ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ
إعداد الدكتور أمل العلمي
وردت كلمة "أرباب" في عدة آيات من الذكر الحكيم. ويمكننا أن نقف عليها على سبيل المثال في سورة يوسف الآية 39 ، وسورة آل عمران 64 ، وكذلك في سورة آل عمران الآية 80 ، وفي سورة التوبة الآية 31. وقبل أن نستعرضها مع ملخص لتفسيرها من أحد كتب تفسير القرآن، لنبحث في معاجم اللغة على الدلالة اللغوية لكلمة أرباب.
مع الدلالة اللغوية للفظة "أرباب":
في معجم لسان العرب لابن منظور نجد شرحا مطولا للمادة اللغوية ربب، فاللفظة "أرباب" وهي جمع كلمة "ربّ" من الجذر الثلاثي "ربب" ... دونك إذاً هذا المقطع من الشرح المطول كما ورد في المعجم: «الرَّبُّ: هو اللّه عزّ وجلّ، هو رَبُّ كلِّ شيءٍ أَي مالكُه، وله الرُّبوبيَّة على جميع الخَلْق، لا شريك له، وهو رَبُّ الأَرْبابِ، ومالِكُ المُلوكِ والأَمْلاكِ. ولا يقال الربُّ في غَيرِ اللّهِ، إِلاّ بالإِضافةِ، قال: ويقال الرَّبُّ، بالأَلِف واللام، لغيرِ اللّهِ؛ وقد قالوه في الجاهلية للمَلِكِ؛ قال الحرث ابن حِلِّزة: وهو الرَّبُّ، والشَّهِيدُ عَلى يَوْ مِ الحِيارَيْنِ، والبَلاءُ بَـلاءُ
والاسْم: الرِّبابةُ؛ قال: يا هِنْدُ أَسْقاكِ، بلا حِسابَهْ، سُقْيَا مَلِيكٍ حَسَنِ الرِّبابهْ والرُّبوبِيَّة: كالرِّبابة.
وعِلْمٌ رَبُوبيٌّ: منسوبٌ إِلى الرَّبِّ، على غير قياس. وحكى أَحمد بن يحيى: لا وَرَبْيِكَ لا أَفْعَل. قال: يريدُ لا وَرَبِّكَ، فأَبْدَلَ الباءَ ياءً، لأَجْلِ التضعيف.
وربُّ كلِّ شيءٍ: مالِكُه ومُسْتَحِقُّه؛ وقيل: صاحبُه. ويقال: فلانٌ رَبُّ هذا الشيءِ أَي مِلْكُه له. وكُلُّ مَنْ مَلَك شيئاً، فهو رَبُّه. يقال: هو رَبُّ الدابةِ، وربُّ الدارِ، وفلانٌ رَبُّ البيتِ، وهُنَّ رَبَّاتُ الحِجالِ؛ ويقال: رَبٌّ، مُشَدَّد؛ ورَبٌ، مخفَّف؛ وأَنشد المفضل: وقد عَلِـمَ الأَقْـوالُ أَنْ لـيسَ فـوقَـه رَبٌ، غيرُ مَنْ يُعْطِي الحُظوظَ، ويَرْزُقُ
وفي حديث أَشراط الساعة: وأَن تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّها، أَو رَبَّتَها. قال: الرَّبُّ يُطْلَق في اللغة على المالكِ، والسَّيِّدِ، والمُدَبِّر، والمُرَبِّي، والقَيِّمِ، والمُنْعِمِ؛ قال: ولا يُطلَق غيرَ مُضافٍ إِلاّ على اللّه، عزّ وجلّ، وإِذا أُطْلِق على غيرِه أُضِيفَ، فقيلَ: ربُّ كذا. قال: وقد جاءَ في الشِّعْر مُطْلَقاً على غيرِ اللّه تعالى، وليس بالكثيرِ، ولم يُذْكَر في غير الشِّعْر. قال: وأَراد به في هذا الحديثِ المَوْلَى أَو السيِّد، يعني أَن الأَمَةَ تَلِدُ لسيِّدها ولَداً، فيكون كالمَوْلى لها، لأَنه في الحَسَب كأَبيه. أَراد: أَنَّ السَّبْي يَكْثُر، والنِّعْمة تظْهَر في الناس، فتكثُر السَّراري. وفي حديث إِجابةِ المُؤَذِّنِ: اللهُمَّ رَبَّ هذه الدعوةِ أَي صاحِبَها؛ وقيل: المتَمِّمَ لَها، والزائدَ في أَهلها والعملِ بها، والإِجابة لها. وفي حديث أَبي هريرة، رضي اللّه عنه: لا يَقُل المَمْلوكُ لسَيِّده: ربِّي؛ كَرِهَ أَن يجعل مالكه