تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: آداب يتحلى بها الداعية والباحث -للشيخ عبد المجيد الشاذلي

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Sep 2007
    المشاركات
    9

    افتراضي آداب يتحلى بها الداعية والباحث -للشيخ عبد المجيد الشاذلي

    أول ما يتحلى به الداعية إلى الله هو التعبير المهذب وألا يتناول مخالفه في الرأي بالتجهيل والتسفيه والتنقص أو التهكم والاستخفاف... وإنما المعالجة العلمية الموضوعية.. وإذا أصابه شيء من ذلك فلا يقابله بالمثل؛ وإنما يدفع بالتي هي أحسن، ولا يسمح للطرف الآخر أن يستدرجه إلى المهاترات ويخرجه عن سمته وهديه، يقول ربنا عز وجل:(( ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين َ [النحل : 125] (( (1)، ( ولَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت : 34])(2) ، هذا مع ثباته على الحق وألا يخشى فيه لومة لائم، وألا يجامل فيه أحدا:(( وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) (القلم:9) )(3)، وأن يعرف للناس أقدارهم وينزلهم منازلهم.. يقول الإمام الشاطبي في ”الموافقات“ وكذلك في ”الاعتصام“ نقلًا عن الإمام الغزالي: «أكثر الجهالات إنما رسخت في قلوب العوام بتعصب جماعة من جهال أهل الحق، أظهروا الحق في معرض التحدي والإدلال. ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والازدراء فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة، ورسخت في قلوبهم الاعتقادات الباطلة، وتعذر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها»(4).
    2-ترك المراء والتزام البيان لمن يقدر عليه:
    يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم: «أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه»(5)، والأحاديث في ذلك كثيرة.
    يقول الإمام الشاطبي في ”الاعتصام“ في صفة أهل البدع والأهواء:
    «أما الخاصية الثانية فراجعة إلى العلماء الراسخين في العلم؛ لأن معرفة المحكم والمتشابه راجع إليهم فهم يعرفونها ويعرفون أهلها. ولكن له علاقة ظاهرة أيضًا نبه عليها الحديث(6) الذي فسرت به الآية قال فيه: «فإذا رأيتم الذين يجادولون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم»، فجعل من شأن المتبع للمتشابه أن يجادل فيه ويقيم النزاع على الإيمان، وسبب ذلك أن الزائغ المتبع لما تشابه من الدليل لا يزال في ريب وشك؛ إذ المتشابه لا يعطي بيانًا شافيًا، ولا يقف منه متبعه على حقيقة. فاتباع الهوى يلجئه إلى التمسك به، والنظر فيه لا يتخلص له، فهو على شك أبدًا. وبذلك يفارق الراسخ في العلم، لأن جداله إن افتقر إليه فهو في مواقع الإشكال العارض طلبًا لإزالتها، فسرعان ما يزول إذا بين له موضع النظر، وأما ذو الزيغ فإن هواه لا يخليه إلى طرح المتشابه، فلا يزال في جدال عليه وطلب لتأويله، ويدل على ذلك أن الآية نزلت في شأن نصارى نجران وقصدهم أن يناظروا رسول الله صلي الله عليه وسلم في عيسى ابن مريم عليه السلام مستدلين بأمور متشابهات من قوله "فعلنا " و"خلقنا " وهذا كلام الجماعة، ومن أنه يبريء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى. ولم ينظروا إلى أصله ونشأته بعد أن لم يكن، وكونه كسائر بني آدم يأكل ويشرب وتلحقه الآفات والأمراض والحاصل أنهم إنما أتوا المناظرة لا يقصدون اتباع الحق، والجدال على هذا الوجه لا ينقطع، ولذلك لما بين لهم الحق ولم يرجعوا إليه دعوا إلى أمر آخر خافوا منه الهلكة فكفوا عنه وهو المباهلة وهو قوله تعالى((فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ)) (آل عمران:61) )(7)، وشأن هذا الجدال أنه شاغل عن ذكر الله ـ من غير فائدة ـ كالنرد وغيره»(8).
    ما ذكره الشاطبي واقع ومشاهد؛ فإن المحاجة وإقامة الأدلة لها طرق ومسارات تصل بصاحبها إلى الحق، وتكشف وجه المسألة من أقرب طريق. فإذا تجاوز الحوار هذا الحد خرج إلى حكايات وأمثلة وأرأيتيات وتفريعات لا تنضبط بقواعد محكمة، ولا يحدها تسلسل منطقي في الاستدلال يصل بها إلى قرار. فتدور المحاورات في حلقات مفرغة، وتتفرع إلى مضايق ومنزلقات ومتاهات يتمزق معها الموضوع. والسبب هو ترك الأمور المحكمة إلى متشابهات الأدلة وما ليس من الأدلة أيضًا، وهذا أمر لا يمكن أن يفضي إلى يقين.
    وعلى النقيض من ذلك ما حكاه الشاطبي عن طائفة أخرى من أهل البدع، وهم أهل البدع العملية، من هربهم من المناظرة في حجية ما هم عليه يقول: «على أن أرباب البدع العملية أكثرهم لا يحبون أن يناظروا أحدًا.... فيما يفعلون خوفًا من الفضيحة ألا يجدوا مستندًا شرعيًا»(9)، إلى آخر كلامه.
