بسم الله الرحمن الرحيمعونك يا رب
الحمد لله حمد الشاكرين، والشكر له شكر الحامدين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، سيد ولد آدم من الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم وتابعيهم إلى يوم الدين.
أما بعد..
فهذا تخريجٌ متواضعٌ لحديث «إِنَّ مِنَ النَّاسِ نَاسًا مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ، وَإِنَّ مِنَ النَّاسِ نَاسًا مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ، فَطُوبَى لِمَنْ كَانَ مَفَاتِيحُ الْخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جُعِلَ مَفَاتِيحُ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ»
وهذا الحديث في الواقع أتت عليه إشكالات كثيرة، سأحاول بإذن الله تعالى أن أجليها وأبينها للقارئ الكريم.
هذا الحديث مرفوعاً روي من وجهين:
(الوجه الأول) يرويه الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه..
تفرد به محمد بن أبي حميد إبراهيم الأنصاري المدني (مجمعٌ على ضعفه والحط عليه جداً)؛ وقد اختلف عليه فيه:
· فرواه (الطيالسي، والسلمي، والقرشي، والخياط، والكوفي) عنه عن حفص بن عبيد الله بن أنس بن مالك (صدوق قد وثق.. من رجال الصحيحين) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(1) أبو داود الطيالسي رقم (2195) ومن طريقه البيهقي في الشعب رقم (698) وابن أبي عاصم رقم (299).
(2) محمد بن إبراهيم بن أبي عدي السلمي (ثقةٌ من رجال الصحيحين)؛ عند:
- الحسين بن الحسن المروزي في زوائد الزهد رقم (968) ومن طريقه ابن ماجة رقم (237) والنرسي في الحوائج رقم (24).
(3) عبد الله بن وهب القرشي (إمام ثقة حافظ من رجال الصحيحين)؛ عند:
- ابن عدي في الكامل (7/410) من رواية أحمد بن عمرو القرشي (ثقة من رجال مسلم) وأحمد بن سعيد القرطبي (ثقة) كليهما عنه.
- ابن الأعرابي في معجمه رقم (183) من رواية يونس بن عبد الأعلى الصدفي عنه (ثقة من رجال مسلم) .
(4) حماد بن خالد الخياط (ثقة حافظ من رجال مسلم)؛ عند:
- الشجري في أماليه رقم (2299) من رواية أبو يحيى محمد بن سعيد بن غالب العطار عنه (صدوق قد وثق).
(5) سعيد بن سالم الكوفي (صدوق لا بأس به)؛ عند:
- الجوهري في مجالسه رقم (4) من رواية أسد بن موسى عنه (ثقة من رجال البخاري).. وقد تصحف عنده (حفص) إلى جعفر. فصحح
فخالف هؤلاء الخمسة المتقدمون كلٌ من (العقدي، والعنسي، والمازني):
· فرواه (أبو عامر عبد الملك بن عمرو العقدي) عنه (ثقة من رجال الصحيحين) عن موسى بن وردان القرشي (صدوق لا بأس به) عن أنس بن مالك رضي الله عنه؛ عند:
(1) الثقفي في الأربعين (ص253) من رواية هارون بن عبد الله الحمال عنه (ثقة من رجال مسلم).
فخالف الثقة هنا من هو أوثق منه؛ وهم جماعة.. فقدمت روايتهم عليه، خاصةً وأنه في أكثر الطرق التصريح بالسماع بالتحديث والإخبار بينه وبين حفص. [فسقط هذا الوجه ناهيك عن سقوط أصله].
· ورواه (إسماعيل بن عياش العنسي) عنه (صدوق) عن موسى بن وردان، عن حفص بن عبيد الله، عن أنس بن مالك رضي الله عنه؛ عند:
(1) ابن أبي عاصم في السنة رقم (297) من رواية عبد الوهاب بن نجدة الحوطي عنه (ثقة).
وإسماعيل بن عياش ضعيفٌ في حديثه عن غير الشاميين؛ وهذا منها.. فهو يخلط ويغلط في حديث العراقيين والحجازيين؛ وهذا منها.. فلذلك قال البيهقي: لا يحتج به خاصة إذا روى عن أهل الحجاز.. [فسقط هذا الوجه ناهيك عن سقوط أصله].
