اجتهاد أصحاب رسول الله ﷺ في العبادة:
هناك في الصحابة من فعل مثلمحمد بن إسماعيل وصبر علي لسعه الزنبور سبع عشرة وخبره خبر عجيب جدًا رواه الإمام أحمد بن حنبل وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم عن جابر -رضي الله عنه-
فذكر أن النبي ﷺ أغار على قوم من المشركين ثم أسروا امرأة رجل من المشركين فلما جاء صاحب المرأة -زوج المرأة من المشركين- أين امرأتي قالوا له أن المسلمون أغاروا علينا وأخذوا زوجتك فأقسم الرجل ليُريقنَ في أصحاب رسول الله ﷺ دمًا، بدأ يبحث أين ذهب المسلمون،ليستنق ذ المرأة، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- وصل إلى مكان من الأماكن و عرس الجيش، فقال النبي ﷺ من يكلأنا الليلة -أي يحرسنا - فقام رجلان( رجل مهاجري ورجل أنصاري) في رواية خوات بن جبير عند البيهقي في دلائل النبوة أن الأنصاري (كان عباد بن بشر) والمهاجري (كان عمار بن ياسر) فقال الأنصاري عباد بن بشر لعمار بن ياسر تكفيني أول الليل وأكفيك آخره وإلا تكفيني أخره وأكفيك أوله، قال عمار بن ياسر اكفيني أول الليل، نام عمار بن ياسر وقام عباد بن بشر يصلي، وهو يصلي وصل الرجل المشرك صاحب المرأة وجد واحدا واقفاً ووجد خيام عرف أنه النبي ﷺ مع الصحابة والذي يقف هو الحارس الذي يحرس المسلمين، عرف هذا المشرك أن هذا الواقف هو ربيئة القوم -أي طليعته- والذي يقوم على حماية الجيش، كان مع المشرك السهم والنبل فضربه بسهم، فوقع في رجل عباد بن بشر فانتزعه عباد ورماه وأكمل صلاته فضربه بسهم ثانٍ فانتزعه ورماه ولم يقطع الصلاة فضربه بسهم ثالث فانتزعه ورماه ثم ركع، وأيقظ المهاجري عمار بن ياسر الذي كان ينام بجانبه فلما استيقظ عمار إذا عباد بن بشر يموج دمًا، فعندما عرف المشرك أنه أيقظ من بجانبه وأنهم سيتبعونه فهرب، فعمار بن ياسر يقول له، أو المهاجري يقول له يرحمك الله هلا أيقظتني عندما رماك قال والله لولا أنني على ثغر من ثغور المسلمين وأخشى أن يضيع أو أن أضيع الأمانة، لأن النبي ﷺ قال من يكلؤنا؟ فالمفروض أنه لا ينشغل بالصلاة عن حماية المسلمين، لكنه ما أحب أن يقف بل أراد أن يصلي وإذا استدعى الأمر أنه يمكن يخرج من الصلاة أو أنه يتمها سريعًا لولا أنني على ثغر من ثغور المسلمين أخشى أن أضيعه فوالله ما خرجت من صلاتي حتى لو تقطعت نفسي. فهذا الصبر الذي يمكن أن يصبره الإمام البخاري على لدغ هذا الزنبور أعتقد أنه أخذه من مثل حكاية جابر بن عبد الله الأنصاري -رضي الله عنهما.
يقول محمد بن أبي حاتم الوراق: ركبنا إلى الرمي، كان العلماء قديماً يتعلمون الرمي، لأنهم كانوا يرابطون على الثغور برغم أن دولة الإسلام كانت منتشرة وما كان هناك عدو يستطيع أن ينظر إلى المسلمين مجرد نظرة، لكن وردت أحاديث كثيرة في فضل الرباط، أنك تأتي على الثغور المتاخمة للعدو وتذهب بنية الرباط فكان علماء الشريعة جميعًا يذهبون إلى هذا الرباط ويظل بالأيام الطويلة أو الأشهر الطويلة ويرجع إلى بيته ثم يرجع إلى الثغور وهكذا.
بعض العلماء كابن المبارك رابط عشرين سنة: ليس معني ذلك أنه ظل مرابطاً عشرين سنة ولكنه يذهب ويرجع يذهب مثلاً أسبوع ويرجع ثم بعد شهر يرجع أسبوع وهكذا أي على مدار عشرين عامًا كان يرابط.
فكانوا يتعلمون الرمي حتى إذا جد الجد يستطيعون أن يدافعوا عن بيضة الإسلام.
مايدل علي أن الإمام البخاري كان يتدين بما وصله من العلم.