    وهذا المسلك أيضًا واقع ومشاهد؛ فكثير من الناس عندما تسأله عن حجته في أمر يقوله أو يفعله يقول لك نهينا عن الجدل.. وهذه أمور وجدانية ترجع إلى الذوق.. واستفت قلبك.. وما إلى ذلك. وهذان الطرفان ينبغي ألا يسلكهما الداعي إلى الله بل عليه أن يبين للناس حجة ما يقول ويفعل وما هو عليه من أمور دعوته بالدليل والبرهان وبالطرق السليمة للاستدلال بعيدًا عن الخصومات الجدلية التي غالبًا ما تقوم على المغالبات والمغالطات، وإذا حققتها بالأسلوب العلمي بهدوء وتحقيق وجدتها مليئة بالثغرات. فإذا لم يكن من أهل الاستدلال أحالهم على ما يستبينون به الحق من كتب أو رسائل أو إلى من يقدر على البيان. فإذا ما انتهت الاستدلالات وتبينت أوجه النظر في الموضوع، انتهى الحوار، لأن الاستمرار فيه بعد ذلك جدل ومراء نهينا عنه شرعًا.
    يتبع إن شاء الله
    الهوامش:-
    (1)سورة النحل، الآية: 125.
    (2)سورة فصلت، الآية: 34.
    (3)سورة القلم، الآية: 9.
    (4)الإعتصام، جـ2، ص230.
    (5)سنن أبي داوود، كتاب الأدب. قال الألبانى: حديث حسن.
    (6)جاء في مسند الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها: تلا رسول الله  هذه الآية: ((هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) (آل عمران:7) الآية، « فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله عز وجل، فاحذروهم»، قال الأرنؤوط: حديث صحيح.
    (7)سورة آل عمران، الآية:61.
    (8)الاعتصام، جـ2، ص236-237.
    (9) المصدر السابق، جـ2، ص151
    *نقلاً عن مقدمة كتاب(حد الإسلام وحقيقة الإيمان)للشيخ عبد المجيد الشاذلي.
    http://www.alshazly.net
    http://saaid.net/book/open.php?cat=1&book=3569

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Sep 2007
    المشاركات
    9

    افتراضي القصـد والاعتـدال

    3-القصـد والاعتـدال:
    عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: «إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه؛ فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة»، وفي رواية: «سددوا وقاربوا واغدوا وروحوا وشيء من الدلجة، القصد القصد تبلغوا»(10).
    وجاء في كتاب ”اقتضاء الصراط المستقيم“ لابن تيمية رضي الله عنه:
    «وعلى هذا ما في الصحيحين عن أنس بن مالك قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلي الله عليه وسلم يسألون عن عبادة رسول الله صلي الله عليه وسلم فلما أخبروا بها كأنهم تقالّوها فقالوا: وأين نحن من رسول الله صلي الله عليه وسلم، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدًا، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر أبدًا، وقال الآخر وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله صلي الله عليه وسلم إليهم فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له. لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني»، رواه البخاري وهذا لفظه... والأحاديث الموافقة لهذا كثيرة في بيان أن سنته هي ـ الاقتصاد في العبادة وفي ترك الشهوات ـ خير من رهبانية النصارى التي هي ترك عامة الشهوات من نكاح وغيره، والغلو في العبادات صومًا وصلاة، وقد خالف هذا بالتأويل ولعدم العلم طائفة من الفقهاء والعباد. ومثل هذا ما رواه أبو داود في سننه عن العلاء بن عبد الرحمن عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة أن رجلًا قال: يا رسول الله ائذن لي في السياحة فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله»، وفي حديث آخر: «إن السياحة هي الصيام»، أما السياحة التي هي الخروج في البّريّة من غير مقصد معين فليست من هذه الأمة، وهي من الرهبانية المبتدعة التي قال فيها النبي صلي الله عليه وسلم: «لا رهبانية في الإسلام».
    ومثل ما روي ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم غداة العقبة وهو على ناقته: «ألقط لي حصى»، فلقطت له سبع حصيات مثل حصى الخذف، فجعل يتقبضهن في كفه ويقول: «أمثال هؤلاء فارموا»، ثم قال صلي الله عليه وسلم: «أيها الناس إياكم والغلو في الدين، وإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين»، رواه أحمد والنسائي وابن ماجة من حديث عوف بن أبي جميلة عن زياد بن حصين عن أبي العالية عنه، وهذا اسناد صحيح في شرط مسلم، وقوله: «إياكم والغلو في الدين»، عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال. والغلو، هو مجاوزة الحد بأن يزاد في مدح الشيء أو ذمه على ما يستحق ونحو ذلك(11)
    والنصارى أكثر غلوًا في الاعتقادات والأعمال من سائر الطوائف وإياهم نهي الله ـ عن الغلو ـ في القرآن في قوله تعالى(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ً) (النساء:171) (12).
