تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: (( من أعلام المجددين : الإمام أحمد - رحمهُ اللهُ - )) لصاحب الفضيلة العلامة الفوزان

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2007
    المشاركات
    3,515

    افتراضي (( من أعلام المجددين : الإمام أحمد - رحمهُ اللهُ - )) لصاحب الفضيلة العلامة الفوزان



    من أعلام المجددين :

    الإمام أحمد - رحمهُ اللهُ -

    نشأته - علمه وفضله - محنته وصبره - آثاره

    لصاحب الفضيلة شيخنا العلامـة صالح بن فوزان الفوزان
    - حفظه الله ورعاه -




    [ فهرس الموضوعات ]

    تقديم

    - ترجمته ونسبه

    - نشأته وتعلمه

    - غزارة علمه

    - عمله وأخلاقه

    - محنته وصلابته في الحق

    - مميزات مذهبه والأصول التي بناه عليها

    - مؤلفاته

    - وفاته



    = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =


    الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم ، يدعون من ضل إلى الهدى ، ويصبرون منهم على الأذى ، يحيون بكتاب الله - عز وجل - الموتى ، ويبصرون بنور الله أهل العمى ، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه ، وكم من ضال تائه قد هدوه .

    فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم ، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة ، فهم مختلفون في الكتاب ، مخالفون للكتاب ، مجمعون على مفارقة الكتاب ، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم ، يتكلمون بالمتشابه من الكلام ، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم ، فنعوذ بالله من فتن المضلين [هذه خطبة الإمام أحمد في كتاب الرد على الجهمية رأينا مناسبتها للموضوع فقدمناه بها ]وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم وبعد :

    فمن المعلوم أنه كلما تأخر الزمان ، وبعد الناس عن آثار الرسالة حدثت البدع والخرافات ، وفشا الجهل واشتدت غربة الدين ، وظن الناس أن ما وجدوا عليه آباءهم هو الدين وإن كان بعيدا عنه ، ولكن الله سبحانه لا يخلي الأرض من قائم لله بحجة . وقد أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن طائفة من المسلمين لا تزال على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تعالى ، كما أخبر - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه أبو داود وصححه الحاكم وغيره حيث قال : (( إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها )) قال المناوي في ( فيض القدير للمناوي ) [ 2 / 281- 282 ] : ( في فيض القدير أي يقيض لها )
    (على رأس كل مائة سنة ) من الهجرة أو غيرها والمراد الرأس تقريبا ( من ) أي رجلا أو أكثر ( يجدد لها دينها ) أي يبين السنة من البدعة ، وينشر العلم وينصر أهله ، ويكسر أهل البدعة ويذلهم - قالوا ولا يكون إلا عالما بالعلوم الدينية الظاهرة والباطنة ، قال ابن كثير : قد ادعى كل قوم في إمامهم أنه المراد بهذا الحديث والظاهر أنه يعم جملة من العلماء من كل طائفة وكل صنف من مفسر ومحدث وفقيه ونحوي ولغوي وغيرهم انتهى .

    وقد وقع مصداق ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث فلا يزال - والحمد لله - فضل الله على هذه الأمة يتوالى بظهور المجددين عند اشتداد الحاجة إليهم ومن هؤلاء المجددين الإمام أحمد بن حنبل في القرن الثالث ، وشيخ الإسلام ابن تيمية في آخر القرن السابع وأول الثامن ، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في القرن الثاني عشر ، وقد أحببت في هذه العجالة أن أقدم بعض المعلومات عن هؤلاء الأئمة وما قاموا به من تجديد هذا الدين مما لا تزال آثاره باقية في هذه الأمة ولله الحمد والمنة والقصد من ذلك تعريف من يجهل مجهود هؤلاء الأئمة والتنبيه للانتفاع بآثارهم والاقتداء بهم ، والله الهادي إلى سواء السبيل .


    * * * * * * * * * *


    الإمام أحمد بن حنبل


    1 - نسبه :

    هو أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حيان بن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي ابن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان [ مناقب الإمام أحمد بن حنبل لابن الجوزي ص 38 ].

    2 - نشأته وتعلمه :

    قدم به والده من مرو وهو حمل ، فوضعته أمه ببغداد في ربيع الأول من سنة أربع وستين ومائة ، وتوفي أبوه وهو ابن ثلاث سنين فكفلته أمه ، وقد كان في حداثته يختلف إلى مجلس القاضي أبي يوسف ، ثم ترك ذلك وأقبل على سماع الحديث وكان سنه ست عشرة سنة ، ثم حج عدة مرات ، وجاور بمكة مرتين ، ثم سافر إلى عبد الرزاق في اليمن وكتب عنه ، وقد طاف في البلاد والآفاق وسمع من مشايخ العصر وكانوا يجلونه ويحترمونه [ البداية والنهاية لابن كثير ( 10 / 369 ) ].
    قال ابن الجوزي : ابتدأ أحمد - رضي الله عنه - في طلب العلم من مشايخ بغداد ثم رحل إلى الكوفة والبصرة ومكة والمدينة واليمن والشام والجزيرة ، وكتب عن علماء كل بلد ، ثم ذكر أسماء من لقي من كبار العلماء وروى عنهم مرتين على حروف المعجم من الآلف إلى الياء ، ثم ذكر من روى عنهم ممن عرف بكنيته ولم يتحقق عنده اسمه ، ثم ذكر من روى عنهن من النساء [ مناقب الإمام أحمد في الصفحات 46 ، 58 ، 81 ] وقد ذكر خلقا كثيرا من شيوخه .

    3 - غزارة علمه :

    قال إبراهيم الحربي : رأيت أحمد بن حنبل فرأيت كأن الله جمع له علم الأولين والآخرين من كل صنف يقول ما شاء ويمسك ما شاء ، وقال أحمد بن سعيد الرازي : ما رأيت أسود الرأس أحفظ لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أعلم بفقهه ومعانيه من أبي عبد الله أحمد بن حنبل .

    وقال أبو عاصم : ليس ثمة ببغداد إلا ذلك الرجل - يعني أحمد بن حنبل - ما جاءنا من ثم أحد مثله يحسن الفقه ، وقال الخلال : كان أحمد قد كتب كتب الرأي وحفظها ثم لم يلتفت إليها .

    وكان إذا تكلم في الفقه تكلم كلام رجل قد انتقد العلوم فتكلم عن معرفة ، وقال أبو زرعة كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث [يعني مليون حديث ] فقيل له وما يدريك ، قال ذاكرته فأخذت عليه الأبواب [ مناقب الإمام أحمد في الصفحات ( 85 ، 89 ، 0 9 ) .]
    وقال ابن الجوزي : وقد كان أحمد يذكر الجرح والتعديل من حفظه إذا سئل عنه كما يقرأ الفاتحة - ومن نظر في كتاب العلل لأبي بكر الخلال عرف ذلك ، ولم يكن لأحـد من بقية الأئمة ، وكذلك انفراده في علم النقل بفتاوى الصحابة وقضاياهم وإجماعهم واختلافهم لا ينازع في ذلك ، وأما علم العربية فقد قال أحمد كتبت من العربية أكثر مما كتب أبو عمرو الشيباني ، وأما القياس فله من الاستنباط ما يطول شرحه [ المدخل للشيخ عبد القادر بن بدران ص 105 ]
    وقال الإمام ابن الجوزي : واعلم أنا نظرنا في أدلة الشرع وأصول الفقه ، وسبرنا أحوال الأعلام المجتهدين ، فرأينا هذا الرجل أوفرهم حظا من تلك العلوم ، فإنه كان من الحافظين لكتاب الله - عز وجل - قال أبو بكر ابن حمدان القطيعي : قرأت على عبد الله بن أحمد بن حنبل قال لقنني أبي أحمد بن حنبل القرآن كله باختياره وقرأ ابن حنبل على يحيى بن آدم وعبيد بن الصباح وإسماعيل بن جعفر وغيرهم بإسنادهم .

    وكان أحمد لا يميل شيئا في القرآن ويروي الحديث : ( أنزل مفخما ففخموه )[ رواه الحاكم (2/231 ،242) وصححه بلفظ : أنزل القرآن بالتفخيم ،ورده الذهبي بقوله : لا والله، العوفي مجمع على ضعفه ، وبكار ليس بعمدة.والحديث واهٍ منكر] وكـان لا يدغم شيئا في القرآن إلا ﴿ اتخذتـم ﴾[انظر ( السبعـة في القراأت ) لابن مجاهد (116،155)] وبابه كأبي بكر ، ويمد مدا متوسطا وكان - رضي الله عنه - من المصنفين في فنون العلوم من التفسير والناسخ والمنسوخ والمقدم والمهر إلى غير ذلك ، وأما النقل فقد سلم الكل له انفراده فيه بما لم ينفرد به سواه من الأئمة من كثرة محفوظة منه ومعرفة صحيحه من سقيمه وفنون علومه ، وقد ثبت أنه ليس في الأئمة الأعلام قبله من له حظ في الحديث كحظ مالك . ومن أراد معرفة مقام أحمد في ذلك من مقام مالك فلينظر فرق ما بين ( المسند ) و( الموطأ ) [ مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي هـ 599- 600 ]

