إزالة الشبهة عن حديث التربة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد:
فمما يؤسف له حقا بما أورده الشيخ محمود أبو رية في كتابه الذي أسماه "أضواء على السنة المحمدية" من شبهات هزيلة، وآراء فاسدة، وأفكار هدامة نحو السنة المحمدية على صاحبها الصلاة والسلام، وقد رد على كتابه هذا العلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحي المعلمي، والشيخ محمد عبد الرزاق حمزة رحمهما الله تعالى، ولقد أجادا وأفادا في رديهما البارعين المفيدين، وكلامهما مطبوع في سنة 1377هـ. ولقد استفدت من كتابيهما كثيرا في هذا الباب، فلله درهما، رحمهما الله تعالى، فما كنت أتجاسر على كتابة الرد على الشيخ أبي رية بعد وجود هذين الكتابين العظيمين وهما: "الأنوار الكاشفة لما في كتاب أضواء على السنة من الزلل والتظليل والمجازفة" للعلامة الشيخ المعلمي "وظلمات أبي رية" للعلامة الشيخ عبد الرزاق حمزة، فقد قام بنشر الكتابين المذكورين نصير السنة المحمدية الشيخ محمد نصيف رحمه الله تعالى، وتغمده برحمته ورضوانه آمين.
وما كنت بحال من الأحوال -قد بلغت مبلغ هذين العلمين من العلم والفضل ومن سواهما إلا أني قد أردت- مع ضعف حيلتي وقلة بصيرتي وإدراكي- أن أرضي الله جل وعلا وذلك بالدفاع عن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم والذب عن كرامة أصحابه البررة الكرام رضي الله تعالى عنهم أجمعين وعلى رأسهم الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله تعالى عنه الذي طعن فيه أبو رية وذلك باتهامه إياه بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بريء منه، وسائر أصحاب رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، إذ قال أبو رية: "روى مسلم عن أبي هريرة أنه قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، فقال: "خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة"، وقد قال البخاري وابن كثير وغيرهما: إن أبا هريرة قد تلقى هذا الحديث عن كعب الأحبار، لأنه يخالف نص القرآن في أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم قال أبو رية: ومن العجيب أن أبا هريرة قد صرح في هذا الحديث بسماعه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه أخذ بيده حين حدثه به، وإني لأتحدى الذين يزعمون في بلادنا أنهم على شيء من علم الحديث، وجميع من هم على شاكلتهم في غير بلادنا، أن يحلوا لنا هذا المشكل، وأن يخرجوا بعلمهم الواسع شيخهم من الهوة التي سقط فيها".
قلت: هذا نص كلام أبي رية في كتابه آنف الذكر، والشبهة التي لعبت في رأسه أن هذا الحديث لا يمكن الجمع بينه وبين نص القرآن الكريم الوارد في سبعة مواضع في كتاب الله تعالى وهو أولا: في سورة الأعراف إذ قال جل وعلا: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً}[1] ونحو هذا القول المبارك في سورة يونس[2] وفي سورة هود[3] وفي سورة الفرقان[4] وفي سورة السجدة[5] وفي سورة ق[6] وفي سورة الحديد[7]. وليس هناك تعارض حقيقي بين معنى هذا الحديث الشريف، وما ورد في كتاب الله من خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، كما سوف يأتي ذلك مفصلا وموضحا إن شاء الله تعالى، لأن هذه التحديات لم تكن قد وقعت من الشيخ محمود أبي رية إلا لبعده لما كان عليه السلف الصالح من الصحابة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين من علوم صافية نقية، وقواعد راسخة متينة، وأصول ثابتة محكمة لا يشذ عنها إلا من ابتلي بمرض الجهل أو النفاق، أعاذنا الله تعالى منهما، وإني سوف أتكلم على هذا الحديث الصحيح من جوانبه الأربعة المهمة.
1- تخريجه.
2- إسناده.
3- معناه.
4- شواهده.