    وسبب هذا اللفظ العام رمي الجمار، وهو داخل فيه فالغلو فيه، مثل رمي الحجارة الكبار ونحو ذلك، ثم علل بأن ما أهلك من كان قبلنا إلا الغلو في الدين كما نراه في النصارى. وذلك يقتضي أن مجانبة هديهم مطلقا أبعد من الوقوع فيما به هلكوا، وأن المشارك لهم في بعض هديهم يخاف عليه أن يكون هالكًا» (13)
    وإذا كان ابن تيمية قد سوى بين مجانبة القصد في الاعتقادات والأعمال؛ فإن الشاطبي قد فرق بينهما ولكن على أن القصد في الشريعة هو الوسط الأعدل. فلا بأس عنده من الإيغال في الأعمال ولكن بشروط: منها ما هو راجع لحق الله، ومنها ما هو راجع لحق العبد، وإن كان حق العبد لا يخلو من حق الله إلا أن العبد له الخيرة فيما كان راجعًا لحقه، وهذه الشروط هي:
    1- ألا يكون في هديه وسمته مشابهًا لما نهى عنه رسول الله صلي الله عليه وسلم من الرهبانية والتبتل حتى لو لم يكن في أفراد أعماله ما هو منهي عنه لعينه، كالاختصاء، والسياحة، وترك التزوج. والتبتل الذي نهى عنه رسول الله صلي الله عليه وسلم وهو الانقطاع عن الدنيا كلية والتفرغ للعبادة وترك الطيبات تطرفًا في الزهد وهو خلاف التبتل في الآية. وقد فسر التبتل في الآية (14) على ثلاثة
    معاني: «التبتل بمعنى الإخلاص وهو قول قتادة ومجاهد والضحاك، والتبتل بمعنى الاتباع بمعنى اتبع الهدى واتبع أمر ربك، قاله الحسن، والتبتل بمعنى رفض الدنيا وذلك ليس بمعنى طرح اتخاذها جملة وترك الاستمتاع بها بل بمعنى ترك الشغل بها عما كلف الإنسان به من الوظائف الشرعية. قاله زيد بن أسلم»(15).
    2- ألا يقصد المشقة لعينها. وذلك هو التكلف المنهي عنه، والنهى يقتضي الفساد، وأما إذا قصد عملًا يعظم أجره لعظم مشقته فلا بأس؛ فالمشقة هنا تابعة لا متبوعة. وفي الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: «هلك المتنطعون»، قالها ثلاثًا رواه مسلم، والمتنطعون المتعمقون المتشددون في غير موضع التشديد.
    وفي ”رياض الصالحين“ باب النهي عن التكلف، وهو قول وفعل مالا مصلحة فيه بمشقة، قال الله تعالى: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِي نَ) (صّ:86) (16)، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهينا عن التكلف، وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: بينما النبي صلي الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم فسأل عنه فقالوا أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم، فقال النبي صلي الله عليه وسلم: «مره فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه» رواه البخاري. وقال مالك أمره ليتم ما كان له فيه طاعة ويترك ما كان عليه فيه معصية(17).
    3- إذا لم يخف على نفسه من الانقطاع من الطريق وبغض العبادة وكراهة التكليف، وإذا أمن من إدخال الفساد على جسمه وعقله وماله وحاله «إن المنبتّ لا أرضًا قطع ولا ظهًرا أبقى»(18).
    4- إذا لم يخف من التقصير عند مزاحمة الوظائف المتعلقة بالعبد المختلفة الأنواع، مثل قيامه على أهله وولده إلى تكاليف أخر تأتي في الطريق. فربما كان التوغل في بعض الأعمال شاغلًا عنها وقاطعًا بالمكلف دونها، وربما أراد الحمل للطريقين على المبالغة في الاستقصاء فانقطع عنهما كما نبه عليه حديث داود عليه السلام أنه كان يصوم يومًا ويفطر يومًا ولا يفر إذا لاقى. أي لا يوهنه الصيام عن ملاقاة العدو.
    أما مجاوزة الحد في الاعتقادات فمردودة منهى عنها قولًا واحدًا، وذلك هو الغلو في الدين على الحقيقة، يقول مجاهد في تفسير قوله تعالى: (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) (النحل:9) (19)، قصد السبيل أي المقتصد فيها بين الغلو والتقصير، قال الشاطبي: «وذلك يفيد أن الجائر هو الغالي أو المقصر، وكلاهما من أوصاف البدع على العموم»(20).
    وقال الشاطبي: «وصح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خطب الناس فقال: أيها الناس قد سنت لكم السنن وفرضت لكم الفرائض وتركتم على الواضحة إلا أن تضلوا بالناس يمينًا وشمالًا»(21).
    ولكن ليس من مجـاوزة القصـد في الأعمال الأخـذ بالعزائـم بـل هو عمدة الدين وكلي الشريعة: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ) (البقرة:63) (22)، والترخص لا يكون من أصحاب الدعوات إلا لموافقة سنة وتلك عزيمة، أو لمشقة فادحة وذلك كله من النادر العارض وليس الأصل المعمول به.
    كذلك ليس من مجاوزة الحد في الاعتقادات الجهر بالحق لا يخشى فيه لومة لائم، ولو أنكره الناس لاندارس معالمه، ولكن على صاحب الحق أن:
    أ- يتلطف في إبلاغه.
    ب- يمهد له.
    جـ- إن كان ثمة شيء فيه شديد الغرابة على واقع الناس ومفهومهم فلا يفجأهم به. وانظر إلى لطيف استدلال ابن القيم على ذلك بما جاء في القرآن من حكاية ميلاد يحي عليه السلام قبل ميلاد عيسى عليه السلام ليكون كالتقدمة له.
    د- يتسلسل فيه تسلسلًا منطقيًا؛ فلا يتقدم بأحكام ثم يأتي لها بحيثيات، ولكن يقدم المقدمات فتأتي بعدها نتائجها في غاية اليسر بلا اعتساف ولا عنت.
