إن من نكد الدنيا عليك أن تعيش بين المُفرِطين وَالمُفَرَّطين، فيرميك المُفرِطين بالتفريط ويرميك المُفَرِّطين بالإفراط وأنت إنما اريد الوسطية والعدل والإنصاف والحق، ويزيدك عبئا أنك ترجوا أن يهديهم الله بك إلى الحق والاعتدال فأنت بينهم بمحض إرادتك تتلقى الاتهامات والتشنيع والتجهيل وهم في راحة من بعضهم، إذ يرى كل منهم الآخر شيطان مُضِل فينصرف عنه ولا يلقي له بالا ولا ينشغل به، لكن كل منهم يظن أنك مسكين قد اجتذبك الآخر إليه فهو يحاول ردك إلى ما يزعمه ويدعيه من الحق وفي ظنه أنه ينجيك كما في ظنك أنك تنجيه.

فلا سبيل لراحتك إن استراحوا فإن هم كفوا عنك لم تكفف عنهم، وأنت في ذلك إنما يحملك الحرص هليهم والرأفة بهم وحب الخير لهم، وتنتهج الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة وهم بين رامٍ بالتخلف والرجعية والانغلاق والغباء ورامٍ بالجبن والخنوع والمهادنة والتقصير، والحق بينكم كليلى بين الرجال كل يدعي بها وصلا وإنما هي حرة شريفة لا تصل إلا واحدا يستحقها، فكن أنت الواحد ولا يحملنك شنئانهم على ألا تعدل، ولا رميهم إياك بالباطل على أن ترميهم به، فإنك إن فعلت كان ذلك قدحا منك فيما تدعيه من الحق إذ لم يورث الحق فيك حقا، وكان ذلك صرفا لهم عن قبوله منك وانتصارا منك لنفسك لا له.

وكن كالغيث أينما وقع نفع، وما علمنا غيثا يسأل الناس أفي حاجة هم؟، بل هو يقع فتخضر الأرض ثم تزهر وتثمر فينال من خيرها العاقل ويعرض عنه الغافل الجاهل، فلا يحملنك الإعراض والصدود على اليأس والتخلف عن الحق ودعوته فلأن يهدي بك الله رجلا واحدا خير لك من حمر النعم، ولو أنك دعوت ألفَ ألفٍ فلم يسمع لك منهم إلا واحداً لكان في هذا كفاية ونعمة، ولو لم يسمع منهم أحد لكان ذلك معذرة إلى ربك وقضاء لما عليك من حق الدعوة إلى الحق، ولعله أن يُهدى بك بشرا ما يوما ما.

واعلم أن هذا سبيل يكثر فيه البلاء فالصبر الصبر، اصبر على مشقة الدعوة والإرشاد واصبر على أذى الناس فيه واستهزائهم وتشنيعهم عليك، فلابد دون الشهد من إبر النحل، تذكر قول الحكماء "جَزاءُ الصَّبْرِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: السُّرُورُ فِي نَفْسِهِ، وَالْمَحْمَدَةُ عِنْدَ النَّاسِ، وَالثَّوَابُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ الْحِلْمَ يَكُونُ مُرًّا فِي أَوَّلِهِ، وَحُلْوًا فِي آخِرِهِ"، واعلم أنك إن صدقت في حبك ورغبتك في الخير لهم فإنه لن يكون منك لهم إلا الرفق واللين والصبر على الأذى ترغيبا لهم واستمالة لقلوبهم وإنما الإنسان أسير الإحسان، والخير في عموم المسلمين غالب على الشر ولا يرد الإحسان بالإساءة إلا من غلب شرُّه خيرَه، واعلم أنك أحب الناس إلى من هداه الله على يديك وقد أذاك، فإنه يَبِرُّكَ بما أتاه الله من الهدى وبحقك كمسلم عليه ويَبِرُّكَ فوق ذلك استغفارا لما بدر منه تجاهك وعرفانا بجميلك ويقينا بحبك إذ صبرت على أذاه رغبة في الخير له،فاصبر وكن بالحق للحق حق.