رَبّاً له، لمُشاركَةِ اللّه في الرُّبُوبيةِ؛ فأَما قوله تعالى: اذْكُرْني عند ربك؛ فإِنه خاطَبَهم على المُتَعارَفِ عندهم، وعلى ما كانوا يُسَمُّونَهم به؛ ومنه قولُ السامِرِيّ: وانْظُرْ وفي حديث عروةَ بن مسعود، رضي اللّه عنه: لمَّا أَسْلَم وعادَ إِلى قومه، دَخل منزله، فأَنكر قَومُه دُخُولَه، قبلَ أَن يأْتِيَ الربَّةَ، يعني اللاَّتَ، وهي الصخرةُ التي كانت تَعْبُدها ثَقِيفٌ بالطائفِ. وفي حديث وَفْدِ ثَقِيفٍ: كان لهم بَيْتٌ يُسَمُّونه الرَّبَّةَ، يُضاهِئُونَ به بَيْتَ اللّه تعالى، فلما أَسْلَمُوا هَدَمَه المُغِيرةُ. وقوله عزّ وجلّ: ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيةً مَرْضِيَّةً، فادْخُلي في عَبْدي؛ فيمن قرأَ به، فمعناه، واللّه أَعلم: ارْجِعِي إِلى صاحِبِك الذي خَرَجْتِ منه، فادخُلي فيه؛ والجمعُ أَربابٌ ورُبُوبٌ. وقوله عزّ وجلّ: إِنه ربِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ؛ قال الزجاج: إِن العزيز صاحِبِي أَحْسَنَ مَثْوايَ؛ قال: ويجوز أَنْ يكونَ: اللّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ. ».[1]
مع تفسير الآيات المذكورة:
ﭧ ﭨ ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﭼيوسف: ٣٨ – ٤٠
... وينتهز يوسف هذه الفرصة ليبث بين السجناء عقيدته الصحيحة؛ فكونه سجيناً لا يعفيه من تصحيح العقيدة الفاسدة والأوضاع الفاسدة، القائمة على إعطاء حق الربوبية للحكام الأرضيين، وجعلهم بالخضوع لهم أرباباً يزاولون خصائص الربوبية، ويصبحون فراعين! ويبدأ يوسف مع صاحبي السجن من موضوعهما الذي يشغل بالهما، فيطمئنهما ابتداء إلى أنه سيؤول لهم الرؤى، لأن ربه علمه علماً لدنياً خاصاً، جزاء على تجرده لعبادته وحده، وتخلصه من عبادة الشركاء. هو وآباؤه من قبله.. وبذلك يكسب ثقتهما منذ اللحظة الأولى بقدرته على تأويل رؤياهما، كما يكسب ثقتهما كذلك لدينه:ﭽ قال: لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما، ذلكما مما علمني ربي. إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله، وهم بالآخرة هم كافرون. واتبعت ملة آبائـي إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء. ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس، ولـكن أكثر الناس لا يشكرونﭼ.. ويبدو في طريقة تناول يوسف للحديث لطف مدخله إلى النفوس، وكياسته وتنقله في الحديث في رفق لطيف.. وهي سمة هذه الشخصية البارزة في القصة بطولها..ﭽقال: لا يأتيكما طعام ترزقانه، إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما، ذلكما مما علمني ربيﭼ.. بهذا التوكيد الموحي بالثقة بأن الرجل على علم لدني، يرى به مقبل الرزق وينبئ بما يرى. وهذا ـ فوق دلالته على هبة الله لعبده الصالح يوسف ـ وهي كذلك بطبيعة الفترة وشيوع النبوءات فيها والرؤى ـ وقوله: ﭽ ذلكما مما علمني ربيﭼتجيء في اللحظة المناسبة من الناحية النفسية ليدخل بها إلى قلبيهما بدعوته إلى ربه؛ وليعلل بها هذا العلم اللدني الذي سيؤول لهما رؤياهما عن طريقه.