    هـ- التدرج سمة الجماعة المسلمة في نموها النظري والحركي وتأمل قوله تعالى: ((كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ) (الفتح:29)(23).
    و – في الحديث عن عليّ رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يفهمون أتريدون أن يكذب الله ورسوله(24)، وفي المرفوع عن ابن مسعود رضي الله عنه: ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان عليهم فتنة(25)، وحديث ابن عباس عن عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنهم جميعًا قال: لو شهدت أمير المؤمنين أتاه رجل قال: إن فلانًا يقول لو مات أمير المؤمنين لبايعنا فلانًا، فقال عمر: لأقومن العشية فأحذر هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغصبونهم. قلت: لا تفعل فإن الموسم ـ يعني موسم الحج ـ يجمع رعاع الناس يغلبون على مجلسك؛ فأخاف أن لا ينزلوها على وجهها فيطّيروا بها كل مطيرّ. وأمهل حتى تقدم المدينة، دار الهجرة ودار السنة، فتخلص بأصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار ويحفظوا مقالتك وينزلوها على وجهها. فقال والله لأقومن به في أول مقام أقومه بالمدينة(26)، الحديث.
    نعم ليس في ديننًا أسرار. وأمانة التبليغ تقتضي ألا يكتم شى من العلم ولكن أتتطلب الدعوة كل العلم؟ أم لها ما يناسبها مما يحقق الهدف منها دون غيره، فيكون الانشغال به أولى، ثم بعد ذلك ماشأنه أن يصلهم ممن يعيه وينزله على وجهه الصحيح، ولا يسيء تأويله حتى لا تكون فتنة، وحتى يفهم الناس مقالتك على وجهها الصحيح، وما كان ذلك شأنه فالتحديد فيه أفضل: ممن ؟ ولمن ؟ وكيف ؟ ومتى ؟.
    ز – تحديد الهدف بدقة ثم الاحتفاظ به: أي ما هي قضايا العمل الإسلامي الآن؟ وما هي المنعطفات والدوامات التي ربما استقطبت جهودنا واستنفدت طاقاتنا فيما لا طائل تحته بل وفيما يحول بيننا وبين أهدافنا الحقيقية، ولا يتيح للناس فرصة التعرف على حقيقة رسالتنا، وربما ساعد على مسخ صورتنا عندهم؛ فيقول قائلهم: ما بال هؤلاء يجهدون أنفسهم في مسائل شكلية أو سطحية ويقيمون الدنيا ويقعدونها من أجل مسائل ليس لها تأثير في مسيرة العمل الإسلامي، إننا نستهدف اليوم أجل هدف وأسمي غاية ونتحمل أعظم أمانة. إن رسالتنا ليست محدودة بقضايا الإسلام المحلية أو المعاصرة بقدر ما هي تختص في الصميم بالعقيدة الإسلامية نفسها؛ وتخليصها مما شابها، وتجليتها للناس، وهذا أمر له أثره في حاضر المسلمين ومستقبلهم، وبغض النظر عن هذا كله أو حتى مع عدم دواعيه الملحة؛ فالتصحيح أمانة علمية وتخليص عقيدة السلف مما شابها في حد ذاته رسالة عظمى. إننا نقول للناس:
    1- لقد عرضت قضية "الشريعة" على الناس على أساس أن المسألة مسألة "أفضلية" شريعة الله على الشرائع الأرضية، وهذا أمر لا شك فيه. ولكن مع تبني القضايا القومية والتسابق فيها بين الحركة الإسلامية وغيرها من الحركات من علمانية وشيوعية وما إلى ذلك، فُهم من هذه الأفضلية أن قضية الشعب الأساسية هي قضاياه القومية وأن مسألة "الأيدولوجيات" مسألة ثانوية، وأن ركونهم إلى أي من هذه الأيدولوجيات المتسابقة لتحقيق مصالحهم القومية لا يمس صميم اعتقادهم كمسلمين في شيء، أي بتحديد دقيق لم يكن هناك ربط بين قضية "الشريعة" وأصول الاعتقاد أو قضية "العقيدة".
    2- وعندما حاولنا أن نبحث عن هذا الربط وجدناه مضطربًا جدًا في مفهوم أصحاب الحركات الإسلامية حتى عند المتحمسين الغيورين جـدًا. ومن أجل هذا كانت قضية الشريعة لا تعدو أن تكون ـ حتى عند هؤلاء الغيورين ـ مسألة من مسائل الانحراف في المجتمع، كقضية البدع مثلًا أو محاربة المسكرات، بعكس ما هو وثيق جدًا في القرآن الكريم الذي نجده يربط ربطًا وثيقًا محكمًا بين قضية الإيمان وقضية الشريعة في مثل قوله عز وجل: ((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء:65) (27)فهو يربط قضية الشريعة بقضية الإيمان، وقاعدة الشريعة بقاعدة الإيمان. ثم نجده يربط تفصيلات الشريعة وأحكام الفروع المختلفة بقاعدة الإيمان في مثل قوله تعالى: ((وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِين َ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (المجادلة4:3) (28)، فهو لم يكتف بربط القاعدة بالقاعدة حتى ربط بين "قاعدة الإيمان" و "فروع الشريعة".
