ذكرى جلديران

د محمد بن إبراهيم السعيدي

لجينيات ـ حيمنا أسس إسماعيل الصفوي دولته في مطلع القرن العاشر الهجري وضع نصب عينيه فرض المذهب الشيعي بالقوة على جميع المسلمين , وبدأ بالأقاليم الفارسية التي تعامل مع أهلها بأقسى ما يمكن تصوره من الوحشية في سبيل إجبارهم على اعتناق هذا المذهب , وبلغ من بطشه أنه كان يقتل من يترضى عن الصحابة من عامة الناس فضلا عن علمائهم, وكان له مشَّاؤون في الأسواق يسمون أنفسهم التبرائيون , يصيحون في كل مكان بلعن أبي بكر وعمر ويجب هنالك على كل مستمع أن يؤمن على لعنهم , ومن لم يفعل يعاقب بجز رقبته.

أعجَبَت إسماعيل الصفوي كثيراً فتوى العالم السني سبط التفتازاني من علماء مدينة هراة : أنه يجوز لعن الشيخين تحت وطأة الإكراه , وهي الفتوى التي أنقذت رقاب الكثيرين من خطباء المساجد من السنة في ذلك الحين , ولمَّا دخلت جيوش إسماعيل الصفوي مدينة هذا الشيخ العظيم استمر في خطبته للجمعة , كما كان قبل حكم الشاة إسماعيل فترضى عن الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي , فلم يكن من زبانية الشاه إلا أن أحضروه بين يدي طاغوتهم , الذي سأله متعجبا : كيف تفتي بجواز لعن الصنمين ولا تلعنهما , فأجاب : إنما أفتيت بجواز لعن الشيخين للضرورة , أما أنا فأعمل بالعزيمة ولا أبيح لنفسي العمل بالضرورة لأنني قدوة , فما كان من الشاه إلا أن أمر بقتله رحمه الله رحمة واسعة وقبله في الشهداء وأكثر في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من أمثاله ,

كان حلم إسماعيل أن تستولي قواته على مراقد الأئمة , ونشر التشيع في العراق والشام وجيرة العرب بالطريقة نفسها التي سلكها في نشر دعوته في بلاد فارس وهي السيف والقدر , نعم القدر حيث تروي بعض المصادر أنه كان يطبخ خصومه في القدور , وكانت أمه الرؤوم من أبرز من ذاق الموت بهذه الطريقة الهمحية , لا لشيء فعلته إلا لأنها كانت سنية المذهب . .

كان الأتراك العثمانيون حجر عثرة يحولون بين هذا الطاغية وبين أمنياته , فما كان منه إلا أن تعاون الروس والمجر وحكام أوربا في سبيل إضعاف هذه الدولة التي كانت تهدد عروش أوربا بكاملها , فلم يجد آل عثمان بدا من تجريد العساكر إليه وهزيمته في موقعة جلديران في الرابع من رجب عام 820هـ تلك المعركة التي احتل بعدها السلطان سليم الأول على عاصمة إسماعيل الأول تبريز , وتوقف من آثارها إيقاف المد الصفوي قرنا كاملا من الزمان حققت الخلافة العثمانية في أثنائه تقدما كبيرا في الفتتوحات في أوربا حيث وصلت إلى فينا عاصمة مملكة النمسا مرتين ولم يعق تقدمها في رفع لواء الإسلام في أوربا إلا عودة المد الصفوي في عصر عباس شاه الكبير عام 1032هـ إثر العروض السخية التي قدمها الشاه للإسبان بالتعاون وإياهم لتقاسم الدولة العثمانية فيكون للإسبان أجزاء الدولة الأوربية وللصفويين أجزاءها الآسيوية .

لكن هذا الحلف القذر لم ينتج عنه حقا إلا ضعف الدولتين المسلمتين كليهما لصالح الذئب الأوربي الذي ضل يؤجج الصراع بينهما كي يوقف الفتح الإسلامي في أوربا, ويُمكن لحملات التنصير وجحافل الاستعمار التي كانت تنتهز كل فرصة نزاع بين الطرفين لالتقام ساحل أو عاصمة أو سلطنة من ممالك المسلمين .

