بسم الله الرحمن الرحيم
خاطرة في الولاء والبراء
عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَيُّ عُرَى الإِِسْلاَمِ أَوْثَقُ؟ قَالُوا: الصَّلاَةُ، قَالَ: حَسَنَةٌ، وَمَا هِيَ بِهَا؟ قَالُوا: الزَّكَاةُ، قَالَ: حَسَنَةٌ، وَمَا هِيَ بِهَا؟ قَالُوا: صِيَامُ رَمَضَانَ. قَالَ: حَسَنٌ، وَمَا هُوَ بِهِ؟ قَالُوا: الْحَجُّ، قَالَ: حَسَنٌ، وَمَا هُوَ بِهِ؟ قَالُوا: الْجِهَادُ، قَالَ: حَسَنٌ، وَمَا هُوَ بِهِ؟ قَالَ: (إِنَق أَوْثَقَ عُرَى الإِِيمَانِ أَنْ تُحِبَّ فِي اللهِ، وَتُبْغِضَ فِي اللَّهِ) رواه الإمام أحمد وحسنه الألباني.
ففي الإسلام حب وبغض وموالاة ومعاداة والحب يكون للخير وأهله والبغض يكون للشر وأهله وكلما زاد الخير زاد الحب وكلما زاد الشر زاد البغض وأعظم الخير الإيمان وأعظم الشر الكفر لذا فإن أعظم ما يُحب الإيمان وأهله وأعظم ما يُكره الكفر وأهله لذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن أوثق عرى الإيمان...) الحديث.
كيف لا؟ والمؤمن الموحد قد حقق ما خلق من أجله وفعل أعظم ما يُتقرب به إلى الله، والكافر قد ناقض فطرته وعصى الله بأعظم ذنب عصي الله به، وكفر به وجحد فضله وهو أعظم من يستحق أن يعرف فضله بالإيمان به سبحانه وإفراده بالعبادة، لذا كان الكافر جديرا أن يبغض.
وإن المؤمن الصادق الذي إذا ذكر الله وجل قلبه – جعلني الله وإياكم منهم – لا يستطيع دفع البغض الذي يجده في قلبه تجاه هذا الكافر المجرم، لأنه كفر بأعظم من يحبه ويرجوه ويخافه سبحانه وتعالى، لذا فإن بغض الكفار أمر بدهي عند أهل الإيمان، ولو لم ينزل الله آية واحدة في ذكر وجوب بغض الكافر لكانت معرفة المؤمن بأن الكافر قد ارتكب أعظم جرم يمكن ارتكابه كافية لتحقيق هذا الأمر، فكيف والآيات في هذا كثيرة، توجب بغض الكافرين ومعاداتهم وحب المؤمنين وموالاتهم، لذا قال الله تعالى: (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) فانظر كيف بين الله أن الإيمان ومحبة الكافر لا يجتمعان في قلب واحد بقوله: (لا تجد قوما) وبقوله: (أولئك كتب في قلوبهم الإيمان) فالإيمان إذا حل في قلب المؤمن حل معه حب رب العالمين وطرد حب الكافرين المجرمين.
وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ) فانظر كيف نهى الله عن الإلقاء بالمودة إلى الكافرين وذلك لأنهم أعداء الله وقد كفروا بالحق الذي أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم.
وقد نص الله تعالى على بغض الكافرين ومعاداتهم في قوله تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) فقد صرح المؤمنون من قوم إبراهيم بهذه الأمور الثلاثة:
1. البراءة من قومهم الكافرين
2. ومعاداتهم، وقد نص الله عليها في آية أخرى فقال: (إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا)
3. وبغضهم
وهذه الآية - لمن تدبرها - قاطعة لكل شك في عقيدة الولاء والبراء، وقد قال الله في أولها: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ).
وإني لأعجب لقوم يقولون: إن العداوة والبغضاء المذكورتان في الآية إنما هي لأن الكفار آذوا المؤمنين وامتحنوهم وقاتلوهم وليس لأنهم كفروا بالله العظيم.
وقد قال أصحاب إبراهيم عليه السلام: (حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) ولم يقولوا: حتى تمنحونا حرياتنا الدينية وتكفوا عن أذيتنا.
وقد يلزم على هذا القول أن هؤلاء القوم يحبون أنفسهم أكثر من حبهم الله ربهم خالقهم ورازقهم، فأبغضوا من اعتدى على حقهم ولم يبغضوا من اعتدى على حق الله عز وجل، وقد روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمانِ، أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمّا سِواهُما، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلاّ للهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ في الْكُفْرِ كَما يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ في النَّار) وفي رواية عند البخاري: (لاَ يَجِدُ أَحَدٌ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ حَتَّى...) الحديث.
