً ففي صحيح البخاري "وَبَعَثَ عَيْنًا لَهُ مِنْ خُزَاعَةَ" ، قال ابن القيم (زاد المعاد:3/267) في فوائد قصة الحديبية : "ومنها : أن الاستعانة بالمشرك المأمون في الجهاد جائزة عند الحاجة ؛ لأن عينه الخزاعي كان كافراً إذ ذاك ، وفيه من المصلحة أنه أقرب إلى اختلاطه بالعدو وأخذه أخبارهم"أ.هـ.
فأدلة القائلين بالجواز تدور على قاعدة أن الكفار ليسوا على درجة واحدة في العداوة ، ففيهم المحارب ، وفيهم المعاهد والمستأمن معصوم الدم. وفيهم الخائن الغادر ، وفيهم المأمون صاحب النصح : قال شيخ الإسلام رحمه الله (مجموع الفتاوى:4/114) : "وكما تجوز معاملتهم على الأرض كما عامل النبي يهود خيبر ، وكما استأجر النبي هو وأبو بكر لما خرجا من مكة مهاجرين ابن أريقط رجلاً من بني الديل هادياً خريتاً ـ والخريت الماهر بالهداية ـ ، وائتمناه على أنفسهما ودوابهما ، ووعداه غار ثور صبح ثالثة. وكانت خزاعة عيبة نصـح رسول الله مسلمهم وكافرهم ، وكان يقبل نصحهم وكل هذا في الصحيحين ، وكان أبو طالب ينصر النبي ويذب عنه مع شركه ، وهذا كثير فإن المشركين وأهل الكتاب : فيهم المؤتمن كما قال تعالى وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً[آل عمران:75] ، ولهذا جاز ائتمان أحدهم على المال ، وجاز أن يستطب المسلم الكافر إذا كان ثقة نص على ذلك الأئمة كأحمد وغيره ، إذ ذلك من قبول خبرهم فيما يعلمونه من أمر الدنيا وائتمان لهم على ذلك ، وهو جائز إذا لم يكن فيه مفسدة راجحة مثل ولايته على المسلمين وعلوه عليهم ونحو ذلك"أ.هـ.
ولذا فالقول الراجح هو قول من جمع بين الأدلة ، وذلك بحمل المنع على غير الحاجة أو الخوف من غدر الكافر ، والجواز على الحاجة وحصول المصلحة المتحققة مع الأمن من غدرهم وغلبتهم ، أو لغير ذلك من أوجه الجمع التي قررها المحققون من الأئمة : قال الإمام الشافعي(الأم:4/261) : "الذي روى مالك كما روى رد رسول الله مشركًا أو مشركين في غزاة بدر وأبى أن يستعين إلا بمسلم ، ثم استعان رسول الله بعد بدر بسنتين في غزاة خيبر بعدد من يهود بني قينقاع كانوا أشداء ، واستعان رسول الله في غـزاة حنين سنة ثمان بصفوان بن أمية وهو مشرك. فالرد الأول : إن كان لأن له الخيار أن يستعين [بمشرك] أو يرده كما يكون له رد المسلم من معنى يخافه منه أو لشدة به ، فليس واحد من الحديثين مخالفًا للآخر. وإن كان رده لأنه لم ير أن يستعين بمشرك ، فقد نسخه ما بعده من استعانته بمشركين ، فلا بأس أن يستعان بالمشركين على قتال المشركين إذا خرجوا طوعًا"أ.هـ. وقال سماحة الشيخ ابن باز (مجموع فتاوى ومقالات:7/363) : "وأما الاستعانة ببعض الكفار في قتال الكفار عند الحاجة أو الضرورة : فالصواب أنه لا حرج في ذلك إذا رأى ولي الأمر الاستعانة بأفراد منهم ، أو دولة في قتال الدولة المعتدية لصد عدوانها ؛ عملاً بالأدلة كلها. فعند عدم الحاجة والضرورة لا يستعان بهم ، وعند الحاجة والضرورة يستعان بهم على وجه ينفع المسلمين ولا يضرهم ، وفي هذا جمع بين الأدلة الشرعية"أ.هـ.