مقدمة :
كمعضلة كبرى تعانيها الأمة وتعتبر محورية في جلب مزيد من المعضلات كان ( الاستبداد ) على سدة المشاكل التي واجهت من اشتغلوا بهمّ النهضة ، و ليس ثمة شك في أن اتساع الحديث عنه – كمعضلة – يشكل بحد ذاته مكتسباً كبيراً في سبيل النضج السياسي الذي ينشده كل مصلح لمجتمعه ، وليس ثمة شك أيضاً في أن شريحة عريضة ممن تصدى لهذه المشكلة بحثاً و دراسة كان عمله هذا من أحوج ما تحتاجه الأمة ، يقدره له كل غيور عليها يروم لها تقدماً ورفعة .
إلا أنه وفي مظهر من مظاهر التداوي بالمحرم سُربت كثير من المفاهيم المنحرفة تحت ذريعة الاستبداد و نشدان الخلاص منه ، فتشبع بعضهم بها وتمرسوا على أساليب التحايل والتلاعب بالنصوص والأحكام ، وغرهم ما وجدوه في ساحة الفكر الذي يقدم لهم مقررات إصلاحية مسبقة مرفق معها (مرشد التأويلات والتنصلات ) وليس يخفى أن المنتج الفكري كله يقوم على التكسب بشعار الإصلاح ، وأن يمينه ويساره – مع تخالفه و تهافته – يقدم تحت كومة شعارات من النهضة والإصلاح والتنوير والتطوير والحضارة ... الخ ، فحتى تلك الأفكار الإلحادية القميئة التي بنيت على دعائم من الشهوات البهيمية والفوضى العبثية يقدمونها في الوسط الفكري وقد طبع عليها شعار الإصلاح والتنوير ، والأمرُ كما قال تعالى : ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ) .
وذات قلة حظ من التأصيل الشرعي واندفاع في البحث عن وصفة الإصلاح ، تأثر بعضهم بأطروحات تدعيه وفي طياتها الإفساد ، واتسمت هذه الأطروحات بسمتين خطيرتين :
•الأولى : الربط بين هذه المعضلة ( الاستبداد ) وبين علوم السلف الدينية وإرثهم الذي يشكل الهوية الحقيقية للأمة ، وآلياً ينتج هذا الربط وصفة العلاج في التخلص من فهم السلف وعلومهم .
•الثانية : الحديث عن النظام السياسي الأمثل من خلال النموذج الغربي اللاديني ، ومحاولة استيراد هذا النموذج بحذافيره دون مراعاة لما يصطدم منه بأحكام الشريعة أو بالهوية بعموم .
فالسمة الأولى تتجلى في كثير من الأطروحات التي جعلت من مواجهة الاستبداد مواجهة مع نصوص نبوية أو مفاهيم سلفية ، ولا شك أن البوصلة ما كانت لتنحرف عند من سلك هذا المسلك لو أخذ حظه الكافي من علوم الشريعة ، بل لو قرأ في تاريخ الإسلام وجال بناظريه يقلب صفحاتٍ من سير السلف المحفوظة ، ليقف على براءتهم مما عشش في ذهنه من أوهام .
وأما دعاة الديمقراطية الغربية فطرحهم متسم بالثانية ، فلقد كان من نتائج إيمانهم بها ودعوتهم إليها أن تصادموا مع مفاهيم شرعية فتحايلوا عليها وحرفوها ، وفي المقابل أكدوا مفاهيم لا دينية مرقعة و (مسمكرة ) وألبسوا بها ، ومرروها إلى عقول الناس ، دون وعي مع حسن الظن .
وهنا إشارة تستدعي تأمل اللبيب : فإن دعاة الديمقراطية الغربية لم يقوموا بأية تعديلات عليها ، ولكنهم حينما أرادوا إسقاطها على واقع المسلمين اضطروا لتعديلات في أحكام الشريعة (من قبيل زعم الحرية غير المسقوفة بالشرع ، وإنكار حد الردة ، ونفي مفهوم الذمة ... الخ ) مما يعطي مؤشراً عن طبيعة المقص الذي أعملوه ، ووجهته التي اشتغل بقصها ذات ضلال !