تخريج الحديث
أما تخريجه فقد أخرجه مسلم في صحيحه(1) والإمام أحمد في مسنده(2) وابن جرير الطبري في تاريخه(3) والإمام الحافظ أحمد بن موسى بن مردويه الأصبهاني المتوفى سنة 410هـ في تفسيره(4) والإمام البيهقي في الأسماء والصفات(5) والنسائي في السنن الكبرى(6). وقد عقد الإمام النووي رحمه الله تعالى في شرحه على مسلم بابا على هذا الحديث بقوله: باب ابتداء الخلق، وخلق آدم عليه السلام، ثم ساق الإمام مسلم إسناده بقوله: حدثني سريج بن يونس، وهارون بن عبد الله، قالا: حجاج بن محمد قال: قال ابن جريج: أخبرني إسماعيل ابن أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ثم ذكر الحديث كما نقله أبو رية في كتابه، وزاد مسلم في نهاية الحديث "في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل" وهذه الزيادة لم ينقلها أبو رية في كتابه آنف الذكر. ثم قال مسلم رحمه الله تعالى في نهاية الحديث: قال إبراهيم: حدثنا البسطامي وهو الحسين بن عيسى، وسهل بن عمار، وإبراهيم بن بنت حفص وغيرهم عن حجاج بهذا الحديث ا هـ.
قلت: هكذا أثبت إسناد الحديث بهذا السياق عن حجاج بن محمد الأعور المصيصي الترمذي الأصل وهو من شيوخ الكتب الستة، والإمام أحمد في مسنده، وقد تغير أخيراً عند قدومه بغداد، كما قال الإمام الذهبي في ميزانه، والحافظ في تهذيبه، وقد روى عنه الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسيره شيئا كثيرا في حالة التغيير، وأما رواية مشايخ الكتب الستة عنه والإمام أحمد في مسنده فكانت قبل التغيير والله تعالى أعلم، وقد أخرج الإمام أحمد هذا الحديث في مسنده[8] في مسند أبي هريرة رضي الله تعالى عنه إذ قال: حدثنا حجاج، أخبرين ابن جريج قال: أخبرني إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، ثم ذكر الحديث بطوله كما أخرجه مسلم في الصحيح، والحجاج هو ابن محمد الأعور المذكور الذي سبق فيه الكلام، وأخرجه أيضا الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه[9]، عن شيخه القاسم بن بشر بن معروف، والحسين بن عبد الله الصدائي عن الحجاج بن محمد به، وأخرجه البيهقي في الأسماء والصفات[10] عن طريق شيخه محمد بن يعقوب، ثنا العباس بن محمد الدوري، ثنا حجاج بن محمد، قال: قال ابن جريج أخبرني إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، ثم ذكر الحديث بلفظه، ثم قال في نهاية الحديث -هذا حديث قد أخرجه مسلم في كتابه عن شريح- هكذا في المطبوعة- والصحيح سريج بالسين ابن يونس وغيره عن حجاج بن محمد ا هـ.
وأورد هذا الحديث الإمام أبو الحجاج المزي في كتابه: تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف[11] وعزا تخريجه إلى مسلم في الصحيح عن طريق سريج بن يونس وهارون بن عبد الله، والنسائي في السنن الكبرى في التفسير، عن طريق هارون بن عبد الله ويوسف بن سعيد ثلاثتهم عن حجاج بن محمد عن ابن جريج، عن إسماعيل ابن أمية عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع به.