· ورواه (النضر بن شميل المازني) عنه (ثقة من رجال الصحيحين) عن أنس بن مالك رضي الله عنه؛ عند:
(1) البيهقي في الشعب رقم (697) وابن شاهين في جزء من حديثه رقم (7) من رواية سعيد بن سليمان الواسطي سعدويه عنه (ثقة من رجال الصحيحين).. وقد تصحف عند ابن شاهين (شميل) إلى إسماعيل. وتصحف عندهما (ابن أبي حميد) إلى حميد؛ وتصحف عند البيهقي (المدني) إلى المزني. فصحح
وكل هذا الخلل والتصحيف وعدم الضبط في هذا الطريق آفته سعيد بن سليمان الواسطي؛ وهو وإن كان ثقة من رجال الصحيحين إلا أنه كان مشتهراً بالتصحيف جداً.. [فسقط هذا الوجه ناهيك عن سقوط أصله].
· بينما رواه الحكيم الترمذي في نوادره (3/21 نوادر) عن عمر بن أبي عمر العبدي (كذاب دجال ليس بشيء) عن إسحاق بن محمد الفروي (ضعيفٌ من رجال البخاري انتقاءً) عن أبو يعلى سلمة بن وردان المديني (مجمعٌ على ضعفه والحط عليه جداً) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
فبان أن هذا الطريق عن أنس رضي الله عنه لا يصح ولا يثبت.
(الوجه الثاني) يرويه الصحابي الجليل سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه..
تفرد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (مجمع على ضعفه والحط عليه جداً) عن أبو حازم سلمة بن دينار الأعرج (ثقة من رجال الصحيحين) عنه رضي الله عنه؛ عند:
- ابن أبي عاصم في السنة رقم (298) من رواية إسحاق بن إدريس الخولاني عنه (متروكٌ متهم ليس بشيء).
- ابن ماجة رقم (238)، وأبو نعيم في الحلية (8/329) من رواية عبد الله بن وهب (تقدم).
قال أبو نعيم: (حَدِيثِ سَهْلٍ لَمْ يَرْوِهِ عَنْهُ، إِلا أَبُو حَازِمٍ تَفَرَّدَ بِهِ عَنْهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فِيمَا أَعْلَمُ).
- البخاري في التاريخ الكبير (1/200)، وأبو يعلى في المسند رقم (7526)، والروياني في المسند رقم (1049)، والطبراني في الكبير رقم (5812،5956) والمكارم رقم (83)، وابن أبي صابر في الفوائد المنتقاة (18 مخطوط)، وابن أبي عاصم في السنة رقم (296)، وابن عدي في الكامل (5/448)، ابن أبي الدنيا في المداراة رقم (136) من رواية عقبة بن محمد المديني (ضعيفٌ جداً).. سقط (عقبة) هذا من سند الطبراني الأول والمكارم، وسقط (عبد الرحمن) من سند ابن أبي عاصم. فصحح
قال البخاري بعده: (وعبد الرَّحْمَن: لا يصح حديثه).
- الحرمي في الفوائد المنتقاة (ج17/ح81 مخطوط) وابن بشران في أماليه (1/417)، والخرائطي في المكارم رقم (590) من رواية إسماعيل بن أبي أويس الأصبحي (صدوق من رجال الصحيحين).
- ابن عدي في الكامل (5/448) من رواية إسماعيل بن زكريا الخلقاني (ثقة من رجال الصحيحين).
وعليه.. فإن هذا الحديث مرفوعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم = لا يصح ولا يثبت ولا كرامة، بل هو ضعيفٌ جداً واهٍ لا يتقوى ولا يعتضد.
وقد تعجل الحكم ولم يدقق، وتساهل ولم يحقق من حسنه من المتأخرين بمجموع طرقه؛ فما هي هذه الطرق أصلاً التي يصح أن تقوي بعضها بضاً وتعضد حتى ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!!!
-ثم وقفت للوجه المرفوع على شاهد آخر لا يساوي شيئاً؛ فيه مجهولٌ وسلسلة ضعفاء من رواية ابن عباس رضي الله عنهما.. أخرجه الطبراني في المكارم رقم (84)؛ قال:
(ثنا زكريا بن يحيى الساجي، ثنا أحمد بن مسلم العميري، ثنا عمرو بن يحيى بن عمرو بن مالك النكري، عن أبيه، عن جده عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: "قال الله عز وجل: أنا الله، قدرت الخير والشر، فطوبى لمن جعلت مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعلت مفاتيح الشر على يديه").
وهذا سندٌ لا شيء بالمرة.
بل الصحيح الصواب في هذا أنه من أقاويل بعض الصحابة وغيرهم موقوفاً عليهم اشتهر بينهم ككلامٍ مجربٍ متناقل.. وممن وقفت عليه قوله لهذا:
(1) أنس بن مالك نفسه رضي الله عنه بسندٍ جيد لا يُقَارِنُ سابقه المرفوع أبدا.