يقول محمد بن أبي حاتم الوراق: أنهم خرجوا إلى الرمي مرة مع الإمام البخاري والإمام البخاري كان ماهرًا في الرمي، كان هناك قنطرة على نهر والقنطرة مثبته بأوتاد فالإمام البخاري يضرب بسهمه فوقع في وتد القنطرة فأخل به، فعندما حدث ذلك ترك الرمي وقال :لمحمد بن أبي حاتم الوراق اذهب إلى صاحب القنطرة فقل له إما أن نرفع الوتد ونضع وتداً مكانه وإما أعطيك غرامة ما أفسدت، كان صاحب القنطرة ( اسمه حميد بن الأخضر) فلما ذهب محمد بن أبي حاتم الوراق لحميد بن الأخضر يخبره بما قاله الإمام محمد بن إسماعيل ضرب وتد القنطرة وأخل به ويريد أن يدفع عوض عن هذا فوجد حميد بن الأخضر في نفسه وقال ما كنت أتمنى أن البخاري يحتشمني في وتد، فإن كل ملكي فداءً له والله ولو قلت نفسي لكذبت لكن كل مالي فداءً لمحمد بن إسماعيل البخاري،.
فعندما وصل هذا الكلام للإمام محمد بن إسماعيل البخاري فمن سروره بسقوط المظلمة حدث الغرباء بخمسمائة حديث وتصدق بثلاث مائة درهم مع أن إصلاح الوتد قد لا يتكلف ثلاث مائة درهم كان ممكن يصلحه أو كان ممكن البخاري لا يخرج الصدقة، لكن إمام يتدين بما وصله من العلم ويعلم أن المفلس يوم القيامة يأتي بصلاة وصيام وحج وسائر أعمال البر لكنه يأتي وقد ظلم هذا وشتم هذا وسفك دم هذا فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت أخذ من سيئاتهم ثم طرحت عليه ثم طرح في النار، كما قال رسول الله -ﷺ، .حدثهم بخمسمائة حديث، فهذا يعتبر الغنيمة الباردة بالنسبة لطلبة الحديث،
مايدل علي أن بعض علماء الحديث كان عسيرًا في الرواية من باب تربية الطالب.
كان بعض علماء الحديث لا يعطي الحديث للطالب إلا وتكاد روحه أن تخرج مثل الأعمش -رحمه الله- سليمان بن مهران الأعمش وكان من تلاميذه شعبة بن الحجاج وسفيان الثوري وزهير بن معاوية وهشام الدستوائي، جماعة من الكبار فطاحل،.يذكر الخطيب البغدادي في كتاب شرف أصحاب الحديث:أن الأعمش اشترى كلبًا لأصحاب الحديث، عندما يسمع دبيب أرجلهم ناحية البيت يطلق الكلب عليهم فتصور شعبة لما يجري أمام كلب أو سفيان الثوري,هم يجرون أمام الكلب والكلب يرجع ويدخل البيت فيعاودون الكرة مرة أخرى ويرجعون يطلع عليهم الكلب وهكذا، في يوم من الأيام اقتربوا من البيت بحذر حتى لا يخرج عليهم الكلب فهجموا عليه في داره، فلما رآهم بكى، قالوا ما يبكيك يا أبا محمد، قال مات الذي كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
الأعمش حديثه يملأ دواوين السنة.لكنه كان عسيرًا من باب تربية الطالب، حتى قال له مرة رجل يا أبا محمد (الأعمش) حديث كذا وكذا ما إسناده فأخذ بحلقه ولزقه في الحائط وقال هذا إسناده.
وذات مرة تلميذه أبو بكر بن عياش قالوا له يا أبا بكر حدثنا بحديث قال لهم اختاروا السند أو المتن فقالوا له أنت عندنا إسناد، فقال لهم كان إبراهيم يدحرج الدن._الدن _شيء مستدير فشح عليهم أن يعطيهم ما ينفعهم،.
كان خطه عند بعض علماء الحديث أن يكون عسيرًا في الرواية ولا يكاد يحدث بالحديث إلا بشق الأنفس، وطبعًا لهم في باب التربية كلام في هذا.
فكون البخاري -رحمة الله عليه- من باب الشكر لله -عز وجل- وأنه خرج من هذه المظلمة، وتد! وما قصد البخاري عامدًا أن يفسد هذا الوتد، إنما سهمه الذي ذهب إلى الوتد وكان ممكن يصلحه ومع ذلك فرحًا بخروجه من المظلمة وأنه لا يسأل عنها يوم القيامة حدث بخمسمائة حديث ثم تصدق بثلاث مائة درهم.