ولم يعِ الصفويون الدرس إلا مؤخرا وذلك في عهد الشاة صفي , الذي تولى الحكم بعد جده عباس الأول , وكان الشاه صفي أحد من ذاق مرارة المظالم الصفوية إذ رأى ما فعله جده عباس بأبيه وأعمامه من سمل أعينهم جميعا ومن ثَم قتلهم ليموت وليس له وريث من أولاده , فورث عرشه حفيده سام ميرزا الذي غير اسمه ليوافق اسم أبيه المقتول على يد جده .

ومع أن الشاه صفي أو سام ميرزا تجرع ظلم ذوي القربى ولمَّا يتجاوز التاسعة من عمره إلا أنه لم يكف عن إذاقته جميع قرابته من الكأس نفسها التي شرب منها فسمل أعين الجميع كي لا يكون أي منهم مؤهلا للملك بعده .

توقفت في عهد هذا الشاه محاولات المد الصفوي وذلك في معاهدة قصر شيرين التي وقعها الشاه مع السلطان العثماني مراد الرابع , ولكنها للأسف جاءت متأخرة حيث عُقدت بعد أن فعل الحلف الصفوي الصليبي بالدولة العثمانية فعله , فتراجعت رقعة دولة الإسلام في أوربا واحتل النصارى أهم السواحل والمضايق الإسلامية لتأمين حركتهم التجارية وتعطيل نمو المال الإسلامي .

ذكرى جلديران أوقدها في خاطري كلام نسبه بعض المطلعين إلى الإدارة التركية بأن أي تقدم إيراني نحو البحرين لن تكون تركيا راضية عنه , وكان لاتفاق اسم الرئيس التركي مع اسم الشهر الذي وقعت فيه المعركة أثر في هذا الإيقاد الذهني ,فقلت :إن صح هذا الموقف فإن آردوغان يعود بتركيا إلى دورها الصحيح في العالم الإسلامي ويوقظ في نفوس الأتراك والعالم الإسلامي أجمع مشاعرهم نحو الدولة العثمانية الفاتحة قبل عصور تدهورها , فالمد الصفوي الحديث يحتاج إلى وقفة حاسمة من الدول الإسلامية لا تقل أثرا عن وقفة جلديران وإن كانت حتما تخالفها في الأسلوب .

جلديران الجديدة يجب أن يكون السلاح الفاعل فيها هو الفكر والقلم واللسان والتخطيط البعيد المدى المؤيد بالمال , فإن هذه الأسلحة هي ما تحمله الحكومة الإيرانية من أسلحة في استعداداتها لجلديران الجديدة , ولذلك فهي مرشحة لتكون أكثر خطرا وأعمق أثرا على الحاضر والمستقبل من أختها التي قادها التي قادها السلطان سليم الأول وإسماعيل الأول .

إن التأخر المزعج في مجابهة الأسلحة الصفوية الحديثة بما يماثلها كان هو السبب الأول فيما حدث بالأمس في اليمن وما يحدث اليوم في البحرين وما يُخطط له في الكويت والسعودية وقطر والإمارات وعمان .

لجأنا بالأمس إلى قواتنا المسلحة كي نحسم الأمر في اليمن وكان التوفيق حليفنا والحمد لله تعالى , ولجأنا اليوم إلى قوات درع الجزيرة وسوف يحالفنا التوفيق بإذن الله تعالى , لكن توفيقنا في اليمن لم يكن حسماً للمعركة وتوفيقنا في البحرين لن يكون هو أيضا حسما للمعركة , والسبب في ذلك أن ساحات القتال ليست هي الميدان الأول في جلديران الجديدة .

إن ميدان جلديران الجديدة يقع في المعاهد الدينية والكليات الشرعية ومكاتب الدعوة في الداخل والملحقيات الدينية في سفاراتنا الوطنية , وفي المراكز الإسلامية العالمية وفي شاشات التلفزيون ومواقع الإنترنت . وغرف البالتوك , والصحافة الورقية والإلكترونية .

هناك فقط يقع الميدان الحقيقي لجلديران الجديدة , وهو الميدان الذي يشغل الصفويون حتى الآن الجانب الأكبر منه .

أما آلتنا الفكرية فهي حتى الساعة تقف مع الآية الممحوة في صف شارمارتل ضد عبدالرحمن الغافقي لتعيد لنا ذكرى بلاط الشهداء الأليمة .