ﭽإني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله، وهم بالآخرة هم كافرونﭼ.. مشيراً بهذا إلى القوم الذي ربي فيهم، وهم بيت العزيز وحاشية الملك والملأ من القوم والشعب الذي يتبعهم. والفتيان على دين القوم، ولكنه لا يواجههما بشخصيتهما، إنما يواجه القوم عامة كي لا يحرجهما ولا ينفرهما ـ وهي كياسة وحكمة ولطافة حس وحسن مدخل. وذكر الآخرة هنا في قول يوسف يقرر ـ كما قلنا من قبل ـ أن الإيمان بالآخرة كان عنصراً من عناصر العقيدة على لسان الرسل جميعاً؛ منذ فجر البشرية الأول؛ ولم يكن الأمر كما يزعم علماء الأديان المقارنة أن تصور الآخرة جاء إلى العقيدة ـ بجملتها ـ متأخراً.. لقد جاء إلى العقائد الوثنية الجاهلية متأخراً فعلاً، ولكنه كان دائماً عنصراً أصيلاً في الرسالات السماوية الصحيحة.. ثم يمضي يوسف بعد بيان معالم ملة الكفر ليبين معالم ملة الإيمان التي يتبعها هو وآباؤه:ﭽواتبعت ملة آبائي: إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ما كان لنا أن نشرك بالله من شيءﭼ.. فهي ملة التوحيد الخالص الذي لا يشرك بالله شيئاً قط.. والهداية إلى التوحيد فضل من الله على المهتدين، وهو فضل في متناول الناس جميعاً لو اتجهوا إليه وأرادوه. ففي فطرتهم أصوله وهواتفه، وفي الوجود من حولهم موحياته ودلائله، وفي رسالات الرسل بيانه وتقريره. ولكن الناس هم الذين لا يعرفون هذا الفضل ولا يشكرونه:ﭽذلك من فضل الله علينا وعلى الناس، ولكن أكثر الناس لا يشكرونﭼ .. مدخل لطيف.. وخطوة خطوة في حذر ولين.. ثم يتوغل في قلبيهما أكثر وأكثر، ويفصح عن عقيدته ودعوته إفصاحاً كاملاً، ويكشف عن فساد اعتقادهما واعتقاد قومهما، وفساد ذلك الواقع النكد الذي يعيشون فيه.. بعد ذلك التمهيد الطويل:ﭽيا صاحبي السجن، أأرباب متفرقون خير؟ أم الله الواحد القهار؟ ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان. إن الحكم إلا لله. أمر ألا تعبدوا إلا إياه. ذلك الدين القيم. ولـكن أكثر الناس لا يعلمونﭼ.. لقد رسم يوسف ـ عليه السلام ـ بهذه الكلمات القليلة الناصعة الحاسمة المنيرة، كل معالم هذا الدين، وكل مقومات هذه العقيدة. كما هز بها كل قوائم الشرك والطاغوت والجاهلية هزاً شديداً عنيفاً..ﭽيا صاحبي السجن، أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار؟ﭼ.. إنه يتخذ منهما صاحبين، ويتحبب إليهما هذه الصفة المؤنسة، ليدخل من هذا المدخل إلى صلب الدعوة وجسم العقيدة. وهو لا يدعوهما إليها دعوة مباشرة، إنما يعرضها قضية موضوعية:ﭽأأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار؟ﭼ.. وهو سؤال يهجم على الفطرة في أعماقها ويهزها هزاً شديداً.. إن الفطرة تعرف لها إلهاً واحداً ففيم إذن تعدد الأرباب؟.. إن الذي يستحق أن يكون رباً يعبد ويطاع أمره ويتبع شرعه هو الله الواحد القهار. ومتى توحد الإله وتقرر سلطانه القاهر في الوجود فيجب تبعاً لذلك أن يتوحد الرب وسلطانه القاهر في حياة الناس. وما يجوز لحظة واحدة أن يعرف الناس أن الله واحد، وأنه هو القاهر، ثم يدينوا لغيره ويخضعوا لأمره، ويتخذوا بذلك من دون الله ربا.. إن الرب لا بد أن يكون إلهاً يملك أمر هذا الكون ويسيره. ولا ينبغي أن يكون العاجز عن تسيير أمر هذا الكون كله رباً للناس يقهرهم بحكمه، وهو لا يقهر هذا الكون كله بأمره! والله الواحد القهار خير أن يدين العباد لربوبيته من أن يدينوا للأرباب المتفرقة الأهواء الجاهلة القاصرة العمياء عن رؤية ما وراء المنظور القريب ـ كالشأن في كل الأرباب إلا الله ـ وما شقيت البشرية قط شقاءها بتعدد الأرباب وتفرقهم، وتوزع العباد بين أهوائهم وتنازعهم.. فهذه الأرباب الأرضية التي تغتصب سلطان الله وربوبيته؛ أو يعطيها الجاهليون هذا السلطان تحت تأثير الوهم والخرافة والأسطورة، أو تحت تأثير القهر أو الخداع أو الدعاية! هذه الأرباب الأرضية لا تملك لحظة أن تتخلص من أهوائها، ومن حرصها على ذواتها وبقائها، ومن الرغبة الملحة في استبقاء سلطانها وتقويته، وفي تدمير كل القوى والطاقات التي تهدد ذلك السلطان من قريب أو من بعيد؛ وفي تسخير تلك القوى والطاقات في تمجيدها والطبل حولها والزمر والنفخ فيها كي لا تذبل ولا تنفثىء نفختها الخادعة! والله الواحد القهار في غنى عن العالمين؛ فهو سبحانه لا يريد منهم إلا التقوى والصلاح والعمل والعمارة ـ وفق منهجه ـ فيعدّ لهم هذا كله عبادة.وحتى الشعائر التي يفرضها عليهم إنما يريد بها إصلاح قلوبهم ومشاعرهم، لإصلاح حياتهم وواقعهم.. وإلا فما أغناه سبحانه عن عباده أجمعين!ﭽيا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله، والله هو الغني الحميدﭼ ففرق بين الدينونة لله الواحد القهار والدينونة للأرباب المتفرقة بعيد! ثم يخطو يوسف ـ عليه السلام ـ خطوة أخرى في تفنيد عقائد الجاهلية وأوهامها الواهية:ﭽما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطانﭼ.. إن هذه الأرباب ـ سواء كانت من البشر أم من غير البشر من الأرواح والشياطين والملائكة والقوى الكونية المسخرة بأمر الله ـ ليست من الربوبية في شيء، وليس لها من حقيقة الربوبية شيء. فالربوبية لا تكون إلا لله الواحد القهار؛ الذي يخلق ويقهر كل العباد.. ولكن البشر في الجاهليات المتعددة الأشكال والأوضاع يسمون من عند أنفسهم أسماء، ويخلعون عليها صفات، ويعطونها خصائص؛ وفي أول هذه الخصائص خاصية الحكم والسلطان.. والله لم يجعل لها سلطاناً ولم ينزل بها من سلطان.. وهنا يضرب يوسف ـ عليه السلام ـ ضربته الأخيرة الحاسمة فيبين: لمن ينبغي أن يكون السلطان! لمن ينبغي أن يكون الحكم! لمن ينبغي أن تكون الطاعة.. أو بمعنى آخر لمن ينبغي أن تكون " العبادة "!