قال محمد بن أبي حاتم الوراق :وكان البخاري يركب إلى الرمي كثيرًا فما أعلمني رأيته في طول ما صحبته أخطأ سهمه أبدًا إلا مرتين، فكان يصيب الهدف في كل مرة وكان لا يُسبَق. كان موجود عند العلماء مسألة الرمي، مسألة الجري مسألة العدو،كان ينفع في القتال آنذاك.
ما يدل علي أدب الإمام الشافعي -رحمه الله-
والإمام الشافعي كان مشهورًا أيضًا بالرمي كما حكاه عمرو بن سواد، عمرو بن سواد أحد شيوخ مسلم. يقول: عمرو بن سواد قال لي الشافعي كانت نهمتي في الرمي وفي العلم، أما الرمي فكنت أصيب فيه عشرة من عشرة ثم سكت.لم يرض يتكلم عن العلم. فقال عمرو بن سواد والله إنك لفي العلم لأكبر منك في الرمي. وهذا يدل علي أدب الإمام الشافعي -رحمه الله- أنه لم يذكر شيئًا من العلم لأنه لا يصح للمرء أن يمدح نفسه في العلم، بل العالم حقًا هو الذي يدع الناس يحكمون عليه ويحكمون على علمه.
قال محمد بن أبي حاتم الوراق وأملى علي البخاري ذات يوم حديثًا كثيرًا فكأنه أحس أنني مللت، فقال له فإن أصحاب التجارة في تجارتهم وأصحاب الملاهي في ملاهيهم وأنت مع رسول الله ﷺ وأصحابه، قال فحفزني.
مايدل علي سماحة نفس الإمام البخاري رحمه الله.
أما سماحة نفس الإمام البخاري فهذا خبر غريب جدًا، يتلخص في أن رجلاً اقترض من الإمام البخاري خمسة وعشرين ألف درهم، ثم أخذ الدراهم ومشي، فالبخاري أرسل له لايرد عليه، فالبخاري كان في بلد اسمها فرابر، وفي بلد اسمها آمل بجانب فرابر، فوصل للإمام البخاري أن من اقترض منه نزل في آمل، فقال من كان حول البخاري , نكتب إلى عامل آمل (المحافظ) يأتي لك بهذا الرجل ، فقال لهم لا إنني إذا كتبت إليه كتابًا طلب مني في مقابله كتابًا آخر،ولا أبيع دنياي بديني.
فائدة: الباء تلحق دائمًا بالمتروك، مثال ذلك : يقول" استبدلت الثوب القديم بثوب جديد،" هذا خطأ والصحيح أن تقول:" استبدلت الثوب الجديد بثوب قديم ",لأن الباء باء الاستبدال تُلحَق دائمًا المتروك الذي تركته الثياب القديمة فالمفروض إن الباء هذه تلتحق بالشيء الذي تركته أنت،.
كما قال تعالى ﴿وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ﴾ .. (النساء2)هل تركوا الخبيث أم تركوا الطيب إنما تركوا الطيب, لذلك التحقت الباء بالمتروك.
وكما قال الله تعالى ﴿أَتَسْتَبْدِلُو نَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ﴾.(البقرة61) مالذي تركوه؟ تركوا الخير -المن والسلوى- فالتحقت الباء بالمتروك.
فالبخاري يقول أنا لا أبيع دنياي بديني. خشي الإمام البخاري أنه إذا كتب شفاعة للأمير أن الأمير في يوم من الأيام يطلب منه مايقابل هذه الشفاعة وهذه نفعت الإمام البخاري في بحث محنته الذي سنذكره إن شاء الله تعالى بعد ذلك.
ثم يكمل فضيلته مايدل علي سماحة نفس الإمام البخاري : ثم قال لهم أنه لا يحل لي أن أروع مسلمًا، الإمام البخاري -رحمه الله-استعمل الأخلاق النبوية والوساطة النبوية في مثل هذا، كما رواه أبو داوود والإمام أحمد بسند صحيح عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال حدثنا أصحاب رسول الله ﷺ أنهم كانوا في مسير معه -عليه الصلاة والسلام-ثم ارتاحوا، فنام رجل منهم وكان له نبل، قال فأخذنا منه نبله وهو نائم، فلما استيقظ ولم يجد نبله فزع، فقال فضحكنا، فقال -عليه الصلاة والسلام- مم تضحكون؟ قالوا يا رسول الله لا إلا أنا أخذنا نبله وهو نائم فلما استيقظ فزع، فقال ﷺ إنه لا يحل أن يُروَع مسلم.
الإمام البخاري حياته كلها مثل سائر الأئمة الكبار الذين جعل الله لهم لسان صدق في الأمة كانوا يستعملون الأخبار، كل شيء عنده إنما يستعمله بدليل، كانوا يتدينون بهذا العلم لذلك عزوا وسادوا.
أبى الإمام البخاري أنه يلاحق الرجل المدين بسبب شيئين:
السبب الأول: أنه لو كتب كتاباً لهم ستكون له بمثابة كسر العين وذلك كي يظل طوال عمره إنسان فاضل ليس لأحد جميل عليه لذلك يبتعد عنهم .
علماء السلف في مسألة قربهم من السلطان كان لهم مذهبان:
1-فطائفة تقول لا يجوز :لأحد أن يقرب من الوالي أو الأمير وكان سفيان الثوري مثلاً -أحد رأس هذه الطائفة- يقول:" إذا رأيت العالم عند الأمير فاعلم أنه لص" وكان يقول:" إذا دعاك الأمير لتقرأ عليه ﴿قل هو الله أحد﴾ فلا تذهب،"
وكان من هذا الدرب محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، و عبد الله بن المبارك -رحمه الله- وله أبيات شهيرة في ذلك، كان يقول فيها:
إن الملوك بلاءٌ حيثما حلوا
فلا يكن لك في أكنافهم ظِلُ.
ماذا تؤملُ من قومٍ إذا غضبوا
جاروا عليك وإن أرضيتهم ملوا
فاستغن بالله عن دنياهم ُأبدًا
إن الوقوفَ على أبوابهم ذلُ.
2-وعلى المقابل كان هناك أئمة آخرون: يرون أن القرب من الأمير بركة وخير لأنه إذا لم يغلب على الأمير أهل الفضل والديانة غلب عليه أهل الفسق والفجور، والأمير إنما ينصت إلى قول البطانة دائمًا، فإذا كانت البطانة خيرة كان الأمير خيرًا، وإذا كانت البطانة سيئة كان الأمير على مثل ذلك، ومن هذه الطائفة الإمام مالك والإمام الأوزاعي والإمام الشافعي رحمة الله على الجميع.
ضابط المسألة: إذا كان المرء يعلم من نفسه أنه إن اقترب افتتن وبدل وغير فهذا لا يحل له أن يقترب لسلامة نفسه إذا وافى ربه يوم القيامة، أما إذا كان يعلم أنه لا يبدل ولا يغير ولا يغتاط بشيء من دنياهم ويستطيع أن يسدد الأمير في النصيحة فهذا لا بأس به أن يقترب من الأمير.
فالإمام البخاري -رحمة الله عليه- لما رفض هذا كتبوا من ورائه كتابًا إلى (محافظ خوارزم) الذي كان الرجل عندما عرف البخاري قريب منه هرب لبلد بعيد فهم عرفوا أنه ذهب للمكان الفلاني وقالوا له أن هناك رجل أخذ دينًا من محمد ابن إسماعيل وهرب به واقبض عليه، فعلاً قبضوا عليه، فلما علم البخاري -رحمه الله- وجد وجدًا شديدًا وغضب جدًا وقال لا تكونون أشفق علي من نفسي وذهب عند الأمير وأطلق هذا الرجل الغريب وصالحه على أن يدفع في السنة عشرة دراهم. يقول محمد بن أبي حاتم الوراق ولم يدفع هذا الرجل لا قليلاً ولا كثيرًا . الإمام البخاري يترجم بهذا الحديث ما رواه هو في صحيحه وكذلك رواه مسلم معه أيضًا من حديث حذيفة بن اليمان عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال (تلقت الملائكة روح رجل لم يعمل خيرًا، فقيل له: ماذا عملت؟ قال: ما عملت شيئًا غير أنني كنت ذا مال، وكنت أداين الناس - يقرض الناس المعسرين- فكنت أرسل فتياني فأقول لهم أنظروا الموسر وتجاوزا عن المعسر، فتجاوز الله عنه."
وفي حديث أبي مسعود ألبدري عند مسلم والترمذي وغيرهما في هذا الباب قال الله -عز وجل-" أنا أحق بهذا منك، تجاوزا عنه." .
وكذلك رواه الشيخان من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-فهذا لا يكون إلا من سماحة النفس.
نصيحة وجهها الشيخ _حفظه الله_ لأصحاب الأموال.
نقول لإخواننا من أصحاب الأموال إذا أقرضت رجلاً أو إذا اشترى منك شيئًا فأعسر فأنظره إذا لم تطب نفسك أن تتجاوز عنه أنظره وإن تجاوزت عنه كان ذلك في رصيدك، أنت يمكن عندما تأخذ الأموال من الرجل المعسر وتضمها إلى أموالك الورثة يأخذوها، لكنك إذا تجاوزت عنه وكنت عندك نية أن تتجاوز عنه كان ذلك في رصيدك لم يشاركك فيه أحد من الناس قط.
ماتولي الإمام البخاري -رحمة الله عليه-بيعاً ولاشراءاً قط.
ويقول الإمام البخاري -رحمة الله عليه- ما توليت شراء شيء ولا بيعه قط فقلت له كيف وقد أحل الله البيع؟ قال لما فيه من الزيادة والنقصان، فخشيت إن توليت أن أستوي بغيري، فقلت من كان يتولى ذلك؟ قال: كنت أُكفي ذلك.
كلام الإمام البخاري هذا يحتاج إلى وقفة. البيع والشراء فيه نوع من الفصال. أنت رجل إمام مشهور معروف، عندما تذهب للشراء فتدور بينك وبين البائع ملاحاة في الثمن فيبيع لك بأي ثمن، لأنه يريد البيع صادف أنك تخطب جمعة أو تعطي درساً وهذا الرجل رآك ويمكن تكون تتكلم أنت عن السماحة في البيع والشراء ، أو عن طيب النفس يقول هذا الرجل الذي أتعبني وأخذ مني البضاعة واستطاع أن يغلبني فيقع هذا الكلام موقعًا سيئًا في نفس المستمع.
العلم لايصل إلا بحشمة.
العالم يترك كثيرًا من المباحات حتى تظل حشمته كما هي، لأن العلم لا يصل إلا بحشمة،لابد أن يكون العالم محترم كي يصل العلم.لا بد أن يكون فقيه النفس يبتعد عن كثير من المباحات برغم أنها مباحة لأنها تؤثر في حشمته.
ماجعل الإمام البخاري رحمه الله لايتصدر للبيع والشراء:
رأى الإمام البخاري -رحمة الله عليه- أن التصدر للبيع والشراء والفصال في البيع والشراء يستوي فيه حينئذ مع غيره، فأراد الإمام ألا تنقص شيء من حشمته فجعل غيره هو الذي يتولي مسألة البيع ومسألة الشراء. يعني لله در الإمام البخاري -رحمه الله- ما كان أفقهه.
العالم كثيرا ما يمر بمشاكل مالية، لأنه ينفق ,كل ما يملك في طلب العلم. الإمام البخاري والده كان رجلاً تاجرًا وكان رجلاً غنيًا، يوم نام على فراش الموت -والد الإمام البخاري- دعى محمدًا ولده - البخاري- وقال له يا بني إني تركت لك ألف ألف درهم. مليون درهم، ما أعلم درهمًا فيه شبهة الذي وصل والد البخاري لهذه المرتبة وأن ماله حلال أنه كان دائمًا بجوار أهل العلم، كان يحضر دروس مالك وحماد بن زيد وعبد الله بن المبارك وهذه الطبقة، كلما عن له شيء في البيع كان يسأل أهل العلم، فالمخالف للشرع كان يسقطه وإلا فقد الصفقة كلها.
الإمام البخاري كان له أخ اسمه أحمد، هما الاثنين ورثوا المليون درهم، أنفق البخاري هذا المال كله في طلب العلم حتى أنه في يوم من الأيام أفلس ولم يجد ثيابًا يلبسها.
يقول محمد بن أبي حاتم الوراق سمعت البخاري يقول: خرجت إلى أدهم بن أبي إياس فتخلفت عني نفقتي فجعلت أتناول الحشيش -حشيش الأرض لأنه لا يجد طعامًا يأكله- ولا أخبر بذلك أحدًا فلما كان اليوم الثالث أتاني آت لم أعرفه فناولني صرة دنانير وقال أنفقه على نفسك.
مسألة الفقر وشهرتها عند أهل العلم:
مسألة الفقر والورطة كانت مشهورة عند أهل العلم جميعًا، قل عالم إلا وأفلس، كل هذا بسبب أنه كان ينفق في رحلاته الطويلة إلى البلدان المختلفة ليلقى أهل العلم، كان ينفق كل ما معه، وبعض العلماء كاد أن يموت كأبي حاتم الرازي وله قصة عجيبة غريبة لعلنا نذكرها إذا جاء وقت نتكلم فيه عن رحلة أهل الحديث وبذلهم أنفسهم في طلب الحديث.
قصة لطيفة في الفقر الشديد( قصة قاضي المارستان، اسمه محمد بن عبد الباقي الحنبلي)
يحضرني الآن قصة لطيفة في الفقر الشديد الذي يقع فيه أهل العلم، ومع ذلك على مقتضى قانون العلم يجب عليهم أن يصبروا، هي قصة قاضي المارستان، اسمه محمد بن عبد الباقي الحنبلي، يقول محمد بن عبد الباقي الحنبلي أنه ظل في مكة حتى نفدت نفقته ثم جاع ولم يجد شيئًا قط ينفقه، خرج في الشوارع من شدة الجوع، وإذا به يجد صرة من الحرير ففتحها فوجد فيها عقداً أخذ الصرة وذهب إلى البيت، وهو جالس في البيت سمع مناديًا ينادي من وجد صرةً لونها كذا وكذا فله خمسين دينارًا. هو مفلس المهم خرج للرجل، قال له صف لي الصرة، قال له لونها كذا والخيط المشدودة به لونه كذا وفيها عقد فأعطى له الصرة، قال له هذه صرتك، فأحب أن يعطي له خمسين دينار فأنف أن يأخذ منه شيئًا وقال إنما يجب أن أبذل لك حقك بغير عوض، هذا حقك وهذه لقطة وأنا أمين عليها، فلم يستحل أن يأخذ من ماله شيئًا، ودخل بيته .
المهم ضاقت عليه القصة في مكة تمامًا، فركب البحر كي يذهب بلد أخري لعله يجد فيها سعة، الريح جاءت ضد المركب، فأصبحوا كالتائهين في البحر، غرق المركب وانكسر فتعلق بلوح، وهو بين الحياة والموت إلي أن رمي به الموج على الشاطئ وليس فيه حركة،.
بدأ يزحف على يديه ورجليه وجد مسجداً جلس بداخله ، فدخل رجل من أهل البلد، سأله هل تعرف تقرأ قرآن؟ قال له نعم. قال له ستكون إمامنا ثم في يوم من الأيام وجدوه يكتب،فسألوه هل تعرف الكتابة فأجابهم بالإيجاب فطلبوا منه تعليم أولادهم ويعطوه على ذلك أجرًا. قال فتمولت- صار عنده مال_. قالوا له حيث أنك أصبحت من أهل البلد ولن نفرط فيك و عندنا بنت يتيمة نريد نزوجها لك، وغصبوا عليه أنهم يزوجونها له، كي يقيم معهم في البلد، المهم في يوم الزفاف،جالس بجوارها فسلط بصره على صدرها، فبكت البنت, وقالت لا يرفع عينه عن صدرها، إنه لا يريد أن ينظر إلي، إنما ينظر إلي صدري، فقالوا له يا أخي كسرت قلب اليتيمة، لماذا لانتظر لها؟ قال إن لهذا العقد قصة، هذا العقد الذي كان داخل الصرة, فصاح الناس وكبروا وقالوا إن والد هذا الفتاة كان يقول اللهم لقني بالذي وجد العقد لأزوجه ابنتي، لما رأى أمانة محمد بن عبد الباقي قاضي المارستان كان يتمنى أن يلتقي به مرة أخرى ليزوجه ابنته وكان أمر الله قدرًا مقدورًا.
معاناة العلماء وإفلاس العلماء مسألة من المسائل الشهيرة،قل أن تجد عالمًا إلا وأفلس. أحيانًا كان يضطر العالم أن يبيع الكتاب، وطبعًا الكتاب مثل ابن من أبنائه العالم.
أبو الحسن ألفالي وبيع كتبه بسبب الفقر:
وأذكر من الذين باعوا كتبهم بسبب الحاجة أبو الحسن ألفالي علي بن أحمد بن علي بن سلَّك ألفالي وكان عنده نسخة من كتاب الجمهرة لابن دريد وكانت في غاية الجودة والإتقان، أفلس فاضطر أن يبيع هذا الكتاب بستين دينارًا، لكن كتب على جلدة الكتاب من ج الداخل ه
أنستُ بها عشرين حولاًَ وبعتُها
فقد طال شوقي بعدَها وحنيني.
وما كان ظني أنني سأبِيعُها
ولو خلدتني في السجون ِديوني .
ولكن لضعفٍ وافتقارٍ وصبيةٍ
صغارٍ عليهم تستهل شئوني.
فقلت ولم أملك سوابق عَبرةٍ
مقالةَ مكوي الفؤاد حزين
وقد تخرج الحاجات يا أم مالك
كرائم من رب بهن ضنين.
كتب هذه الأبيات التي يتفجع بها على النسخة التي كان يحتفظ بها. الذي اشترى النسخة الشريف المرتضى -كما ذكر ابن خليكان في وفيات الأعيان- وأثناء فتحة للجلدة الجلدة وجد ماكتبه أبو الحسن ألفالي في رئاء لحاله وللنسخة، عندما قرأ هذه الأبيات أخد النسخة وأرجعها لأبي حسن ألفالي وأعطاه الستين دينار.
إملاق أهل العلم وفقرهم مسألة موجودة تقريبًا عند سائر أهل العلم الكبار وذلك بسبب أنهم كانوا ينفقون أموالهم في الرحلة، ليس لأنهم كانوا فقراء -لأ- لكن مؤنه العلم شديدة,لو أن رجلاً أراد أن يكون لنفسه مكتبة محترمة - الحد الأدنى من الكتب، كي يأتي بما يريد في كل فن من الفنون مجموعة من الكتب أقل مبلغ يمكن أن يدفعه الإنسان مائة وخمسين ألف جنيه عشان يعمل مكتبة محترمة، ويبقى عنده كتب كثيرة جدًا لا يستطيع الإتيان بها لكنه إذا توسع يعني وأحب يعمل مكتبه أكثر احترامًا وإن لم يأت بكل الكتب ممكن يكون ضعف هذا المبلغ.
يحث فضيلة الشيخ علي كفالة طالب العلم.
ما ينبغي للمسلمين لاسيما الأغنياء أن يكفلوا طلاب العلم وأن يكفوهم مؤنه الحاجة وأن يشتروا لهم الكتب ، ذكرت لكم أن بعض الكتب مثل سير أعلام النبلاء أو تأديب الكمال للمزي ثمنه أكثر من ألفين جنيهاً، مسند أحمد بألفين ومائتي جنيه، مسند أحمد كتاب واحد فقط، سير أعلام النبلاء في قرابة ألف وتسعمائة جنيه، فتح الباري أقل نسخة النسخة تتجاوز المائة وثلاثين جنيهًا أو مائة وأربعين جنيه. فالكتب أمرها صعب جدًا.
فالعلماء القدامى كان أموالهم تنفق إما على الرحلة، وهذا كان غالب ما ينفق على الرحلة في طلب الحديث، أو على استئجار النساخ أو على شراء الكاغد _ الأوراق_ وشراء الأحبار وهكذا.فما من عالم إلا وله في هذه المسألة شيء يقال.
الكلام عن البخاري كلام كثير جدًا، لكن أنا أريد أن آتي بحكاية واحدة فقط ثم ندخل في محنة البخاري، لأن ما من عالم إلا وله محنة من المحن، أي عالم رباني لازم تجد له محنة من المحن، فقبل ما أدخل في هذه المسألة أذكر شيئًا من سماحة الإمام البخاري
مايدل علي سماحة نفس الإمام البخاري_ رحمه الله_ .
-من سماحة نفسه، والذي حكي هذه المسألة أبو جعفر الوراق هو تلميذ الوراق ووراقه وناسخه، أبو جعفر الوراق ذكر مرة أمام البخاري أنه يريد أن يشتري بيت، فالبخاري قال له ينبغي أن تذهب إلى فلان ماسك أموال البخاري وتأتي منه ألف درهم، فذهب فأتي بألف درهم، فقال له وهو يمليه، قال له أنا أريد أطلب منك شيء قال له تقبلها! قال نعم ونعمى عين، قال له خذ الألف درهم هذه واستعن به على شراء الدار وسامحني واجعلني في حل، قال له لماذا ؟ قال له إني قرأت خبر سعد وعبد الرحمن، وكان ينبغي أن أقاسمك شطر مالي فسامحني واعذرني لأنني قصرت في هذا. ماهو خبر سعد وعبد الرحمن؟
خبر سعد وعبد الرحمن. البخاري -رحمة الله عليه- رواه في صحيحه من وجهين،:
الوجه الأول:عن عبد الرحمن بن عوف في كتاب البيوع، ورواه في مناقب لأنصار ورواه من حديث أنس بن مالك وكرره من حديث أنس في أحد عشر موضعًا من صحيحه،:
خلاصة الخبر:
هذا أن النبي ﷺ لما دخل المدينة فآخى بين المهاجرين والأنصار، فكان من الذين آخى بينهما سعد بن الربيع وعبد الرحمن بن عوف، سعد ين الربيع أنصاري، عبد الرحمن بن عوف مهاجري، و المهاجرين تركوا ديارهم وأموالهم وخرجوا مهاجرين في سبيل الله -عز وجل-، الأنصار كانوا في بلادهم وفي حاضرتهم. فلما آخى النبي ﷺ بين سعد بن الربيع وعبد الرحمن بن عوف، قال سعد لعبد الرحمن أنا أكثر أهل المدينة مالاً فخذ شطر مالي وعندي زوجتان فانظر إليهما واختر أعجبهما إليك أطلقها لك فإذا انقضت عدتها تزوجتها. هذه سماحة عجيبة، لأن ليس من طبيعة العرب أنهم يتنازلوا، واحد يتنازل عن عرضه وإلا يتنازل عن امرأته ، فقال له عبد الرحمن بارك الله لك في أهلك ومالك، ولكن دلني على السوق).
بقدر إكباري بسماحة سعد كان إكباري لنبل عبد الرحمن.
ذهب عبد الرحمن بن عوف إلى السوق فما هو إلا أيام حتى استطاع أن يجمع شيئًا ذا بال من المال، لم يمر عدة أيام بعد ذلك إلا ولقيه رسول الله ﷺ في بعض الطريق، النبي ﷺ لقي عبد الرحمن بن عوف وعليه أثر صفرة، فقال مهيم يا عبد الرحمن -مالحكاية _ فقال تزوجت يا رسول الله. هذا الكلام في خلال شهر مثلاً (تزوجت يا رسول الله، فقال له -عليه الصلاة والسلام- بكم أصدقتها(أمهرتها) قال أصدقتها نواة من ذهب، فقال له أولم ولو بشاة) عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- كان إذا تاجر في التراب ربح من البركة.
فالإمام البخاري يقول لابن أبي حاتم الوراق الصحيح أنني أقسم معك مالي كما فعل سعد بن الربيع مع عبد الرحمن بن عوف. المهم القصة الحقيقة طويلة، وفي الآخر محمد بن أبي حاتم الوراق أبى أن يأخذ هذا المال ورده للبخاري، فالبخاري -رحمة الله عليه- قال له حيث أنك رددت المال إليَّ فلا أقل من أن تقبل مني ثلاثمائة درهم كنوع من المواساة.
محنة الإمام البخاري -رحمة الله عليه.
نأتي أخيرًا إلى المحنة محنة الإمام البخاري -رحمة الله عليه. البلاء شيء مسلط على بني آدم، لابد أن تبتلى إما أن تبتلى في الله أو أن تبتلى في الدنيا، أهل العلم والفضل يفضلون البلاء في الله لأن كله أجر.
الذين يهربون من الالتزام,يقولون أن المؤمن مُصاب, ودائمًا عليه مشاكل أنت عندما هربت من مشاكل الالتزام هل نجوت! لابد أن يبتلى المرء بأي نوع من أنواع البلاء، فلأن يبتلى المرء في الله ليكونن خيرًا له من أن يبتلى في الدنيا.
والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول( أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى المرء على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء حتى إنه ليمشي على الأرض وما عليه خطيئة).
وفي نفس الوقت يعود هذا على قلبه بالخير لأن القلب إنما يقوى في المحن والعواصف، ترمي القلب في العواصف يقوى ولا يضعف، ويوزن المرء يوم القيامة بقلبه، فربنا -عز وجل- أناط البلاء بأوليائه حتى يأتون الله -عز وجل- يوم القيامة بقلب قوي سليم، فما من عالم رباني له في الناس قدم صدق إلا وتجد له عنوانًا في ترجمته بعنوان محنته.
البخاري -رحمه الله- امتحن مرتين:
في المرة الأولى مع شيخه الإمام محمد بن يحيى الزُهلي: وكان الزُهلي إمام نيسابور، كان ملكًا غير متوج لا ترد له كلمة وكان صاحب حشمة كاملة في نيسابور. فالإمام البخاري لما عزم أن يذهب إلى نيسابور وأبلغ محمد بن يحيى الزُهلي أنه قادم إلى نيسابور، قال محمد بن يحيى الزُهلي في درسه لتلاميذه -وكانوا بالألوف- قال غدًا يأتينا العبد الصالح محمد بن إسماعيل فمن أراد أن يستقبله فإني مستقبله. خرج الزُهلي يقابل البخاري والبلد كلها خرجت مع الزُهلي والناس من فرحتها بقدوم البخاري نثروا الدنانير على رؤوس الأشهاد ونثروا قطع السكر والحلوى ابتهاجًا بقدوم الإمام محمد بن إسماعيل البخاري إلى نيسابور، جاء البخاري إلى نيسابور ونزل في دار البخاريين وبدأ البخاري يعطي دروسًا في العلم ويُملي العلم على الطلبة.
كانت في ذلك الوقت هناك فتنة جسيمة اسمها فتنة خلق القرآن، هذه الفتنة التي امتحن فيها الإمام أحمد ورفعه الله -عز وجل- إلى مناط النجوم بسبب صبره في هذه المحنة.