هذا وإنّ المتأمل في حال أصحاب الأطروحات الإصلاحية التي اتسمت بالسمتين السابقتين ( ربط الاستبداد بتراث السلف أو ربط العلاج بفكر الغرب ) يجدهم بين رجلين :
أ*)أحدهما ثائر متأزم ، تكفيه الثورة على الاستبداد في أي اتجاه كانت هذه الثورة ، وعليه : فليس مستعداً لسماع اعتراضٍ على مشروعٍ دام يرفع لافتة الإصلاح ، هذا إذا لم يصنف الناقد في خانة المستبدين ظلماً وتعدياً .
ب*) وآخر عاقل منصف ، لا يمانع من تقبل الحق إن ظهر له خطأ في طريقه نحو الإصلاح ، ولا يكتفي بالنية الحسنة عن تلمس الطريق الأقوم .
و هذه المقالة ليست موجهة إلى الصنف الثائر الذي لا يهتم بمعرفة الحق ولا ينشد الهدى ، قدر توجهها إلى ذلك المحاذر قول الله تعالى : ( أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً ) أن ينطبق عليه ، المؤمن بأن أشد الناس خسارة بخبر الله ( الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ) المدرك أنه ما ضل سعيهم إلا من جهة اكتفائهم بحسن المقصد ، والنية ( الطيبة ) مع إهمالهم تفتيش الطريق الذي سلكوه .
إن هذا الباحث عن صواب العمل من وراء صواب المقصد هو من تهرول إليه هذه الأحرف كحق له على كاتبها .
وحيث ناسب عند هذه النقطة ذكر الغرض من هذه المقالة ، فإنها وقفة متواضعة مع إحدى الكتابات المروجة للديمقراطية ، لنسلط الضوء على الأفكار والمضامين التي تروج معها ، مما يتنافى مع الشريعة الإسلامية .
وتأتي أهمية الوقوف مع ( أشواق الحرية ) من عدة نواحي ، ليس أقلها شيوعها بين الشباب ، وانطلاء ما فيها على كثير من الفضلاء كون أسلوبها يقفز على كثير من الإشكالات دون شعور القارئ البسيط .
وقبل الولوج في تقليب أفكار الكتاب ومضامينه رأيت أهمية الكتابة باختصار شارحاً حقيقة الخلاف حول الديمقراطية ، لا سيما وأن هذا الخلاف قد تعرض لعملية تشويه كبيرة ، وجد روادها في ذلك الأسلوب فرصة للتخفف من تبعات هذا الخلاف ، ومحاولة للإغضاء من صوته ، سواء على شكل اتهام المخالف بأنه مدجن لا يقبل بخيار الأمة ، أو على شكل آخر يكمن في تنميط صورة عن المخالف من خلال تحفظات غير تلك الرئيسة ، أعني بعض التحفظات الهامشية التي لم يتفق عليها المعارضون ، ولا تشكل التحفظ الأقوى ، فتحفظٌ من قبيل : ( أن المشاركة السياسية في الديمقراطية مفتوحة للعوام ونحن نريدها لأهل الحل والعقد فحسب ) لا يعدوا أن يكون رأياً يناقش في جملة الآراء ، ولا يمثل النقطة التي تجعل من الديمقراطية ( مفهوم يخالف الإسلام ) .
ولعل أقرب شاهد لعملية التنميط هذه ، كلام قاله كاتب الأشواق في لقاء أجري معه قبل مدة يسيرة ، جاء فيه وصف رفض الديمقراطية كما يلي :
(وهذا الموقف الرافض ناتج من أمرين. الأول عائق ديني مفاده أن الديمقراطية هي مُمارسة غير مشروعة في الإسلام، وأن التراث الإسلامي والتجربة التاريخية الإسلامية لا تتضمن تجارب انتخابية، لذلك هي [هكذا] فإن فكرة الانتخابات مرفوضة ولا تُمثّل تراثنا وثقافتنا )
ومثل هذا التصوير التسطيحي لرفض الديمقراطية يجيء غالباً في مقامات يتابعها من لا جلد عنده على التفتيش و التتبع ، كمثل هذا اللقاء الذي أجري في أحد المنتديات العامة ، ولذا كان من الضروري برأيي الحديث عن نقطة الخلاف بمعزل عن نقد ما في الكتاب ، ليقرأها من لا يروق له قراءة النقد .