ومن تدبر القرآن بقلب صادق في طلب الحق وجد أن الله قد وصف الكفار بأوصاف لا يستطيع من يسمعها إلا أن يبغض المتصفين بها، فمن ذلك قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) وقال: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) وقال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ) وقال: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ) وقال: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ) وقال: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ).
أسألكم بالله: ألا يبغض الله شر المخلوقات التي تدب على الأرض بنص كتاب الله؟
وإنني لأخشى أن يكون الذي ينادي بمحبة الكافرين – أو بأنها ليست واجبة على الأقل – لم يقدر الله حق قدره ولم يعلم وزن التوحيد في ميزان الشرع.
وعقيدة الولاء والبراء هي الحصن الأول في الدفاع عن دين المسلم فإذا غُلب هذا الحصن فما بعده من الحصون أهون وأيسر، وذلك بأن أعداء الله لم يزالوا على مر العصور يكيدون للمسلمين ويجاهدون في فتنتهم عن دينهم، وهذا أمر مسلم به عند المسلمين بنص كتاب الله، قال تعالى: (وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء) وقال: (وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) وقال: (مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ) وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ) وقال: (وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُم ْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ) فإذا كان المؤمن مبغضا للكافرين عالما بمكرهم فإنه لن يُلبس عليه في دينه بإذن الله، وهذه العقيدة من أعظم دوافع مجاهدة الكافرين باللسان والسنان إن غزوا بلدا مسلما فكريا أو عسكريا، لذا فإن الكافرين في عصرنا وأذنابَهم طرقوا كثيرا بمطارقهم على هذه العقيدة لأنهم يعلمون أنهم إن كسروا حاجزها فسيسهل عليهم بعد ذلك الكثير مما يريدون تحقيقه.
ومن هذه المطارق سعار الابتعاث المحموم إلى بلاد الكفر، فإن مخالطة الكافرين في بلدانهم ومساكنتهم في بيوتهم والجلوس معهم – نساءً ورجالاً – على كراسي دراستهم يضعف هذه العقيدة حتى يزيلها، ولا ينجو إلا من رحم ربي، وانظر إلى المبتعثين العائدين من بلدان الكافرين في الإجازات وغيرها واختبرهم لتجد أن هذه العقيدة قد تخلخلت عندهم، وأنهم يحتاجون إلى إعادة بناء هذه العقيدة في قلوبهم، وقد لمست هذا في أكثر من شخص.
وهذا هو هدف الكافرين من هذا الابتعاث، وإلا فما الفائدة العائدة على هذه الدول من استقبال آلاف الطلاب الذين سيشغلون حيزا كبيرا من مقاعد جامعاتهم؟ وليس هذا تخمينا ولا استنباطا بل هو كلام القوم أنفسهم، وسأذكر مثالا من كتاب واحد فقط برهانا على ما أقول:
جوزيف ناي مساعد وزير الدفاع الأمريكي سابقا، ألف كتابا سماه: (القوة الناعمة، وسيلة النجاح في السياسة الدولية) ترجمه الدكتور محمد توفيق البجيرمي وطبعته مكتبة العبيكان، يتحدث الكتاب عن أحد وسائل النجاح في سياسة أمريكا الدولية التي يجب عليها أن تتبعها وهي سياسة كسب القلوب التي يسميها: (القوة الناعمة) قبل كسب الأرض بالقوة العسكرية التي يسميها: (القوة الصلبة)، وأن أول خطوات الانتصار وتحقيق المصالح هي كسب القلوب (القوة الناعمة).
يقول في كتابه ص 75: ( ومما يدعو للقلق على وجه الخصوص دور النزعة المعادية لأمريكا في العالم الإسلامي)
ويقول في ص 77: (فقد قال وزير الخارجية - سابقا - كولن باول: " لا أستطيع أن أفكر في رصيد لبلدنا أثمن من صداقة قادة عالم المستقبل الذي تلقوا تعليمهم هنا " ذلك أن الطلبة الدوليين يعودون إلى أوطانهم في العادة بتقدير أكبر للقيم والمؤسسات الأمريكية ، وكما هو وارد في تقرير لمجموعة تعليمية دولية فإن " ملايين الناس الذين درسوا في الولايات المتحدة على مدى سنوات يشكلون خزانا رائعا للنوايا الحسنة تجاه بلدنا " وكثير من هؤلاء الطلبة السابقين ينتهي بهم الأمر إلى احتلال مراكز يستطيعون من خلالها التأثير على نتائج السياسة التي هي مهمة للأمريكيين) ويتحدث في الصفحات 73-77 عن مشاعر الكراهية التي يجدها المسلمون تجاه أمريكا وأنها أول عوائق نجاح السياسة الأمريكية وسير أهدافها في العالم الإسلامي، وأنصح في موضوع الابتعاث خصوصا بالرجوع إلى كتاب (الابتعاث ومخاطره) للشيخ الفاضل محمد لطفي الصباغ نشر المكتب الإسلامي، فهو مفيد ماتع.