    3- وعندما تتبعنا جذور المسألة وجدنا هناك زحزحة مضطردة(29)عبر قرون طويلة من التاريخ الإسلامي لقضية الشريعة عن مكانها من أصول الاعتقاد.
    4- وأن هناك اضطرابًا شديدًا في مفهوم الإيمان، وهو أصل الدين وقاعدته الأولى، لاختلاط مباحث العقيدة بمباحث الفلسفة(30) وذلك أيضًا منذ زمن بعيد، وصاحَبه انحراف ورثته العصور التعيسة لمفهوم الإيمان، وهو راجع إلى جرثومة الإرجاء التي تسللت إلى الفكر الإسلامي من قرون طويلة.
    5- ومن أجل عدم الوضوح هذا لم يستطع صوت الإسلام ـ ممثلًا في الحركات الإسلامية، والشعور الإسلامي العام لدى الجماهير ـ أن يتصدى للعلمانية وأن يحدد موقفه منها بوضوح منذ تسللت إلى المنطقة. وكذلك فعلت الحركات الإسلامية المعاصرة مع النظم والأوضاع المعاصرة التي ورثت العلمانية عن الاستعمار حتى أن منها الآن من يفكر في التعايش مع هذه الأوضاع والإلتقاء معها في منتصف الطريق.
    6- إننا الآن عندما نتصدى لهذه الأمانة لا نأتي بجديد؛ وإنما نصل ما انقطع، ونتسلم راية الهداية من ابن تيمية وابن القيم وابن عبد الوهاب وغيرهم بعد أن تلقوها بدورهم من إمام أهل السنة أحمد بن حنبل، على بعد ما بينهم وبينه من عصور، لتخليص عقيدة السلف من توجيهات علم الكلام حتى لا تكون آراء الفرق الكلامية المختلفة هي التي تصدر التوجيه للمسلمين.
    7- فرسالتنا هي تصحيح مفهوم العقيدة، وتصحيح التوحيد، ودعوة الناس إلى التوحيد الخالص، وأن يقيموا حياتهم على قاعدة الإسلام الأولى وهي: تصديق خبر الرسول جملة وعلى الغيب، والتزام شرائعه جملة وعلى الغيب. وبناء عليه: وضْع قضية الشريعة وضعها الصحيح في أصول الاعتقاد، وتجريد مفاهيم الدعوة من التلبس بغيرها من المفاهيم الغريبة على الإسلام وكذلك تجريد الحركة الإسلامية من التلبس بغيرها.. إلخ.
    ولا داعي للاستطراد أكثر من هذا في هذه المقدمة، وإنما نريد أن نقول أنه من الضروري جدًا أن نحسن التعبير عن أنفسنا حتى يستطيع الناس أن يقفوا على حقيقة دعوتنا ويفيدوا منها بعون الله تعالى حتى لا تلتبس بغيرها من الحركات والدعوات ويظن أن الفرق بين هذه وتلك هي أمور شكلية راجعة إلى نزعة متطرفة.
    وبعد، فنحب أن نقول في نهاية هذا الفصل أنه ينبغي على المسلم ألا يتعجل في المضي في طريق لم تتبين معالمه حتى يتثبت أنه الحق، فإذا تيقن منه مضي فيه وثبت عليه. وليس من القصد والاعتدال في شيء متابعته لغيره في غير تبين، ولا أن يظل مترددًا لا يحسم أمره، ولا أن يمضي في أمر ثم سرعان ما يرجع عنه ويمضي في غيره أمام ضغوط الحياة، أو إيراد الشبهات عليه من غيره فلا يتريث في أمره أولًا، ولا يتريث لنكوثه ثانيا، وما أجمل ما قاله أبو الحسن في هذا المقام لكميل بن زياد:
    «يا كميل، إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها للخير، والناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل صائح، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق، ثم قال: آه. إن هاهنا علمًا ـ وأشار بيده إلى صدره ـ لو أصبت له حَمَلة، بل قد أصبت لقنا(31) يستعمل آلة الدين للدنيا، ويستظهر بحجج الله على كتابه، وبنعمه على معاصيه، أو حامل حق لا بصيرة له في إحيائه، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة، لا يدري أين الحق، إن قال أخطأ وإن أخطأ لم يدر، مشغوف بما لا يدري، فهو فتنة لمن فتن به، وإن من الخير كله من عرّفه الله دينه، وكفى بالمرء جهلًا ألا يعرف دينه»(32).
    يتبع إن شاء الله
    (10) صحيح البخاري، كتاب الإيمان: باب الين يسر، كتاب الرقاق: باب القصد والمداومة علي العمل.
    (11) يقول ابن كثير: الغلو هو مجاوزة الحد في اتباع الحق.
    (12) سورة النساء، الآية: 171.
    (13) اقتضاء الصراط المستقيم، ص103-105.
    (14) سورة المزمل، آية: 8.
    (15) الاعتصام، جـ1، ص336.
    (16) سورة ص، الآية: 86.
    (17) راجع الاعتصام، ص323-327.
    (18) سنن البيهيقى الكبرى، كتاب الحيض.
    (19) سورة النحل، الآية: 9.
    (20) الاعتصام، ص59.
    (21) المصدر السابق، ص77.
    (22) سورة الفتح، الآية: 28.
    (23) سورة البقرة، الآية: 63.
    (24) صحيح البخارى، كتاب العلم.