ﭽإن الحكم إلا لله. أمر ألا تعبدوا إلا إياه. ذلك الدين القيم. ولـكن أكثر الناس لا يعلمونﭼ.. إن الحكم لا يكون إلا لله. فهو مقصور عليه سبحانه بحكم ألوهيته. إذ الحاكمية من خصائص الألوهية. من ادعى الحق فيها فقد نازع الله سبحانه أولى خصائص ألوهيته؛ سواء ادعى هذا الحق فرد، أو طبقة، أو حزب. أو هيئة، أو أمة، أو الناس جميعاً في صورة منظمة عالمية. ومن نازع الله سبحانه أولى خصائص ألوهيته وادعاها فقد كفر بالله كفراً بواحاً، يصبح به كفره من المعلوم من الدين بالضرورة، حتى بحكم هذا النص وحده! وادعاء هذا الحق لا يكون بصورة واحدة هي التي تخرج المدعي من دائرة الدين القيم، وتجعله منازعاً لله في أولى خصائص ألوهيته ـ سبحانه ـ فليس من الضروري أن يقول: ما علمت لكم من إله غيري؛ أو يقول: أنا ربكم الأعلى، كما قالها فرعون جهرة. ولكنه يدعي هذا الحق وينازع الله فيه بمجرد أن ينحي شريعة الله عن الحاكمية؛ ويستمد القوانين من مصدر آخر. وبمجرد أن يقرر أن الجهة التي تملك الحاكمية، أي التي تكون هي مصدر السلطات، جهة أخرى غير الله سبحانه.. ولو كان هو مجموع الأمة أو مجموع البشرية. والأمة في النظام الإسلامي هي التي تختار الحاكم فتعطيه شرعية مزاولة الحكم بشريعة الله؛ ولكنها ليست هي مصدر الحاكمية التي تعطي القانون شرعيته. إنما مصدر الحاكمية هو الله. و كثيرون حتى من الباحثين المسلمين يخلطون بين مزاولة السلطة و بين مصدر السلطة. فالناس بجملتهم لا يملكون حق الحاكمية إنما يملكه الله وحده. والناس إنما يزاولون تطبيق ما شرعه الله بسلطانه، أما ما لم يشرعه الله فلا سلطان له ولا شرعية، وما أنزل الله به من سلطان.. ويوسف ـ عليه السلام ـ يعلل القول بأن الحكم لله وحده. فيقول:ﭽأمر ألا تعبدوا إلا إياهﭼ. ولا نفهم هذا التعليل كما كان يفهمه الرجل العربي إلا حين ندرك معنى { العبادة } التي يخص بها الله وحده.. إن معنى عبد في اللغة: دان، وخضع، وذل.. ولم يكن معناه في الاصطلاح الإسلامي في أول الأمر أداء الشعائر.. إنما كان هو معناه اللغوي نفسه.. فعندما نزل هذا النص أول مرة لم يكن شيء من الشعائر قد فرض حتى ينطلق اللفظ إليه. إنما كان المقصود هو معناه اللغوي الذي صار هو معناه الاصطلاحي. كان المقصود به هو الدينونة لله وحده، والخضوع له وحده، واتباع أمره وحده. سواء تعلق هذا الأمر بشعيرة تعبدية، أو تعلق بتوجيه أخلاقي، أو تعلق بشريعة قانونية. فالدينونة لله وحده في هذا كله هي مدلول العبادة التي خص الله ـ سبحانه ـ بها نفسه؛ ولم يجعلها لأحد من خلقه.. وحين نفهم معنى العبادة على هذا النحو نفهم لماذا جعل يوسف ـ عليه السلام ـ اختصاص الله بالعبادة تعليلاً لاختصاصه بالحكم. فالعبادة ـ أي الدينونة ـ لا تقوم إذا كان الحكم لغيره.. وسواء في هذا حكمه القدري القهري في حياة الناس وفي نظام الوجود، وحكمه الشرعي الإرادي في حياة الناس خاصة. فكله حكم تتحقق به الدينونة. ومرة أخرى نجد أن منازعة الله الحكم تخرج المنازع من دين الله ـ حكماً معلوماً من الدين بالضرورة ـ لأنها تخرجه من عبادة الله وحده.. وهذا هو الشرك الذي يخرج أصحابه من دين الله قطعاً. وكذلك الذين يقرون المنازع على ادعائه، ويدينون له بالطاعة وقلوبهم غير منكرة لاغتصابه سلطان الله وخصائصه.. فكلهم سواء في ميزان الله. ويقرر يوسف ـ عليه السلام ـ أن اختصاص الله ـ سبحانه ـ بالحكم ـ تحقيقاً لاختصاصه بالعبادة ـ هو وحده الدين القيم:ﭽذلك الدين القيمﭼ.. وهو تعبير يفيد القصر. فلا دين قيماً سوى هذا الدين، الذي يتحقق فيه اختصاص الله بالحكم، تحقيقاً لاختصاصه بالعبادة.