وبعد الحديث عن نقطة الخلاف ، أدلف مع الكتاب في أول أفكاره : ( إجرائية الديمقراطية وبعدها عن المضمون الفكري ) ثم أتابع القراءة وقوفاً مع أبرز أفكار الكتاب : ( مبدأ الشورى و آلية الديمقراطية ، الديمقراطية كعهد وميثاق ، استحالة تصويت الغالبية لتنحية الشريعة ، تطبيق الشريعة وحمايتها مهمة الفرد أم الشعب ، الشرعية الدينية والشرعية السياسية ) وبعد الوقوف مع هذه النقاط الست أعرج على ملاحظات أخرى تفصيلية لا تقل عما سبق أهمية .
على أن مهمتي الأولى في قراءة هذا الكتاب : الكشف والتوضيح لحقيقة الأفكار مما أحسبه كاف في بيان خطورتها ، وتبيين أخطاء الاستدلال ولوازم الأقوال ، وما يجيء من تأصيل للمسائل فهو تبع .
وأختم هذه المقدمة بلفت النظر لأمرين مهمين : فإنّ التعامل مع الأفكار في سياق هذه القراءة ليس تعاملا مع شخص الكاتب ، فلا يعني الحكم على الفكرة حكما على كاتبها ، كما أنّ هذه القراءة تعتني بنقد الفكر المخالف الذي يروج تحت ستار الديمقراطية ، مع الإقرار بسمو المشروع الإصلاحي ( المعتني بالعدالة وحفظ الحقوق والمال العام ورفع المظالم .. ) عن هذه المخالفات ، ومع الإقرار بضرورة الإصلاح و فضيلته ، والاعتراف بما يعانيه المجتمع من قصور الجهود وتقاعسها في هذا المضمار .
حقيقة الخلاف حول الديمقراطية :
لم يكن الحكم بـ ( مخالفة الإسلام و مناقضة الشريعة ) صادراً على آليات ديمقراطية كالانتخابات ، إنما مورده الحقيقي تلك الديمقراطية المستوردة بحذافيرها ( آليتها ومضامينها الفكرية ) ذلك أن هذه المستوردة تخالف في مفهومها الإسلام من جهة أن النظام السياسي فيها غير مأطور بالشرع ، لا من حيث الذين يختارون ولا من حيث موضوع الاختيار ، فالذين يختارون هم من تحققت فيهم صفة المواطنة ولو لم يكونوا ملتزمين بالإسلام ، والموضوعات المطروحة للاختيار : لا تستثني الشريعة ولا حاكميتها!
وينتج ذلك: التخيير في تطبيق الشريعة بما لا يتواءم مع وصف الإسلام ، كما ينتج ضرورة كفالة حرية التعبير لكل الآراء حتى تلك التي تطالب بتنحية الشريعة ، والسماح بقيام أحزاب وبرامج سياسية معيارها الأول توجهات الناس وآراؤهم ولو خالفت الشرع ، فتقوم الأحزاب العلمانية والليبرالية وأحزاب تمثل المذاهب المنحرفة ويستوي الجميع في حقوق التعبير والمشاركة في نواحي الحياة ، والتبشير بالأفكار والبرامج ، واليد لمن يحوز الصوت أكثر !
ولا عزاء بعد ذلك لحكم شرعي في مرتبة ( حد ) وهو حد الردة ، الذي يصبح في هذا الجو المستورد جريمة ومصادرة لحرية التعبير ، كما أن هذه الثقافة الديمقراطية تنطوي أيضاً على تجريم كل تعزير لمن يخالف الشريعة ، في مخالفات صريحة لمفهوم العقوبات في فقه المسلمين !
وحتى تتضح صورة الخلاف أذكر مثالين مما ينبني عليه :
أ*)لو اجتمع عدد كبير من الناس يشكلون 60% واتفق رأيهم على رفض الحكم بالشرع كلية أو رفض شيء منه لوجب على ولي الأمر في الدولة المسلمة أطرهم بالقوة على الشرع ولو بالحرب ، فإن تواطأ معهم فإنه يفقد شرعيته ويتحقق فيه وصف ( الكفر البواح ) الذي يجوز الخروج عليه ، فيجب على الـ 40% الخروج عليه وتولية من يحكم بالشرع ( مرهون بالقدرة طبعا ) .