    (25) صحيح مسلم، باب النهى عن الحديث بكل ما سمع
    (26)صحيح البخاري، كتاب الاعتصام: باب ما ذكر النبي r وحض أهل العلم علي الإتفاق عليه.
    (27) سورة النساء، الآية: 65.
    (28) سورة المجادلة، الآية: 3-4.
    (31) سريع الفهم.
    (32) أعلام الموقعين، جـ2، ص168. تاريخ دمشق، حرف الحاء: الحسين بن أحمد بن سلمة

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Sep 2007
    المشاركات
    9

    افتراضي التـوازن

    -التـوازن:
    كثيرًا ما نجد في آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلي الله عليه وسلم قيما متقابلة، وهذه القيم المتقابلة الأخذ بطرف منها دون مراعاة الطرف الآخر مراعاة كافية كثيرًا ما يخل بالتوازن في الفهم والسلوك الإسلاميين. وهذه أمثلة:
    1- يقول ابن كثير في تفسير قوله تعالى: ((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) (البقرة:8) «ولهذا نبه الله سبحانه وتعالى على صفات المنافقين لئلا يغتر بظاهر أمرهم المؤمنون، فيقع بذلك فساد عريض من عدم الاحتراز منهم، ومن اعتقاد إيمانهم وهم كفار في نفس الأمر. وهذا من المحذورات الكبار: أن يظن بأهل الفجور خير»(33) إلخ.
    وسورة التوبة سميت الفاضحة لأنها تكشف أمر المنافقين؛ فتعرية الباطل وكشف زيفه أمر ضرورى لأصحاب الدعوات، وقد قامت السورة بهذه التعرية لا بالنسبة للمنافقين وحدهم ولكن أيضًا بالنسبة لأهل الكتاب من اليهود والنصارى حتى لايظن المسلمون أن كونهم أهل كتاب يعطيهم حرمه تمنع من قتالهم في غير حالات الدفاع ورد الاعتداء.
    هذا طرف الأخذ به واجب ولكن ليس لك أن تتمادى فتقول فلان لا يهديه الله: ((إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين َ) (القصص:56) (34) ، وعندما قال رجل مسلم من مهاجري الحبشة عن عمر بن الخطاب أنه لن يسلم حتى يسلم حمار الخطاب وكان عمر آنذاك مشركًا، أسلم عمر وكان إسلامه خيرًا وبركة، وبشره رسول الله صلي الله عليه وسلم بالجنة، ومات هذا الرجل بالحبشة متنصرًا والعياذ بالله. وكذلك ليس لك أن تقول لمن رأيته على معصية لن يغفر الله لفلان ففي الحديث: أنه كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين فكان أحدهما يذنب والآخر مجتهد في العبادة فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول: أقصر فوجده يومًا على ذنب فقال له: أقصر، فقال: خلني وربي أبعثت علي رقيبًا ؟ فقال: والله لا يغفر الله لك أو لا يدخلك الله الجنة فقبض أرواحهما فاجتمعا عند رب العالمين فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالمًا؟ أو كنت على ما في يدي قادرًا ؟ وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار»(35) وفي رواية أخرى عندما قال رجل لن يغفر الله لفلان قال الله عز وجل: «من ذا الذي يتألى علي أن أغفر لفلان فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك»(36).
    نعم هناك ما ينبغي كشفه وتعريته من الخداع حتى لا يفتن الناس في دينهم، وهناك ما ينبغي ستره من المعاصي. وفي هذه الحالة أوتلك ينبغي التأدب الكامل مع الرب سبحانه وتعالى؛ فلا يتقحم غيَبه أحد، ولا يتألى عليه أحد، وليس معنى ذلك أن نترك أهل الباطل يتترسون بلافتات كاذبة يحاربون من ورائها ديننا ودعوتنا ونتميع في مواجهتتم. كلا ولكن نراعي كلا الطرفين على وجه لا يخل بالطرف الآخر.

    2- كثيرًا ما يمنع حديث من أحاديث الرسول صلي الله عليه وسلم بعض التأثيرات الجانبية الضارة التى قد تنتج من الغلو في فهم أو تطبيق حديث آخر، فحديث: «من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه»(37)، يمنع أن يجر الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إلى تتبع العورات وإهدار حرمة المسلم في عرضه أو ماله كما أن حديث(38) السفينة يمنع من الغلو في الحفاظ على هذه الحرمة إلى الحد الذى يجر إلى ضياع المسئولية التضامنية في المجتمع لحفظ خصائص المجتمع المسلم فيه، وربما أدى فرط انشغال المسلم بنصيحة غيره من المسلمين إلى أن يصلح غيره وينسى نفسه، وتشغله عيوبهم عن عيبه؛ فيقول صلي الله عليه وسلم: «طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس»(39)، ويقول عز وجل: ((أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (البقرة:44) ْ (40)، وفي الطرف الآخر إذا قعد أهل الحسبة عن واجبهم من النصيحة حتى يُخَلُّو أنفسهم من العيوب لم يقم بهذا الأمر أحد. وفي هذا خطر عظيم على المجتمع المسلم. ومراعاة الطرفين معا واجبة.