ﭽولكن أكثر الناس لا يعلمونﭼ.. وكونهم ﭽلا يعلمون ﭼ لا يجعلهم على دين الله القيم. فالذي لا يعلم شيئاً لا يملك الاعتقاد فيه ولا تحقيقه.. فإذا وجد ناس لا يعلمون حقيقة الدين، لم يعد من الممكن عقلاً وواقعاً وصفهم بأنهم على هذا الدين! ولم يقم جهلهم عذراً لهم يسبغ عليهم صفة الإسلام. ذلك أن الجهل مانع للصفة ابتداء. فاعتقاد شيء فرع عن العلم به.. وهذا منطق العقل والواقع.. بل منطق البداهة الواضح. لقد رسم يوسف ـ عليه السلام ـ بهذه الكلمات القليلة الناصعة الحاسمة المنيرة كل معالم هذا الدين، وكل مقومات هذه العقيدة؛ كما هز بها كل قوائم الشرك والطاغوت والجاهلية هزاً شديداً.. إن الطاغوت لا يقوم في الأرض إلا مدعياً أخص خصائص الألوهية، وهو الربوبية. أي حق تعبيد الناس لأمره وشرعه، ودينونتهم لفكره وقانونه. وهو إذ يزاول هذا في عالم الواقع يدعيه - ولو لم يقله بلسانه - فالعمل دليل أقوى من القول. إن الطاغوت لا يقوم إلا في غيبة الدين القيم والعقيدة الخالصة عن قلوب الناس. فما يمكن أن يقوم وقد استقر في اعتقاد الناس فعلاً أن الحكم لله وحده، لأن العبادة لا تكون إلا لله وحده، والخضوع للحكم عبادة. بل هي مدلول العبادة.[2]
ﭧ ﭨ ﭽ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﭼآل عمران: ٦٤
فليس إلا لله تكون العبودية. وليس إلا لله تكون الطاعة. وليس إلا عن الله يكون التلقي.. التلقي في التشريع، والتلقي في القيم والموازين، والتلقي في الآداب والأخلاق. والتلقي في كل ما يتعلق بنظام الحياة البشرية.. وإلا فهو الشرك أو الكفر. مهما اعترفت الألسنة، ومهما اعترفت القلوب الاعتراف السلبي الذي لا ينشئ آثاره في حياة الناس العامة في استسلام وطاعة واستجابة وقبول. إن هذا الكون بجملته لا يستقيم أمره ولا يصلح حاله، إلا أن يكون هناك إله واحد، يدبر أمره: و ﭽلو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ﭼ وأظهر خصائص الألوهية بالقياس إلى البشرية: تعبد العبيد؛ والتشريع لهم في حياتهم، وإقامة الموازين لهم. فمن ادعى لنفسه شيئا من هذا كله فقد ادعى لنفسه أظهر خصائص الألوهية ؛ وأقام نفسه للناس إلها من دون الله. وما يقع الفساد في الأرض كما يقع عندما تتعدد الآلهة في الأرض على هذا النحو. عندما يتعبد الناسُ الناس. عندما يدعي عبد من العبيد أن له على الناس حق الطاعة لذاته؛ وأن له فيهم حق التشريع لذاته؛ وأن له كذلك حق إقامة القيم والموازين لذاته. فهذا هو ادعاء الألوهية ولو لم يقل كما قال فرعون:ﭽ أنا ربكم الأعلى ﭼ والإقرار به هو الشرك بالله أو الكفر به.. وهو الفساد في الأرض أقبح الفساد. ومن ثم يتلو ذلك التهديد في السياق دعوة أهل الكتاب إلى كلمة سواء: إلى عبادة الله وحده، وعدم الإشراك به، وألا يتخذ الناس بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله.. وإلا فهي المفاصلة التي لا مصاحبة بعدها ولا مجادلة:ﭽ قل: يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم: ألا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله. فإن تولوا فقولوا: اشهدوا بأنا مسلمون ﭼ.. وإنها لدعوة منصفة من غير شك. دعوة لا يريد بها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتفضل عليهم هو ومن معه من المسلمين.. كلمة سواء يقف أمامها الجميع على مستوى واحد. لا يعلو بعضهم على بعض، ولا يتعبد بعضهم بعضاً. دعوة لا يأباها إلا متعنت مفسد، لا يريد أن يفيء إلى الحق القويم. إنها دعوة إلى عبادة الله وحده لا يشركون به شيئاً. لا بشراً ولا حجراً. ودعوة إلى ألا يتخذ بعضهم بعضاً من دون الله أرباباً. لا نبياً ولا رسولاً. فكلهم لله عبيد. إنما اصطفاهم الله للتبليغ عنه، لا لمشاركته في الألوهية والربوبية.ﭽ فإن تولوا فقولوا: اشهدوا بأنا مسلمون ﭼ. فإن أبوا عبادة الله وحده دون شريك. والعبودية لله وحده دون شريك. وهما المظهران اللذان يقرران موقف العبيد من الألوهية.. إن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون.. وهذه المقابلة بين المسلمين ومن يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، تقرر بوضوح حاسم من هم المسلمون. [3]
ﭧ ﭨ ﭽ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﭼآل عمران: ٧٩ – ٨٠
وآفة رجال الدين حين يفسدون، أن يصبحوا أداة طيعة لتزييف الحقائق باسم أنهم رجال الدين. وهذه الحال التي يذكرها القرآن عن هذا الفريق من أهل الكتاب، نعرفها نحن جيداً في زماننا هذا. فهم كانوا يؤولون نصوص كتابهم، ويلوونها ليا, ليصلوا منها إلى مقررات معينة، يزعمون أنها مدلول هذه النصوص، وأنها تمثل ما أراده الله منها. بينما هذه المقررات تصادم حقيقة دين الله في أساسها. معتمدين على أن كثرة السامعين لا تستطيع التفرقة بين حقيقة الدين ومدلولات هذه النصوص الحقيقية، وبين تلك المقررات المفتعلة المكذوبة التي يُلجئون إليها النصوص إلجاء. ونحن اليوم نعرف هذا النموذج جيداً في بعض الرجال الذين ينسبون إلى الدين ظلماً! الذين يحترفون الدين, ويسخرونه في تلبية الأهواء كلها؛ ويحملون النصوص ويجرون بها وراء هذه الأهواء حيثما لاح لهم أن هناك مصلحة تتحقق، وأن هناك عرضاً من أعراض هذه الحياة الدنيا يحصل! يحملون هذه النصوص ويلهثون بها وراء تلك الأهواء، ويلوون أعناق هذه النصوص ليا لتوافق هذه الأهواء السائدة؛ ويحرفون الكلم عن مواضعه ليوافقوا بينه وبين اتجاهات تصادم هذا الدين وحقائقه الأساسية. ويبذلون جهداً لاهثاً في التمحل وتصيد أدنى ملابسة لفظية ليوافقوا بين مدلول آية قرآنية وهوى من الأهواء السائدة التي يهمهم تمليقها.. ﭽ ويقولون هو من عند الله. وما هو من عند الله. ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ﭼ.. كما يحكي القرآن عن هذا الفريق من أهل الكتاب سواء. فهي آفة لا يختص بها أهل الكتاب وحدهم. إنما تبتلى بها كل أمة يرخص دين الله فيها على من ينتسبون إليه حتى ما يساوي إرضاء هوى من الأهواء التي يعود تمليقها بعرض من أعراض هذه الأرض! وتفسد الذمة حتى ما يتحرج القلب من الكذب على الله، تحريف كلماته عن مواضعها لتمليق عبيد الله، ومجاراة أهوائهم المنحرفة, التي تصادم دين الله.. وكأنما كان الله - سبحانه - يحذر الجماعة المسلمة من هذا المزلق الوبيء، الذي انتهى بنزع أمانة القيادة من بني إسرائيل. هذا النموذج من بني إسرائيل - فيما يبدو من مجموع هذه الآيات - كانوا يتلمسون في كتاب الله الجمل ذات التعبير المجازي؛ فيلوون ألسنتهم بها - أي في تأويلها واستخراج مدلولات منها هي لا تدل عليها بغير ليها وتحريفها - ليوهموا الدهماء أن هذه المدلولات المبتدعة هي من كتاب الله؛ ويقولون بالفعل: هذا ما قاله الله، وهو ما لم يقله - سبحانه - وكانوا يهدفون من هذا إلى إثبات ألوهية عيسى عليه السلام ومعه " روح القدس "..وذلك فيما كانوا يزعمون من الأقانيم: الأب والابن والروح القدس. باعتبارها كائناً واحداً هو الله - تعالى الله عما يصفون - ويروون عن عيسى - عليه السلام - كلمات تؤيد هذا الذي يدعونه، فرد الله عليهم هذا التحريف وهذا التأويل، بأنه ليس من شأن نبي يخصه الله بالنبوة ويصطفيه لهذا الأمر العظيم أن يأمر الناس أن يتخذوه إلهاً هو والملائكة. فهذا مستحيل:ﭽما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة، ثم يقول للناس: كونوا عباداً لي من دون الله، ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون. ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون؟ﭼ.. إن النبي يوقن أنه عبد، وأن الله وحده هو الرب، الذي يتجه إليه العباد بعبوديتهم وبعبادتهم. فما يمكن أن يدعي لنفسه صفة الألوهية التي تقتضي من الناس العبودية. فلن يقول نبي للناس: ﭽ كونوا عباداً لي من دون اللهﭼ.. ولكن قوله لهم: ﭽ كونوا ربانيين ﭼ.. منتسبين إلى الرب، عباداً له وعبيداً، توجهوا إليه وحده بالعبادة، وخذوا عنه وحده منهج حياتكم، حتى تخلصوا له وحده فتكونوا ﭽ ربانيين ﭼ.. كونوا ﭽ ربانيين ﭼ.. بحكم علمكم للكتاب وتدارسكم له. فهذا مقتضى العلم بالكتاب ودراسته. والنبي لا يأمر الناس أبداً أن يتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً، فالنبي لا يأمر الناس بالكفر بعد أن يسلموا لله ويستسلموا لألوهيته، وقد جاء ليهديهم إلى الله لا ليضلهم، وليقودهم إلى الإسلام لا ليكفرهم! ومن ثم تتجلى استحالة هذا الذي ينسبه ذلك الفريق إلى عيسى - عليه السلام - كما يتجلى الكذب على الله في ادعائهم أن هذا من عند الله.. وتسقط في الوقت ذاته قيمة كل ما يقوله هذا الفريق وما يعيده لإلقاء الريب والشكوك في الصف المسلم. وقد عراهم القرآن هذه التعرية على مرأى ومسمع من الجماعة المسلمة! ومثل هذا الفريق من أهل الكتاب فريق ممن يدعون الإسلام، ويدعون العلم بالدين كما أسلفنا. وهم أولى بأن يوجه إليهم هذا القرآن اليوم. وهم يلوون النصوص القرآنية ليا، لإقامة أرباب من دون الله في شتى الصور. وهم يتصيدون من النصوص ما يلوونه لتمويه هذه المفتريات. ﭽ ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمونﭼ! [4]