وأورد الحديث الإمام ابن كثير في البداية والنهاية[12] نقلا عن مسند الإمام أحمد بإسناده ثم قال: وهكذا رواه مسلم عن سريج بن يونس وهارون بن عبد الله، والنسائي في التفسير عن إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، عن محمد بن المباح عن أبي عبدة الحداد، عن الأخضر بن عجلان عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكر الحديث بتمامه ونقله القاسمي في تفسيره[13]، ثم قال رحمه الله تعالى في تفسيره[14] بعد إيراده هذا الحديث وبيان من أخرجه، ورواه النسائي من غير وجه عن حجاج بن محمد الأعور عن ابن جريج وفيه استيعاب الأيام السبعة، والله تعالى قال: في ستة أيام، ولهذا تكلم البخاري وغير واحد من الحفاظ في هذا الحديث، وجعلوه من رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار وليس مرفوعا والله تعالى أعلم.
قلت: سوف يأتي النقل عن الإمام البخاري رحمه الله تعالى من تاريخه الكبير في ترجمة أيوب بن خالد ما أشار إليه الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى.
وعزى الإمام السيوطي في الدر المنثور[15] هذا الحديث إلى الحافظ أحمد بن موسى ابن مردويه الأصبهاني المتوفى سنة 410 في تفسيره فقط، ولم أدر عن صنيعه هذا هنا في التفسير ربما خاف رحمه الله تعالى من تعارض هذا الحديث مع ظاهر القرآن الكريم في حالة عزوه إلى مسلم في الصحيح والإمام أحمد في مسنده والإمام البيهقي في الأسماء والصفات والنسائي في سننه، أو لم يطلع على تخريجه كاملا والعلم عند الله تعالى، مع أنه رحمه الله تعالى، عزاه في الجامع الصغير[16] إلى الإمام أحمد بن حنبل في مسنده، ومسلم في صحيحه.
وعزاه صاحب الكنز[17] بعد إيرداه كلاما إلى مسلم في الصحيح والإمام أحمد في مسنده، وهكذا قال الشيخ النابلسي في ذخائر المواريث[18]، والإمام ابن القيم في المنار المنيف[19]، والشيخ عبد القادر القرشي في الجواهر المضية في طبقات الحنفية[20]، وتكلم عليه العلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحي المعلمي في الأنوار الكاشفة[21] ردا على أبي رية وإثباتا لمعنى الحديث وإسناده فأجاد وأفاد رحمه الله تعالى، فهذا هو تخريج هذا الحديث، وأما الكلام حول إسناده فهو كالآتي.

إسناد الحديث

وأما إسناد هذا الحديث فهو إسناد من أسانيد مسلم في الصحيح كما ترى وهو على شرطه الذي اشترطه على نفسه في مقدمة صحيحه إذ قال رحمه الله تعالى[22] في مقدمته العليمة على صحيح مسلم، ومقسماً الأخبار التي يخرجها في صحيحه وهي ثلاثة أنواع "فأما القسم الأول فإنا نتوخى أن نقدم الأخبار التي هي أسلم من العيوب من غيرها، وأنقى ما يكون ناقلوها أهل استقامة في الحديث، وإتقان لما نقلوا، لم يوجد في روايتهم اختلاف شديد، وتخليط فاحش، كما عثر فيه على كثير من المحدثين وبان ذلك في حديثه، فإذا نحن تقصينا أخبار هذا الصنف من الناس أتبعناها أخبارا يقع في أسانيدها بعض من ليس بالموصوف بالحفظ والإتقان، كالصنف المقدم قبلهم، على أنهم، وإن كانوا فيما وضعنا دونهم فإن اسم الستر والصدق وتعاطي العلم يحملهم كعطاء بن السائب ويزيد بن أبي الزياد وليث بن أبي سليم، وأضرابهم من حمال الآثار، ونقال الأخبار، فهم وإن كانوا بما وصفنا من العلم والستر عند أهل العلم معروفين، فغيرهم من أقرانهم ممن عندهم ما ذكرنا من الإتقان، والاستقامة في الرواية يفضلونهم في الحال والمرتبة، لأن هذا عند أهل العلم درجة رفيعة، وخصلة سنية، ألا ترى أنك إذا وازنت هؤلاء الثلاثة الذين سميناهم عطاء، ويزيد وليثاً بمنصور بن المعتمر، وسليمان الأعمش، وإسماعيل بن أبي خالد في إتقان الحديث والاستقامة فيه، وجدتهم مباينين لهم لا يدانونهم، لاشك عند أهل العلم بالحديث في ذلك، للذي استفاض عندهم من صحة منصور، والأعمش، وإسماعيل وإتقانهم لحديثهم وإنهم لم يعرفوا مثل ذلك من عطاء، ويزيد، وليث، وفي مثل مجرى هؤلاء إذا وازنت بين الأقران كابن عون، وأيوب السختياني، مع عوف بن أبي جميلة، وأشعت الحمراني وهما صاحبا الحسن، وابن سيرين، كما أن ابن عون وأيوب صاحبهما إلا أن البون بينهما وبين هذين بعيد في كمال الفصل، وصحة النقل، وإن كان عوف، وأشعت غير مدفوعين عن صدق وأمانة عند أهل العلم، ولكن الحال ما وصفنا من المنزلة عند أهل العلم، وإنما مثلنا هؤلاء في التسمية ليكون تمثيلهم سمة يصدر عن فهمها من غبى عليه طريق أهل العلم في ترتيب أهله فيه يقصّر بالرجل العالي القدر عن درجته، ولا يرافع متضع القدر في العلم فوق منزلته، ويعطي كل ذي حق فيه حقه، وينزل منزلته وقد ذكر عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم مع ما نطق به القرآن من قول الله تعالى {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} فعلى نحو ما ذكرنا من الوجوه نؤلف ما سألت من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأما ما كان منها عن قوم هم عند أهل الحديث متهمون أو عند الأكثر منهم فلسنا نتشاغل تخريج حديثهم كعبد الله بن مسور وأبي جعفر المدائني، وعمرو بن خالد وعبد القدوس الشامي، ومحمد بن سعيد المصلوب، وغياث بن إبراهيم، وسليمان بن عمر وأبي داود النخعي وأشباههم ممن اتهم بوضع الأحاديث وتوليد الأخبار، وكذلك من الغالب على حديثه المنكر، أو الغلط امسكنا أيضا عن حديثهم.
قلت: هذا هو النقل عن الإمام أبي الحجاج مسلم رحمه الله تعالى في مقدمة صحيحه وأنه لم يخالف في إخراج حديث أبي هريرة رضي الله عنه بحال من الأحوال وأنه على شرطه تماما كما نص في هذا النقل بأنه لا يخرج حديث من كان متهما بالكذب أو من كان منكرا كثير الغلط، وأما ما سواهما فإنه يخرج حديثهم للاستشهاد، والمتابعات وهكذا نقل السيوطي في تدريبه[23] عن مسلم فرواه وبهذا الإسناد الذي أنا بصدد الكلام حولهم فإنهم كلهم ثقات، إلا أيوب بن خالد بن صفوان بن أوس بن جابر الأنصاري المدني الذي يروي عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة وروى عنه إسماعيل بن أمية فقد قال الحافظ في تقريبه[24]: فيه لين من الرابعة ورمز له بأنه من رجال مسلم، والترمذي، والنسائي، وقال في التهذيب[25] وذكره ابن حبان في الثقات، ورجحه الخطيب.
قلت: صالح للمتابعات والشواهد، ويكتب حديثه، ولم يخرج له مسلم سوى هذا الحديث الواحد فقط في صحيحه، ولم يكن حديثه مخالف للثقات، كما سوف يأتي في معنى الحديث مفصلا إن شاء الله تعالى.
وقال الإمام البخاري في تاريخه الكبير[26] في ترجمة أيوب بن خالد هذا رقم 1317 وروى إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد الأنصاري، عن عبد الله بن رافع عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خلق الله التربة يوم السبت"، وقال بعضهم عن أبي هريرة عن كعب وهو أصح ا هـ.
وقال الإمام ابن القيم في المنار المنيف[27] ويشبه هذا ما وقه فيه الغلط من حديث أبي هريرة: خلق الله التربة يوم السبت، وهو في صحيح مسلم ولكن الغلط في رفعه، وإنما هو قول كعب الأحبار، ثم نقل عن الإمام البخاري قوله من تاريخه الكبير الذي نقل آنفا ثم قال: وقال غيره من علماء المسلمين أيضا وهو كما قالوا، لأن الله أخبر أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وهذا الحديث يقتضي أن مدة التخليق سبعة أيام، والله تعالى أعلم.
قلت: هكذا ضعف هذا الإسناد استنادا على قول الإمام البخاري رحمه الله تعالى، المنقول من تاريخه الكبير، وإلى هذا التضعيف جنح الشيخ عبد القادر القرشي في الجواهر المضية في طبقات الحنيفة[28] إذ قال: وقد روى مسلم أيضا خلق الله التربة ثم ذكر الحديث، ثم قال: واتفقت الناس على أن يوم السبت لم يقع فيه خلق، وأن ابتداء الخلق كان يوم الأحد ا هـ.
قلت: سوف يأتي الرد على هذا عند الكلام على معنى الحديث، وقال العلامة المناوي في فيض القدير على شرحه على الجامع الصغير للسيوطي[29]. أخرجه مسلم وهو من غرائبه، وقد تكلم فيه ابن المديني والبخاري وغيرهما من الحفاظ، وجعلوه من كلام كعب الأحبار، وأن أبا هريرة إنما سمعه منه لكن اشتبه على بعض الرواة فجعلوه مرفوعا، وقد حرر ذلك البيهقي، وذكره ابن كثير في تفسيره، وقال بعضهم: هذا الحديث في متنه غرابة شديدة، فمن ذلك أنه ليس فيه ذكر خلق السماوات، وفيه ذكر خلق الأرض وما فيها في سبعة أيام، وهذا خلاف القرآن لأن الأرض خلقت في أربعة أيام ثم خلقت السماوات في يومين ا هـ.
قلت: ليست هناك غرابة في معنى الحديث ولا تعارض مع نص القرآن الكريم، كما يفصل ذلك ويوضح عند الكلام على معنى الحديث، والإسناد قد تكلم عليه الإمام البيهقي في الأسماء والصفات، وصححه كما سوف يأتي قريبا وقد صحح هذا الإسناد أيضا الإمام يحي بن معين، وابن منده، والدولابي، والثقفي كما نقله الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في صحيح الجامع الصغير[30]، وقد تكلم عليه في الأحاديث الصحيحة برقم 1833.
وقال الإمام البيهقي في الأسماء والصفات[31]: وزعم بعض أهل العلم بالحديث أنه غير محفوظ لمخالفته ما عليه أهل التفسير، وأهل التواريخ، وزعم بعضهم: أن إسماعيل بن أمية إنما أخذه عن إبراهيم بن أبي يحي عن أيوب بن خالد، وإبراهيم غير محتج به، ثم ساق إسناده بقوله: أخبرنا أبو عبد الله، أخبرني أبو يحي أحمد بن السمرقندي ببخارى، ثنا أبو عبد الله محمد بن نصر، حدثني محمد بن يحي، قال: سألت علي بن المديني عن حديث أبي هريرة رضي الله عنه، خلق الله التربة يوم السبت، فقال علي: هذا حديث مدني رواه همام بن يوسف عن ابن جريج عن إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن أبي رافع مولى أم سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، قال عليّ: وشبك إبراهيم بن أبي يحي، وقال لي: شبك بيدي أيوب بن خالد، وقال لي شبك بيدي عبد الله بن رافع، وقال لي، شبك بيدي أبو هريرة رضي الله تعالى عنه وقال لي: شبك بيدي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم وقال لي: "خلق الله الأرض يوم السبت" فذكر الحديث، قال لي علي بن المديني: وما أرى إسماعيل بن أمية أخذ هذا إلا من إبراهيم بن أبي يحيى.
قلت هكذا علل ابن المديني رحمه الله تعالى، إسناد هذا الحديث، بقوله إنه مروي عن طريق إبراهيم بن يحي، وإبراهيم غير محتج به كما قال البخاري في التاريخ الكبير[32]، والصغير[33]، والضعفاء له[34] والجرح والتعديل[35] والضعفاء للنسائي[36] والمجروحين لابن حبان[37] والضعفاء للعقيلي[38] وتهذيب الكمال[39]، والذهبي في الميزان[40]، وتذكرة الحفاظ للذهبي[41]، وتهذيب التهذيب[42] ولم يثبت هؤلاء كلهم سماع أو رواية إسماعيل بن أمية عن إبراهيم بن أبي يحي هذا، وهو متروك متهم بالكذب، وهو من رواة ابن ماجة وقد انفرد به ولم يعلل البخاري رحمه الله تعالى هذا التعليل في تاريخه الكبير، ولم يضعف علي بن عبد الله المديني رحمه الله تعالى أيوب بن خالد الأنصاري الذي روى هذا الحديث، ولقد قال الإمام البيهقي رحمه الله تعالى بعد نقل ابن المديني حول هذا الإسناد في الأسماء والصفات.
قلت: أي قال الإمام البيهقي رادا على ابن المديني حين قال إن إسماعيل بن أمية روى عن إبراهيم بن أبي يحي -وقد تابعه على ذلك موسى بن عبيدة الربذي عن أيوب بن خالد، إلا أن موسى بن عبيدة ضعيف، وروى عن بكر بن الشرود، عن إبراهيم بن أبي يحي عن صفوان بن سليم عن أيوب بن خالد وإسناده ضعيف، والله أعلم اهـ.
قلت: لم يرتضي البخاري رحمه الله تعالى قول شيخه ابن المديني لأن إسماعيل بن أمية ثقة ثبت عند المحدثين، وليس بمدلس وهو معاصر لشيخه أيوب بن خالد الأنصاري كما لا يخفى هذا الأمر على من مارس من التحقيق في علوم الحديث، وكأن البخاري رحمه الله تعالى قد أعل هذا الإسناد بأمر آخر في تاريخه، كما قال الشيخ عبد الرحمن بن يحي المعلمي في الأنوار الكاشفة[43]، إذ قال رحمه الله تعالى: ومؤدى صنيعه أنه يحس أن أيوب أخطأ، وهذا الحس مبني على ثلاثة أمور: الأول: استنكار الخبر لما مرّ، والثاني: أن أيوب ليس بالقوي، وهو مقل، ولم يخرج مسلم إلا هذا الحديث كما يعلم من الجمع بين رجال الصحيحين، وتكلم فيه الأزدي، ولم ينقل توثيقه عن أحد الأئمة إلا أن ابن حبان، ذكره في ثقاته، وشرط ابن حبان في التوثيق فيه تسامح معروف.
الثالث: الرواية التي أشار إليها بقوله "وقال بعضهم: وليته ذكر سندها ومتنها فقد تكون ضعيفة في نفسها وإنما قويت عنده للأمرين الآخرين. ويدل على ضعفها أن المحفوظ عن كعب، وعبد الله بن سلام، ووهب بن منبِّه ومن يأخذ عنهم، أن ابتداء الخلق كان يوم الأحد وهو قول أهل الكتاب المذكور في كتبهم وعليه بنوا قولهم في السبت.
قلت: هذا الوجه الثالث الذي ذكره رحمه الله تعالى كان ينبغي أن يحتفظ به على رده على الإمام البخاري رحمه الله تعالى في تضعيفه لأيوب بن خالد الأنصاري وسوف يأتي ذلك مفصلاً عند ذكر معنى الحديث وخلاصة القول أن علي بن المديني والبخاري رحمهما الله تعالى لم يتفقا في تعليلهما على تضعيف هذا الإسناد بل لكل واحد منهما رأي متغاير في التضعيف ولو اتفقا على علة واحدة لكان لرأيهما وزن كبير وثقل عظيم، وقد رد عليهما الإمام البيهقي، والشيخ عبد الرحمن بن يحي المعلمي رحمهما الله تعالى، وسوف يأتي كلام المعلمي مفصلاً عند معنى الحديث بعد ما يثبت إسناد الحديث بالحجة القاطعة، والبرهان الواضح، فلله دره رحمه الله تعالى.
وأزيد على ما ذكره المعلمي حول إسناد هذا الحديث والإمام البيهقي في ذكره الزيادات الإسنادية ثم تضعيفه إياها وسكوته عليها فأقول: إن هذا الإسناد الذي تكلم عليه الإمام البخاري رحمه الله تعالى في تاريخه الكبير بقوله: "وقال بعضهم عن أبي هريرة عن كعب وهو أصح" إن حكمه على هذا الإسناد بالأصحية يدل على أن رواية مسلم التي صرح فيها أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أنه سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم شاذة في نظر البخاري رحمه الله تعالى، ولكن أين هذه الرواية التي أشار إليها بالأصحية ومن أخرجها من أصحاب الكتب الستة وغيرهم، والبخاري رحمه الله تعالى لم يخرجها في الجامع الصحيح ولا في غيره من الكتب، ولقد فتشت عنها كثيرا في كتب الحديث المطبوعة التي بين يديّ والمخطوطة فلم أقف عليها، وكذا في كتب التراجم والسير والتاريخ والتفسير ولم يشر إليها أحد من المحدثين، ما عدا الإمام البخاري رحمه الله تعالى، ولم يعلل الإمام علي بن عبد الله المديني هذا الإسناد بما علل به تلميذه الرشيد رحمهما الله تعالى، والبخاري يقول في حق شيخه هذا كما نقل هذا المزي في تهذيب الكمال والحافظ في التهذيب وغيرهما من أئمة الحديث: "ما اصتغرت نفسي إلا عند ابن المديني فإنه خلقه الله تعالى للحديث" والإسناد قد صححه جملة كبيرة من المحدثين كما مضى، وأما قول الإمام البيهقي في الأسماء والصفات عند رده على ابن المديني، وزعم بعضهم أن إسماعيل بن أمية إنما أخذه عن إبراهيم بن أبي يحي إلخ: فاستعماله كلمة "زعم" رد واضح وإنكار ظاهر، وكيف لا، وقد كان إسماعيل بن أمية معاصراً لأيوب بن خالد الأنصاري، ولم يكن متهماً بالتدليس، ولا بالإرسال الخفي وليس هناك انقطاع، فيما علمت، ولو كان هناك شيء لأشار إليه البخاري في تاريخه الكبير، ولهذا صحح الإسناد جملة كبيرة من أهل الفن كما نقل عنهم، وأما الزيادات التي أشار إليها الإمام البيهقي في هذا الإسناد فإنها زيادة في متصل الأسانيد كما لا يخفى مع ضعفها كما أشار إليها الإمام البيهقي رحمه الله تعالى، والضعف محتمل في نظره رحمه الله تعالى، وفي نظر أهل الفن خصوصا متابعة موسى بن عبيدة الربذي لإسماعيل بن أمية عن شيخه أيوب بن خالد الأنصاري، واكتفى بهذا القدر بما يتعلق بإسناد خبر أبي هريرة رضي الله عنه، وهو إسناد صحيح كما اشترطه مسلم في صحيحه كما ظهر لك في هذه الدراسة المتواضعة التي تتعلق بقولي الإمام علي بن عبد الله المديني والإمام البخاري رحمه الله تعالى وعدم اتفاقهما على علة واحدة في تضعيف الإسناد فهناك دليل قوي على تفوق جانب المصححين قوة ورجحانا وهم أكثر والله تعالى أعلم بالصواب.


المصدر
http://www.almenhaj.net/auth/subject.php?linkid=7554