    3- إذا قلنا قياسًا على ما ذكرناه وأخذا من النصوص: لا تقلد دينك الرجال، واعرف الرجال بالحق ولا تعرف الحق بالرجال، وكل يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلي الله عليه وسلم. وإذا قلنا أن الولاء للمبادئ والتعلق بالأفكار وليس الاشخاص لأن الولاءات الشخصية والتعلق بالزعامات سمة من سمات التشيع الذى لا يتلاءم مع المبادىء الإسلامية؛ فهذا كله حق، ولكن إذا فهم من هذا أن الحركة الإسلامية لا يتعين أن يكون لها إطار من المبادىء والمفاهيم يحدده المجتهدون من تطبيق الكتاب والسنة على الواقع فسوف تتبدد الحركة سدى وتمزقها الجهالات والخلافات... وإذا نحن أمعنّا في هذا التحديد فربما وصلنا إلى التقليد المرذول مع الجمود على أفكار مؤسسى الحركات دون تجديد يراعى المشكلات الطارئة والوقائع المتجددة مع إفراغ هالات التقديس على الأفراد. وقديمًا لاحظ الإمام الشاطبى ذلك في كثير من الطرق مما وصفه بأنه دعوى العصمة لمشايخهم بالأفعال وإن كانوا ينكرونها بالأقوال ـ ”الاعتصام“ .
    يتبع إن شاء الله
    (33) تفسير ابن كثير. سورة البقرة، الآية: 8.
    (34) سورة القصص، الآية: 56.
    (35) سنن أبي داوود، قال الألباني: حديث صحيح.
    (36) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب.
    (37) صحيح مسلم، كتاب المساقة: باب أخذ الحلال وترك الشبهات.
    (38) حديث السفينة «مثل القائم على حدود الله والمداهن فيها كمثل قوم استهموا على سفينة» البخارى، كتاب الشركة.
    (39) حلية الأولياء، جـ3، جعفر بن محمد الصادق. الجامع الصغير للألباني ضعيف جدا.
    (40) سورة البقرة، الآية: 44.

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Sep 2007
    المشاركات
    9

    افتراضي الخاتمة

    وأخيرًا هذان الطرفان:التأثر بالواقع ومراعاته.... والنظر إلى الأصل دون أي اعتبار أخر.
    فإذا أنت أمعنت في التأثر بالواقع ومراعاته فربما:
    أ- تحركت تحت ضغط ردود الأفعال في مفهومك وحركتك فعالجت انحرافًا بانحراف.
    ب- لم يكن لمبادئك ثبات ولا وضوح؛ إذ المقدمات فيها تبع للنتائج.
    جـ- أعطيت لقاعدة أو نص من نصوص الدين أهمية ليست له، ونظمت عليها عقد الدين، وأقمت عليها صرحه. ومن هنا جاءت الفرق المختلفة في الإسلام(41).
    وإذا تجاهلت الواقع تمامًا فربما:
    أ- فاتك سد الذرائع؛ وهى قاعدة أصيلة وركن ركين من أركان الشريعة(42)، كذلك وقعت في كثير من الزلل بسبب عدم النظر في المآلات والنظر في المآلات معتبر شرعًا وبه تصح الفتوى(43).
    ب- اعتبار المناط الخاص، فكل رسول يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له وايجاب الفرائض والنهى عن المحرمات. وهناك محرمات أبدية خالدة لا تختلف من رسالة إلى أخرى، وهناك فرائض لا تخلو منها رسالة، ومع ذلك نجد أن القرآن يركز على قضايا معينة في رسالات معينة. والرسول من غير شك في سبيل بيان القواعد الشرعية يتناول كل المحرمات وكل الفرائض ويضعها في مكانها الصحيح في نطاقها الديني، وفي معالجة الانحرافات الواقعية ينشغل بقضايا معينة هى الانحرافات القائمة بالفعل وليس غيرها بحيث تكون هى ودعوة التوحيد صلب حواره معهم، وذلك في مثل قوله تعالى: ((وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) (هود84:86)
    (44).
    ومثل هذا مع قوم لوط، مع اختلاف الانحرافات.
    ويقول الشاطبى في ”الموافقات“: «فمن ذلك أن النبى صلي الله عليه وسلم سئل في أوقات مختلفة عن أفضل الأعمال وخير الأعمال وعرف بذلك في بعض الأوقات من غير سؤال فأجاب بأجوبة مختلفة، كل واحد منها لو حمل على إطلاقه أو عمومه لاقتضى مع غيره التضاد في التفضيل.
    ففي الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام: سئل أي الأعمال أفضل؟ فقال: «إيمان بالله». قيل: ثم ماذا؟ قال: «الجهاد في سبيل الله». قيل: ثم ماذا؟ قال: «حج مبرور»، وسئل :صلي الله عليه وسلم «أي الأعمال أفضل؟ قال: «الصلاة لوقتها». قال: ثم أي؟ قال: «بر الوالدين». قال: ثم أي؟ قال: «الجهاد في سبيل الله».