تفرد به عنه حماد بن زيد بن درهم الأزدي (ثقة ثبت من رجال الصحيحين) عن أبيه زيد بن درهم الأزدي (مقبولٌ محله الصدق) عنه؛ عند:
- ابن أبي شيبة في المصنف رقم (35679 رشد)، وابن سعد في الطبقات (7/120) من رواية عفان بن مسلم الباهلي (ثقة ثبت من رجال الصحيحين).
- ابن الجعد في مسنده رقم (1378) من رواية خلف بن هشام البزار (ثقة من رجال مسلم).
- أبو نعيم في الحلية (2/318)، والذهبي في السير (5/223) من رواية عبيد الله بن عمر القواريري (ثقة ثبت من رجال الصحيحين).
- عبد الله بن الإمام في العلل (2/434) من رواية محمد بن أبي بكر المقدمي (ثقة من رجال الصحيحين).
- البخاري في التاريخ الكبير (2/159) من رواية سليمان بن حرب الواحشي (ثقة حافظٌ من رجال الصحيحين).
- ابن عدي في الكامل (2/307) من رواية أحمد بن إبراهيم الموصلي (صدوق لا بأس به).
- عبد لله بن الإمام في زوائد الزهد رقم (1419) من رواية سيار بن حاتم العنزي (صدوق لا بأس به على قلة عناية).
- الخرائطي في المكارم رقم (591) ومنتقاه رقم (294) من رواية خالد بن خداش المهلبي (ثقة على بعض وهم من رجال مسلم).
- ابن شاهين في ثقاته رقم (144) من رواية محمد بن موسى الحرشي (شيخٌ صالح محله الصدق).. وقد تصحف عنده (الحرشي) إلى الحرسي، و(حماد) إلى أحمد. فصحح
وهذا سندٌ جيدٌ لا بأس به إن شاء الله.. من أجل زيد بن درهم.
(2) أبو الدرداء رضي الله عنه.
تفرد برواية كلامه ابن المبارك في الزهد رقم (949) ومن طريقه قوام السنة في الترغيب رقم (677) والسمرقندي في التنبيه (ص570) وابن عساكر في التاريخ (47/149) من رواية محمد بن شعيب القرشي (ثقة) عن النعمان بن المنذر الغساني (ثقةٌ غمز بالقدر) عن مكحول بن شهراب الشامي (ثقةٌ من رجال مسلم على تدليسٍ فيه) عنه رضي الله عنه.
وهذا سندٌ صحيح؛ إلا أنه منقطع، فمكحول لم يثبت سماعٌ له من أبي الدرداء رضي الله عنه.
(3) زيد بن أسلم رحمه الله تعالى.
تفرد به أبو نعيمٍ في الحلية (3/223) ومن طريقه ابن العديم في التاريخ (9/3993)؛ قال:
(حدثنا إبراهيم بن عبد الله (صدوق لا بأس به)، ثنا محمد بن إسحاق (ثقة ثبت)، ثنا قتيبة بن سعيد (ثقة ثبت من رجال الصحيحين)، ثنا الليث بن سعد (ثقة ثبت من رجال الصحيحين)، ثنا هشام بن سعد (صدوقٌ من رجال الصحيحين من أثبت الناس في زيد)، عن زيد بن أسلم (ثقةٌ من رجال الصحيحين)؛ قال: يقال: إن لله عبادا مفاتيح للخير مغاليق للشر، ولله تعالى عباد مغاليق للخير مفاتيح للشر).
وهذا سندٌ صحيحٌ؛ إلا أنه منقطع.. وهو يرد رواية ابنه عبد الرحمن السابقة ويسقطها.. فلو يعلمه زيدٌ رحمه الله مرفوعاً لما توانا أن يرويه على وجهه. فتأمل
(4) الخليفة العباسي الراضي بالله رحمه الله تعالى.
أخرج مقولته الخطيب البغدادي في التاريخ (2/520) وعلقها ابن كثير في التاريخ (15/128)؛ قال الخطيب:
(أَخْبَرَنَا أبو الحسن العباس بن عمر بن العباس الكلوذاني؛ قَالَ: سمعت أبا بكر محمد بن يحيى الصولي يقول: سمعت أمير المؤمنين الراضي بالله يقول: لله أقوام هم مفاتيح الخير، وأقوام مفاتيح الشر، فمن أراد به خيرا قصد به أهل الخير وجعله الوسيلة إلينا فنقضي حاجته، فهو الشريك في الثواب والشكر، ومن أراد الله به سوءا عدل به إلى غيرنا فهو الشريك في الوزر والإثم.
والله المستعان على كل حال).
هذا آخر ما أراد الله جمعه وبحثه حول هذا الخبر.. وقد بان لك بحمد الله حاله بوضوح. فتنبه
والله تعالى أعلى وأعلم