ومع هذا كله فإنك لا تزال تسمع وتقرأ لبعض المسلمين الذين يدعون إلى شيوع المحبة والمودة بين المسلمين والكافرين، وكأنهم لم تقرع مسامعهم تلك الحجج الدامغة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولهذا الانحراف أسباب كثيرة، ومن أهمها الهزيمة النفسية والتبعية المقيتة للغرب الكافر، والتي ظهرت في عصرنا بعدما تسلط الكفار على بلاد المسلمين وأذلوهم، وإلا فما تفسير هذا الطرق الشديد على هذه العقيدة مع أنه لم يعرف مثل هذا في العصور المتقدمة ولا حتى عن أهل البدع، فحتى مبتدعة العصور المتقدمة يبغضون الكفار.
وإني لأظن أن من أسباب الانحراف - أيضا - في هذه المسألة أن كثيرا من الناس لا يفرق بين بغض الكافر وظلمه، ولا بين إنصاف الكافر ومحبته، فيظن أن من أبغض الكافر فعليه أن يظلمه، وأن من أنصف الكافر فعليه أن يحبه، وليس هذا بصحيح، فعلى المسلم أن يبغض الكافر وعليه أن ينصفه ويعامله بالعدل، ولا تناقض بين الأمرين فالرب الذي أمر ببغض الكافر في الآيات الكثيرة السابق ذكرها، أمر بالعدل مع جميع الخلق، قال الله تعالى: (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ) وقال: (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) وقال: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) وقال: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ)، بل إن الله نفسه سبحانه وتعالى أنصف الكفار بقوله: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ولا يظلم ربك أحدا.
وقد روى البخاري وأبو داود عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ: (لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلاَءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ)
وسبب هذا أن المطعم بن عدي أجار رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما عاد من الطائف إلى مكة وقد أساء أهل الطائف استقباله ورموه بالحجارة حتى أدموا عقبه الشريف صلوات ربي وسلامه عليه، فحفظ له رسول الله جميله، وقد مات كافرا قبل بدر، وقال ابن الأثير مفسرا كلمة (النتنى) في جامع الأصول: (النَّتنى: أراد بهم الأسرى، وجعلهم نتنى، لأنهم كفار مشركون، والمشركون نجس، فاستعار لهم النتن مجازا).
وقد روى أحمد بسند على شرط مسلم وابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث عبد الله بن رواحة الأنصاري رضي الله عنه إلى خيبر ليخرص على اليهود ثمرة النخل، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد عاملهم على نخيلها وأرضها بنصف ثمرة النخل والزرع، فخرص عليهم عبد الله ثمرة النخل، فقالوا له إن هذا الخرص فيه ظلم، فقال لهم عبد الله رضي الله عنه: (والذي نفسي بيده إنكم لأبغض إلي من عدتكم من القردة والخنازير , وإنه لن يحملني بغضي لكم وحبي لرسول الله صلى الله عليه وسلم على أن أظلمكم) فقال اليهود: بهذا قامت السماوات والأرض) فانظر كيف صرح عبدالله بن رواحة رضي الله عنه بالأمرين معا: بغضهم ووجوب معاملتهم بالعدل، ولم يجد في هذا تناقضاً.
بل إن الله كتب الإحسان على كل شيء كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) وقال: (اتقِ الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن) وقال تعالى: (وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً) مع أن الكافر قد يعامل بالغلظة في مواضع ذكرها أهل العلم كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِي نَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).
وكما أن بعض الناس قد جفوا في هذا الأصل فإن بعض الناس قد غلوا فيه فاستحلوا دماء المعاهدين والمستأمنين من الكافرين، وهذا من الغدر، وليس الغدر من دين الإسلام في شيء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه بوصايا منها قوله: (اغْزُوا وَ لاَ تَغُلُّوا وَلاَ تَغْدِرُوا وَلاَ تَمْثُلُوا وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا) وقد امتدح الله المتقين الصادقين بصفات جليلة منها الوفاء بالعهد كما قال: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ) وقال: (وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) فدين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه.
وأنصح في هذا المقام بالرجوع إلى كتاب الشيخ إبراهيم بن عبدالله الأزرق (نقد الانحراف في مفهوم الولاء والبراء وتطبيقاته) وقد طبعته المؤسسة العالمية للإعمار والتنمية التابعة لرابطة العالم الإسلامي، وقد قرأه مؤلفه وصححه على الشيخ عبدالرحمن البراك.
فاللهم اهدنا وسددنا.
24/3/1432