أما في الدولة الديمقراطية فهذا من الاستبداد ، والقانون عندهم على رأي الأكثرية ( 60% ) حتى وصل الحال ببعض من يؤمن بالديمقراطية ويدعي الإسلام أن يخطئ أبا بكر في حرب قبائل العرب مانعي الزكاة والمرتدين اطرادا مع أصله الديمقراطي !!
ب*)لو طالب واحد أو أكثر من الناس بتنحية الشرع أو بمبدأ كفري فهو في حكم الدولة المسلمة مرتد يستتاب فإن تاب وإلا قتل ، أما الدولة الديمقراطية فتعد هذا الحكم الشرعي من الاعتداء على الحريات ، ذلك أن أصل ( حرية التعبير ) فيها مقدم على أصل ( الشريعة ) بل إن الشريعة فيها لا تكتسب القوة إلا من خلال حرية التعبير ، فالتعبير حاكمها ولا تحكمه !
وبالتأمل في المثالين نجد أن الأول إن صنف في دائرة نادر الوقوع فإن الثاني لا يخلوا منه واقع ، فلن تعدم الأمة زنديقا يطالب بتنحية الشرع ، على أن ندرة وقوع الأول لا تضر بوجود الانحراف في التصور الديمقراطي .
وباختصار : فالديمقراطية تحيد الهوية الإسلامية للدولة ، وإن قبلت بتحكيم الشريعة في حدود لا تعلوا على مبادئها ، وباشتراط يتمثل في حصولها على أصوات الناخبين .
وهنا تجدر الإشارة إلى أن الديمقراطية بهذه الصورة لا تزال من حيث العملية السياسية في خانة الأحلام ، ولا تظهر مؤشرات على إمكان تطبيقها ، لكنها في جانب الأفكار والمفاهيم عادت بانحرافات خطيرة ، ومررت تصورات لادينية منكرة ، فكان المتحفظون عليها يخوضون معركة ضد أفكار تستهدف الشرع والدين في واقع الأمر ، وإن تلفعت بفكرة سياسية لا وجود لها على أرض الواقع .
بعد هذا التوضيح المختصر نقف على سؤال : هل قدمت أشواق الحرية ديمقراطية ذات مضامين فكرية مخالفة ؟ أم كانت الديمقراطية فيها مجرد آليات لتحقيق الحكم الشوري فحسب ؟
إن المتأمل في هذا الكتاب يجد أنه قد تشبع بفكرة الديمقراطية الغربية ، وتفانى في تبريرها رغم ما تنطوي عليه من محاذير ، فمثلاً :
1- تقوم الديمقراطية على مبدأ عام " يتمحور حول عدم مشروعية استخدام العنف في التغيير السياسي " [ص13]
2- لا تقوم على مبدأ الحرية المطلقة لأنه لا حرية مطلقة أصلاً ، لكنها في ذات الوقت لا تحد بسقف الشريعة ، بل يحق للشعب اختيار دستور مخالف للشريعة ومناقض لها . [انظر ص 33 وما بعدها]
3- المطالبة بتنحية الشريعة سائغة في النظام الديمقراطي ما لم تخالف مادة دستورية منصوص فيها على منع هذه المطالبة. [ انظر ص 55 – 61 ]
4- المواطنة والمساكنة على أرض واحدة تورث حقوق وواجبات منها حق المشاركة في الاختيار ، مما يعني تجويز مشاركة غير المسلمين [ انظر ص 68-71]
5- النظام السياسي فيها محايد فهي آليات للاختيار " سواء أنتج هذا الاختيار سلطة دينية أم سلطة علمانية " [ص83]
تساؤل آخر يطرحه أحدهم ممن قرأ مقدمة الأشواق : حيث أكد المؤلف على أنه يروج للديمقراطية بصفتها ( أداة وذات طابع إجرائي ) بعيداً عن أي فكر أو أيديولوجية ، فكيف نوائم بين هذا الكلام وبين ما نؤكده هنا من حمولتها الفكرية ؟
والجواب على هذا السؤال يدفعنا إلى الولوج مع الكتاب ، والله المستعان ومنه وحده التوفيق .