    وفي النسائي عن أبي أمامة: أتيت النبي صلي الله عليه وسلم فقلت: مرنى بأمر آخذه عنك، قال: «عليك بالصوم فإنه لا مثل له»، وفي الترمذي: أي الأعمال أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال: «الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات»، وفي البزار: أي العبادة أفضل؟ قال: «دعاء المرء لنفسه»، وفي الترمذي: «ما من شيء أفضل في ميزان العبد المؤمن يوم القيامة من خلق حسن»، وفي الصحيح: «وما أعطى أحد عطاء هو خير وأوسع من الصبر»، وفي الترمذي: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه»، وفيه: «أفضل العبادة انتظار الفرج»، إلى أشياء من هذا النمط جميعها يدل على أن التفضيل ليس بمطلق، ويشعر إشعارًا ظاهرًا بأن القصد إنما هو بالنسبة للوقت أو إلى حال السائل؛ وقد دعا عليه الصلاة والسلام لأنس بكثرة المال فبورك له فيه وقال لثعلبة: «قليل تؤدى شكره خير من كثير لا تطيقه»، وقال لأبى ذر: «يا أبا ذر إنى أراك ضعيفًا، وإني أحب لك ما أحب لنفسى؛ لا تأمّرنّ على اثنين ولا تولّينّ مال يتيم»، ومعلوم أن كلا العملين من أفضل الأعمال لمن قام فيه بحق الله، وقد قال في الإمارة والحكم: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن»، وقال: «أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة»، وفي الصحيح: «أن أناسًا جاءوا إلى النبى صلي الله عليه وسلم فقالوا: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به. قال: «وقد وجدتموه؟» قالوا: نعم، قال: «ذلك صريح الإيمان»، وفي حديث أخر: «من وجد من ذلك شيئًا فليقل آمنت بالله»، وعن ابن عباس في مثله قال: «إذا وجدت شيئًا من ذلك فقل: هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شى عليم»، فأجاب بأجوبة مختلفة والعارض كله واحد.
    وقبل عليه الصلاة والسلام من أبي بكر ماله كله، وندب غيره إلى استبقاء بعضه وقال: «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك»، وجاء آخر بمثل بيضة من الذهب فردها في وجهه. وعن أبى رجاء العطاردى قال: قلت للزبير بن العوام: مالى أراكم يا أصحاب محمد من أخف الناس صلاة ؟ قال: نبادر الوسواس. هذا مع أن التطويل مستحب ولكن جاء ما يعارضه»، إلخ(45).
    ويعرف الشاطبى هذا المناط الخاص فيقول: «هو نظر في كل مكلَف بالنسبة إلى ما وقع عليه من الدلائـل التكليفية؛ بحيث يتعرف منه مداخل الشيطان ومداخل الهوى والحظوظ العاجلـة حتى يلقيها ـ يقصد التكاليف ـ هذا المجتهد على ذلك المكلَف مقيدة بقيود التحرز من تلك المداخل، هذا بالنسبة إلى التكليف المنحتم وغيره، ويختص غير المنحتم بوجه آخر: وهو النظر فيما يصلح بكل مكلَف في نفسه بحسب وقت دون وقت، وحال دون حال، وشخص دون شخص؛ إذ النفوس ليست في قبول الأعمال الخاصة على وزان واحد كما أنها في العلوم والصنائع كذلك»(46).
    وكما أنه لا يمكن إجراء حكم الكليات الشرعية في جزئياتها على الإطلاق من غير اعتبار خصوصيات الأحوال والأبواب وغير ذلك من الخصوصيات الجزئية، كذلك لا يمكن إجراؤها(47) في كل مكلف على الإطلاق من غير اعتبار بخصوصياتهم، وأفعال المكلفين هى مجال الأحكام الجزئية.
    ففي مجال الدعوة والتربية والفتوى لابد من مراعاة الواقع مراعاة دقيقة لتنزيل الأحكام الشرعية على ما يليق في أفعال المكلفين ولكن لايمكن أن ننقل هذا إلى مجال التقريرالمطلق للقواعد الشرعية وترتيب أهميتها وأولوياتها، فالأحاديث المتقدمة(48)مثلًا مجال فتوى وتربية والآيات) وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ )(الاسراء: من الآية23) (49)، الآيات من سورة الإسراء، أو: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ)(الأن عام: من الآية151) (50)، الآيات من سورة الأنعام مجال تقرير مطلق للقواعد الشرعية.
    جـ- تجاهل الواقع ربما أدى إلى تقديم الإسلام للناس في صورة لاهوت، أو نظرية مجردة لا ترتبط ارتباطا وثيقًا بالحياة والسلوك اليومي، وهذا على العكس من طريقة القرآن:((وَقُرْآ اً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً) (الاسراء:106)(51( الذى أخرج للناس عقيدة من خلال حركة الجماعة وأحداثها وصراعها مع غيرها ونموها وتفاعلها مع نفسها وغيرها.. وأخرج للناس جماعة من خلال تأصيلات العقيدة وتوجيهاتها.
    فربط(52)بين الحدث والتوجيه ربطًا دقيقًا مع الحفاظ على تجرد توجيهات العقيدة وقوة تأصيلها إذا ما أردت أن تستخلصها من التنزيل. وهذا أمر في منتهى الأهمية.
    تم بحمد الله.
    (41) شهادة الحق للمودودى.
    (42) راجع أعلام الموقعين لابن القيم.
    (43) راجع الموافقات، الجزء الرابع.
    (44) سورة هود، الآية: 84-86.
    (45) الموافقات، جـ4، ص 99-103. بتصرف يسير.
    (46) الموافقات، جـ4، ص 98.
    (47) يعنى الأحكام الجزئية وإجراؤها على المكلفين.
    (48) أحاديث أفضل الأعمال.
    (49) سورة الإسراء، الآية: 23.
    (50) سورة الأنعام، الآية: 151.
    (51) سورة الإسراء، الآية: 106.

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •