كتبتُ من قبلُ - على صفحات الألوكة الغرَّاء - مقالةً عن: (الإسلام والاعتراف بهُويَّة الآخَر)، بينتُ فيها موقفَ الإسلام مِن الاعتراف بهويَّة الآخَر واحترامها، (وعذرًا للقارئ المسلِم على استعمال مفردات معاصِرة غير شرعيَّة)، ورددتُ على الشُّبْهة التي تُوجَّه للإسلام بأنَّه لا يَقبل التعدديَّة الدِّينية، ولا يعترف بالأديانِ الأخرى من حيثُ الصحَّة، والحقُّ في الانتشار والدَّعْوة إليها، وإنْ سمَح بوجودها وأقرَّ أهلُها على العيش في دولتِه ودائرة سُلْطته.

وأتَكلَّم اليوم عن موضوعٍ ذي صِلة، وهو: موقف الإسلام تجاهَ الآخر، الذي لا يَدين به مِن حيثُ الحبُّ والبغضُ والمودَّة والكراهية، فإنَّه يقال عن الإسلام: إنَّه - كما يظهر مِن نصوص كثيرة في مصدريه - يَنهَى أتباعه عن حبِّ (الآخر) ومصادقته وإقامة عَلاقات وديَّة معه، كما في آية المائدة: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ... ﴾ [المائدة: 51]، والآية الأخرى في سورة المجادلة: ﴿ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ [المجادلة: 22]، وحديث ((المرءُ على دِين خليلِه)) وغير ذلك مِن الآثار، بل إنَّنا لنجدُ بعضَ النصوص تُشجِّع على بُغْض المسلم لغير المسلمين، وتجعل هذا مِن علامة الإيمان، كحديثِ: ((أوثقُ عُرى الإيمان: الحبُّ في الله، والبغضُ في الله)).

ومعلومٌ أنَّ الآخر - وهو الكافِر عندَ المسلمين - ممَّن يبغضه الله - تعالى - ولا يُحبُّه، فمِن أعلى درجات الإيمان بغضُ مَن يُبغضه الله وحبُّ مَن يحبه الله، بل جاءتْ بعض النصوص تُحرِّض على العنصرية مع الآخَر، كما في حديثِ: ((لا تَبدؤوا اليهودَ والنصارى بالسلام، وإذا لَقِيتُموهم في طريقٍ فاضطرُّوهم إلى أضيقِه)).

ولا حاجةَ إلى نقْل آراء بعضِ الفقهاء في معاملةِ أهل الذِّمة وإلزامهم زِيًّا معيَّنًا، وحِرْمانهم من ممارسة بعضِ الوظائف، وغير ذلك من المعاملة العُنصريَّة، بل الكلام هنا حولَ محبَّة الآخَرين والسَّماحة معهم، وهو أمر تَنشُده الإنسانيةُ اليوم وتحتاج إليه، وقد نادتْ به بعضُ الاتجاهات الفِكريَّة المعاصرة، فلِمَ كان موقف الإسلام سلبيًّا في هذه القضية؟!

وقبل الإجابةِ عن هذه الشُّبهة تجمل الإشارةُ إلى أنَّ المنهزمين داخلَ الصفِّ الإسلامي يعمدون عادةً إلى ما يفْعله المتَّهم في قَفَص الاتِّهام من المسارعة إلى نفْي التُّهمة مباشرةً، ونفي حيثياتها، في الوقتِ الذي يُقدِّم فيه المدعي من ملفِّ المتَّهم ما يُثبِت تلبس المتَّهم بالتُّهْمة الموجَّهة إليه.

وهذا الصنيع مِن المنهزمين خطأٌ محض، فإنَّه لا بدَّ من النظر في التُّهمة نفسِها؛ أهي ممَّا يقع تحتَ الإدانة ويستوجب العقوبةَ أم لا؟ ولا بدَّ من النظر أيضًا في حال المدَّعي، وهل هو طاهرُ الثوب ممَّا يَرمِي به الآخرين؟ أم كان ينبغي له أن يُوجِّهَ الاتهام إلى نفسه قبل أن يُوجِّهه إلى غيره؟

إنَّ الذين يُكثرون اللَّغَطَ حولَ الإسلام ومبادئه، وسماحته وأخلاقه وأحكامه، ليَفعلون ذلك وأيديهم ملوَّثة بدِماء الأبرياء مِن الضعفاء الذين قتَلوهم وشرَّدوهم، ونَهَبوا ثرواتهم في بقاعٍ شتَّى حولَ العالَم.

وتأسيسًا على ما سَلَف، فإنَّه يجدُر بنا أن نطرَح سؤالاً مشابهًا للذي طرحْناه بين يدي شُبهة (الاعتراف بهُويَّة الآخَر)، وهو: ومَن مِن أهل المِلل والدِّيانات والمذاهب أحبَّ الآخرين وعامَلَهم بلا عُنصرية وتمييز؟!

أهُم اليهود الذين يرَوْن مَن سواهم منَ الأُمم حميرًا؟ أم هُم الصَّهاينة الذين يأتِمرون على العالَم بأَسْره؟ أهُم النَّصارى الذين يزعمون أنَّ دِينهم يأمرهم بحبِّ أعدائهم بينما يشهَد التاريخُ المسيحي منذُ عهده الأوَّل إلى يومِنا الحاضر بأنَّ النصارى لم يُحبُّوا حتى إخوانهم المختلفين معهم، فضلاً عن أعدائهم؟ وأمَّا أعداؤُهم - وبخاصَّة المسلمين - فيكفيك الحملاتُ الصليبيَّة على الشَّرْق الإسلامي التي سجَّل فيها جنودُهم ورُهبانُهم صفحاتٍ سوداءَ مِن الظلم والبغي، والإبادة الجماعيَّة، والأخلاق البربريَّة، ولا تفوتنَّك محاكمُ التفتيش في العصورِ الوُسْطَى، و"البوسنة والهرسك" في العصر الحديث.

أم يُقال: إنَّ حبَّ الآخر موجودٌ في المذاهب الفكرية العلمانية المعاصِرة، فنسأل: أين نَجِدُه إذًا؟ أفي الشيوعيَّة تنظيرًا في فكر "ماركس"، وتطبيقًا في حُكم "لينن" و"ستالين" ونحوهما؟!

أم في الرأسمالية الإمبرياليَّة كما جسَّدها على أكملِ وجْه الاستعمارُ الإنجليزي والفَرَنسي والإسباني في آسيا وإفريقيا؟! أم إنَّ إبادةَ الهنود الحُمر في أمريكا تُعَدُّ حَسَنةً من حسناتِ الفِكر الرأسمالي؟

هل يُمكننا أن نَجِد ذلكم الحبَّ والتسامح في فاشية "موسولني" أو نازية " هِتْلر"؟!
أم لعلَّنا نجد بُغيتنا وطلبتنا منه في " الليبرالية الحنونة" التي تُجسِّدها في الوقت الراهن راعيةُ الحريَّة والتعدديَّة في العالَم "أمريكا العطوفة"؟! فإلى أين يا تُرى نُيمِّم وجهَنا لنتعرَّف على سماحتها؟ أفي "فيتنام "؟ أم "العراق"؟ أم "أفغانستان"؟!

أين وعندَ مَن على أرضِ الواقِع يوجَد "حب الآخر والسماحة معه"؟! أم هي شعاراتٌ برَّاقة تُرْفَع عندَ الحاجة فحسبُ؟!

إنَّنا لو فتحْنا بابَ الاتِّهام واستشهدنا بالواقِع، فلن يفلتَ أحدٌ مِن الذين يَكيلون التُّهم للإسلامِ ويحسبون أنَّهم منها بُرآء، على أنَّنا لو استنطقْنا التاريخ القديم والمعاصِر، ونظرْنا إلى معاملة المسلمين لغيرِهم أيَّامَ قوَّتِهم وسلطانهم، وقارنَّاه بمعاملةِ غيرهم لهم عندَ استحواذهم على بلادِ المسلمين، لرأينا البَونَ شاسعًا بين المعاملتَين، ولرأينا الكِفَّة راجحةً لصالح المسلمين قديمًا وحديثًا، ولكن أعداء الإسلام مُولَعُون بالكذب والبُهت والتجنِّي عليه، ويتديَّنون بذلك إنْ كانوا مليِّين، ويرونه واجبًا فكريًّا إنْ كانوا علمانيِّين، وكتابات المستشرِقين على اختلافِ أطيافهم خيرُ دليلٍ على ذلك.

ولنرجِع الآن إلى الكلام على تِلكم القضية: هل يدعو الإسلامُ أتباعَه إلى حبِّ الآخر؟ أمْ إلى بُغْضه؟ إلى احترامِه والإعجاب به؟ أمْ إلى النَّظَر إليه بانتقاصٍ وازدراء؟

بداية لا بدَّ مِن توضيح حقيقةٍ مهمَّة، وهي: هل الإسلامُ هو الطريقُ الوحيد إلى الله تعالى؟ أم هو طريقٌ مِن طرق كثيرة؟ هل هو حقيقةٌ مُطلَقة أم نسبيَّة؟ أهو وحْده الصواب، أم هو وغيره صواب؟

أهو حقٌّ محض ومِن ثَمَّ خير محض؟ أم هو حقٌّ وباطل، وخير وشر؟

إنَّ الإجابةَ عن هذه الأسئلة أساسٌ في توضيحِ هذه القضية.

وقد أشرتُ في مقال: "الإسلام والاعتراف بهُويَّة الآخر" إلى أنَّ الإسلام ليس فِكرةً أرضيةً، ولا تَجرِبة بشَريَّة قابلة للصواب والخطأ، والحقِّ والباطل، وأنَّه ليس مَذهبًا اخترعَه محمَّدٌ - صلَّى الله عليه وسلَّم - مِن عنده، بل هو وحيٌ من عندَ الله العزيز الحكيم.

وهو - الإسلام - دينُ الأنبياء جميعًا مِن آدم إلى محمَّد - عليهم السلام - فهو دِينُ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، وموسى وعيسى - عليهم الصلاة والسلام - وما محمَّدٌ إلا حلقةٌ في سلسلة، ولَبِنةٌ في بناء، غير أنَّ شريعته وكتابه فيهما الكلمة الأخيرة مِن السماء إلى الأرضِ، وقد كَفَلَتْ - بما تضمَّنتْه من أحكام وأقضية - السعادةَ لجميع البشَر في جميعِ أنحاء الأرض في كلِّ عصر مِن العصور التي تَلَتْ نزولها.

ثم الإسلامُ هو الإيمان بالله - تعالى - خالقًا لهذا الكون، وإفراده تعالى - دون غيره - بسائرِ أنواع العبادات؛ لانفرادِه بسائرِ نُعُوت الكمال والجلال، وصِفات الخلْق والرزْق والتدبير، مع الإيمان بالرُّسُل أجمعين، وتصديقهم فيما جاؤوا به مِن عند الله - تعالى.

هذا هو الإسلام، فما هو ضدُّه؟ وما هو غيرُه؟


إنكارُ وجودِ الله - تعالى - والهُزء بالعَقْل البشري، بالزعمِ بأنَّ هذا الكونَ البديعَ المحكم الصُّنْع - الذي عجَز عقلُ الإنسان عن إدراك أسرارِه عبرَ ألوف السِّنين قضاها في هذه المحاولة - إنَّما وُجِد بمحضِ الصُّدفة؟!

صَرْف العبادة لغيرِ مستحقِّها، وإضفاء نعوتِ الكمال والجلال على مخلوقٍ مِن مخلوقات الله تعالى، وتسويةِ المخلوق بالخالِق، والمقهور بالقاهر، والمنعَم عليه بالمنعِم؟!

التكذيبُ ببعضِ الرُّسل، ونعْته بأقبحِ النعوت، ونبْذ كتابه مع كونه تصديقًا لما بين يديه من الكُتب والرسل، ورفْض الانضواء تحتَ شريعته، مع أنَّها كلمةُ الله الخاتمة، وفيها السعادة لجميع مَن تَبِعَها؟!

التكذيب بالبعْثِ والقيامة، والزعم بأنَّها خرافات وأوهام، والانغماس في وحْلِ الشهوات البهيميَّة؟!

اتِّباع الأفكار البشريَّة والشيطانيَّة التي تدعو إلى محاربةِ الخير والفضيلة والرَّحمة، ونشْر الشرور والفساد والرذيلة في الأرض؟!

أهذه مضاداتُ الإسلام التي يُقال عن صاحبِها: إنَّه "كافر"، أو كما يُقال في عصرنا - عصر التزييف -: إنَّه " الآخَر"؟!

فالمتلبِّس بهذه المضاداتِ أو بواحدةٍ منها، أهلٌ للحبِّ أم للبُغض؟ كيف يطلب الإسلامُ من أتباعه أن يحبُّوا الباطل والشر أو أصحابَهما؟!

وقد تقدَّمَ التدليلُ في مقالة: "الاعتراف بهُويَّة الآخَر": أنَّه من الظُّلم للإسلام أن نُلزمه أن يعترفَ بالباطل، ويُقرَّ بالخطأ والإثم.

وها هنا نقول أيضًا: إنَّه مِن الظلم للإسلام أن نلزِمه أن يدعوَ أتباعه إلى حبِّ المبطلين والكاذبين، والداعين إلى الغي والضلال.

إنَّك لو طلبتَ من إنسان سَوِيٍّ أن يحبَّ مجرمًا ما، أو جريمةً ما، لكنتَ طلبتَ منه ما لا طاقةَ له به؛ لأنَّنا مجبولون على حبِّ الخير والعدْل، والجمال والكمال، وبُغض أضداد ذلك مِن الشر والظلم والنقص، إنَّنا لا نَقْدِر على غير هذا؛ لأنَّ فطرتنا هكذا.

ولو أنصفَ المرءُ ونظَر إلى حقيقةِ الكافر الذي يُنكر أظهرَ حقيقة، وهي: وجود الله تعالى، أو يجعل له نِدًّا، أو يزعم أنَّ له زوجةً وولدًا، أو غير ذلك من وجوهِ الكُفر والإلحاد والشِّرْك، لرأى أنَّ ذلك الرجلَ يرتكب جريمةً نكراءَ، هي أبشعُ مِن كثير من جرائم القتْل والغدْر والخِيانة، التي فُطِر الناس على بُغضِها وبغض مرتكبيها.

فالآخر - وليس الإسلام - هو مَن أنْزَل نفسَه هذه المنزلةَ، وأوْجَب لنفسه هذا الشعورَ مِن عدم الحبِّ والودِّ.

ثم يُقال: ما هو المقصودُ بعدم حبِّ الآخر وبُغْضه الذي أومأتْ إليه النصوصُ الإسلامية؟


أهو البُغضُ الذي يحمل على العنصريةِ ضدَّ الآخرين، وظلمهم واضطهادهم وإيذائهم، كما هو في الصِّهْيَونيَّة أو النازية أو الفاشية؟

كلاَّ! إنه إيقاظٌ للبُغض الجِبليِّ الذي ينبغي أن تحملَه كلُّ فطرة سويَّة لكلِّ جائرٍ وظالمٍ لنفسه أو غيره.

وهو - أيضًا - تعبيرٌ عن الاستعلاءِ اللازم لقِيَم الحقِّ والخير والعدل وأهلها، على معاني الباطل والشرِّ والظلم وأهلها، وهو المعنى الموجودُ في حديث: ((وإذا لقيتموهم في طريقٍ فاضطرُّوهم إلى أضيقِه))، ليس المراد أن يترُكَ المسلِمُ طريقًا ليزاحمَ أحدًا ملجئًا إيَّاه إلى الجِدار أو الرصيف، فإنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأصحابه ما فَعَلوا هذا، بل المرادُ عدمُ التوسعةِ لهم وإخلاء الطريق أمامَهم على حسابِ تضييق طريقِ المسلم، بل يأخُذ المسلِم في طريقِه على ما هو عليه غير عابئ ولا مكتَرِث.

إنَّ هذا الأمرَ لا يختلف كثيرًا عمَّا يفعله الشرفاءُ وأصحاب المبادئ عندَ رؤية أهلِ الباطل مِن أهل الثروة والمناصِب، إنهم يتصرَّفون معهم بطريقةٍ استعلائية، لكنَّها غير مذمومة، تختلف عن سلوكِ أهل النِّفاق وضِعاف النفوس أمامَ ما تمليه العادةُ من الخضوع والاستكانة مع أهل المناصب والجاه.

وهو - أيضًا - شعورٌ منوط بسببٍ يبقَى ببقائه، ويزول بزواله، فليس هو موقفًا أبديًّا سرمديًّا؛ لأنَّ عِلَّته قابلةٌ للإزالة، وفي مقدور كلِّ إنسان رفعُها، فدوافعه ليستْ قائمةً على أشياء اضطراريَّة لا دخْلَ للإنسان فيها كاللَّوْن والجنس والأرض، بل على ما اختارَه الإنسانُ لنفسِه، وفي مقدورِه ووُسعه التخلِّي عنه.

فما الذي يحول بيْن أيِّ إنسان وبيْن سلوكه طريقَ الحق والخير والعدل، فيتخلَّص من هذا الشُّعور، وهذا الموقف الذي يتَّخذه المسلمون منه؟ إذ إنَّه بمُجرَّد دخولِ الإنسان في الإسلام يَنتهي الأمر برُمَّته، ويصبح المسلمُ الجديد مثله مثلُ مَن وُلِد مسلمًا، وله عشراتُ الآباء والأجداد المسلمين، فما يَضير أهلَ الأرض أجمعين أن يَدخُلوا في الإسلام؛ لتكونَ بينهم مَودَّةٌ واحدة، ومعاملة واحدة؟!

إنَّ هذا الشعورَ بمثابة الغِشاء الذي يحفظ الهُويَّة الإسلامية مِن الانخراطِ في باطلِ الآخرين، أو الانخداع به، أو الإعجاب ببهرجِه الزائِف وزُخْرفه المزوَّر.

إنَّه احترازٌ وقائي مِن اندماج أهلِ الحقِّ والعدل مع أهلِ الباطل والظُّلم في صداقاتٍ شخصية ورُوحية، مِن شأنها أن تُضعِف هاجسَ الإيمان والولاء للحقِّ، ومقْت الكفر والباطل تحتَ تخدير المخادَنة والمخالَلَة، والركون إلى الطرَف الآخَر وإلْفه والميل إليه، ومِن ثَمَّ الركون إلى ما مَعَه مِن باطل وظلم.

ومع ذلك لا يَعني هذا الشُّعور المقاطَعة التامَّة بين المسلِم وغيره، فإنَّه - وكما ثبَت بأدلَّة الشريعة الصحيحة - لا حرجَ أبدًا على المسلِم في التعامل مع غيرِ المسلِم، بل الأكْل معه ومِن طعامه، بل وعيادته وزيارته، وإجابة دعوته وقَبول هَديَّته، والإهداء له والتصدُّق عليه، والقيام بحقِّه إنْ كان جارًا، كل ذلك لا حرَجَ على المسلِم فيه، بل دِينه يأمرُه بالسماحة، وحُسْن الخُلُق، والإحسان، وعدم الإيذاء، ولو مع الحيوان الأعجَم، لكن هذه الأمور لا تَتنافى مع الأمر ببُغض التجنِّي على الله والكذب عليه وعلى رُسلِه، وبُغض مَن يَحمِل هذا الظلمَ ويُمارس هذا التجنِّي.

ثم يُقال - أيضًا -: إنَّ هذا البُغضَ للآخَرِ مقيَّد بقيود تمنعه من أن يكون إحساسًا أو سلوكًا عُنصريًّا تمييزًا، إنَّه محاطٌ بسياج الشريعة الكاملة التي مِن أبجدياتها تمجيدُ العدل، والأمر به مع كلِّ أحد، بقَطْع النظر عن لَونه وجِنسه بل ودِينه، وتقبيح الظلم والنهي عنه مع كلِّ أحد، مسلمًا كان أو غيرَ مسلم، مسالمًا للمسلمين أو معاديًا لهم.

هذا العدلُ الذي هو أساسٌ من أُسس الشَّرْع كفيلٌ ألا يجعلَ هذا الشعور تُجاهَ غير المسلمين شعورًا عدوانيًّا عنصريًّا اضطهاديًّا، فهو مطلوبٌ لأهداف معيَّنة، ومقدر بحدود معيَّنة، ما وراءَها منهي عنه، آثِم فاعلُه في ميزانِ الشرع.

ولا عجبَ أبدًا أن يجتمعَ البُغض والعدل في الشريعةِ الكاملة الخالِدة، وإنْ كان هذا عزيزًا أو معدومًا في الدِّيانات المحرَّفة والمذاهب الفِكريَّة المعاصرة.

وعلى هذا، فغيرُ المسلِم آمِن من أن يقودَ ذلكم الشعورَ السلبي ضدَّه إلى اضطهادِه أو ابتزازه، وهذا الذي يَعنِيه ويحتاج إلى ضمانتِه، فهو ليس بحاجةٍ إلى شعارات جوفاءَ مكتوبة على أوراق، ولا مكانَ لها عندَ التطبيق على أرض الواقِع.

وإنِّي لأجدُ التعبير عن هذا المعنى في حادثةٍ نقلتْها كتبُ التاريخ بين الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب وقاتِل أخيه زيد بن الخطَّاب، فهذا القاتل كان مِن المرتدِّين الذين ارتدُّوا بعدَ وفاة النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وحاربَهم المسلمون، وكان زيد بن الخطَّاب من الذين قُتلوا في إحدى المعارك مع المرتدِّين، ثم إنَّ قاتلَه أسلم، فحُقِن دمُه بذلك، وفي يومٍ ما لقيه عمرُ بعد أن تولَّى الخِلافة، فقال له: واللهِ لا أحبُّك أبدًا، فقال له الرجل: وهل يمنعني ذلك مِن عدلك شيئًا؟ قال: لا، فقال الرجل: إنَّما يَبكي على الحبِّ النساءُ!

أجَلْ، إنَّما البغية هي العدلُ وهي التي ينبغي أن يُحاقق الناس إليها، وتُعرَف سماحتُهم من عنصريتهم عن طريقِها.

ولن تَجِدَ اليومَ العدلَ التام مع الآخرين في أكملِ صُوَره في غير الإسلام؛ لأنَّ شريعتَه جاءتْ تامَّة وكاملة، وما سوى التمام والكمال، فهو نقصانٌ وقصور.

وإنَّك لو نظرتَ إلى خُلُق العدل الذي يطالب المسلِمَ مُطالبةً لا هوادةَ فيها مع القريبِ والبعيد والعدوِّ والصديق؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 8]، ﴿ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 190]، ﴿ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الحجرات: 9].

لو نظرتَ إلى العدل وضممتَ معه حُسنَ الخُلُق الذي نُدِب المسلِم إليه ووُعِد بأعْلى الدرجات على التخلُّق به؛ ((خِيارُكم أحاسنُكم أخلاقًا))، ((إنَّ المُسلِمَ لَيُدركُ بحُسن خُلُقه درجةَ الصائم القائِم))، ((لا شيءَ أثقلُ في الميزان مِن خُلُق حسَن)).

إنَّك لسوف تَجِد عندها أنَّ السلوك الإسلامي عندَ المسلم المتخلِّق بخُلُق دِينه المتمسِّك بأوامرِ شرْعه، لهو السلوك الأمْثَل في معاملةِ الآخَر، ولا يكاد الآخَر يرجو خيرًا أو يأمن شرًّا إلا عند المسلم.

إنَّ المسلم مُطالَب بالأمانة مع جميعِ الناس؛ لأنَّ الغِشَّ حرام مع الجميع، ومُطالَب بكفِّ أذاه عمَّن لم يؤذِه؛ لأنَّ إيذاء الناس بغير حقٍّ ظلمٌ، والله - تعالى - حرَّم الظلم على نفسِه وعلى عباده، فليس لهم أن يَتظالموا، وهو ممنوعٌ مِن الكذب والخيانة والغدْر وإخلافِ الوعْد والسَّرِقة وأكْل أموال الناس بالباطل؛ لأنَّ هذه الأمور جميعًا مُحرَّمة في دِينه مع كلِّ أحد مسلمًا أو غير مسلم.

وفوق ذلك، فإنَّ المسلم المسارِع في مرضاةِ ربِّه والالتزام بدينه مَعنِيٌّ بمساعدةِ المحتاجين، وإغاثةِ المكروبين، ومدِّ يدِ العون للمنكوبين مسلمين كانوا أو غير مسلمين، وفي قلْب المسلِم رحمةٌ وشفقةٌ يستحقُّها كلُّ مَن هو أهل لها مِن إنسان أو طير أو حيوان.

أخيرًا: بقِي أن يُقال: إنَّ مشاعر الكراهية والحِقد الشديدَيْن ضدَّ الإسلام والمسلمين، والتي تُترجَم إلى سعيٍ حثيث لاجتثاثِ الإسلام وإبادة المسلمين - ليستْ وليدةَ اليوم، بل هي موجودةٌ منذ أيَّام الدعوة بمكَّة مِن كفَّار قريش، ثم أيَّام الدولة بالمدينة مِن اليهود، وهي باقيةٌ عبْرَ العصور كما يشهد التاريخُ بذلك، وإذا كان الأمرُ على هذا النحو، فكيف يَغيب هذا الملحظُ عن منتقدي الإسلام في موقفِه مِن (الآخر)؟ أليس من البلَهِ والسَّفَه مودَّة ومحبَّة مَن يتربَّص بك الدوائر، ويَحيك لك المؤامرات، ويَعُدُّ العُدَّةَ للانقضاضِ عليك متى أمكنه ذلك؟!

إنَّ الله - تعالى - بعِلمه المطلَق لِمَا كان ولِمَا سيكون، علِم موقفَ أعداء الإسلام منه ومِن أتباعه، فحذَّر عباده المسلمين من الانخداع بهم والرُّكون إليهم، وتصديق شِعاراتهم البرَّاقة الكاذبة؛ كالسعيِ نحوَ تحقيق السلام الإنساني والأمن العالمي.
وقد رأيْنا التاريخَ والواقع يَشهدانِ بكَذبِهم شهادةً لا الْتباسَ فيها ولا التواء، وما رُسومُ "الدنمارك"، وقتْل "مروة الشربيني" لأجْلِ حِجابها، وإهانة المصحف وإحراقه - عنَّا ببعيدٍ لمَن كان ضعيفَ الذاكرة فنَسِي أو تناسى التاريخَ، وزعم أنَّ عُنصريَّة الماضي قد تولَّتْ وخمدَتْ نيرانُها.