    قال ابن بدران في كتاب ( المدخل ) ص104 في ذكر مؤلفاته : والمسند وهو ثلاثون ألف حديث ، وكان يقول لابنه عبد الله : احتفظ بهذا المسند فإنه سيكون للناس إماما ، وقال عبد الله قرأ علينا أبي المسند وما سمعه منه غيرنا وقال لنا : هذا كتاب قد جمعته وانتقيته من أكثر من سبعمائة ألف حديث . انتهى .

    وهذا يدل على غزارة علمه بالحديث ، وتميزه فيه وقوة نقده . وهكذا من يتعلم العلم من مصادره الأصيلة : كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ويتتلمذ على حملته من جهابذة العلماء مع النية الصادقة والعمل به ، فإنه حري أن يوفق لتحمل العلم النافع ، ويكون إماما في الدين ، كـما كان الإمام أحمد وغيره من أئمة الإسلام وحملة الشريعة ، فعسى أن يكون في هذا حافزا لشباب المسلمين اليوم وقد توفرت لهم وسائل التعلم ليهبوا لحمل هذا العلم الذي به عزهم وشرفهم في الدنيا والآخرة - نرجو ذلك .

    4 - عمله وأخلاقه :

    من المعلوم أن العلم وسيلة للعمل ومصحح له ، فالغاية المطلوبة هي العمل الصالح والعلم وسيلة لتلك الغاية - وفي الحكمة المأثورة : " علم بلا عمل كشجرة بلا ثمر " والله تعالى يقول : ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾[سورة البقرة الآية 282 ] والصحـابة - رضي الله عنهم - يقول قائلهم : ما كنا نتجاوز عشر آيات حتى نتعلم معانيهن والعمل بهن ، قالوا فتعلمنا العلم والعمل جميعا (1) ، وكان سلفنا الصالح على هذه الصفة ، ومنهم الإمام أحمد فقد اتصف بالعلم الغزير والعمل الصالح والأخلاق الفاضلة .

    ذكر ابن الجوزي في ( صفوة الصفوة ) ص 197 جـ 2 . قال : وعن عبد الله بن أحمد قال كان أبي أصبر الناس على الوحدة ، لم يره أحد إلا في مسجد أو حضور جنازة أو عيادة مريض ، وكان يكره المشي في الأسواق .

    وعنه قال : كان أبي يصلي في كل يوم وليلة ثلاثمائة ركعة ، فلما مرض من تلك الأسواط [ يعني الأسواط التي ضربها بسبب امتناعه من القول بخلق القرآن في عهد المعتصم .] أضعفته فكان يصلي في كل يوم وليلة مائة وخمسين ركعة . وقد كان قرب من الثمانين ، وكان يقرأ في كل يوم سبعا يختم في كل سبعة أيام ، وكانت له ختمة في كل سبع ليال سوى صلاة النهار ، وكان ساعة يصلي عشاء الآخرة ينام نومة خفيفة ثم يقوم إلى الصباح يصلي ويدعو ، وحج أبي خمس حجات ، ثلاث حجج ماشيا واثنتين راكبا ، وأنفق في بعض حجاته عشرين درهما ، وعنه قال : كنت أسمع أبي كثيرا يقول في دبر الصلاة : اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك صنه عن المسألة لغيرك ، وقال صالح بن أحمد بن حنبل : ورد كتاب علي ابن الجهم : أن أمير المؤمنين ( يعني المتوكل ) قد وجه إليك يعقوب المعروف بقوصرة ومعه جائزة ويأمرك بالخروج ، فالله الله أن تستعفي أو ترد المال فيتسع القول لمن يبغضك ، فلما كان من الغد ورد يعقوب فدخل عليه فقال : يا أبا عبد الله أمير المؤمنين يقرئك السلام ويقول قد أحبب أن آنس بقربك وأن أتبرك بدعائك - وقد وجهت إليك عشرة آلاف درهم معونة على سفرك وأخرج صرة فيها بدرة نحو مائتي دينار والباقي دراهم صحاح فلم ينظر إليها ثم شدها يعقوب ، وقال له أعود غدا حتى أبصر ما تعزم عليه وانصرف فجئت بإجانة خضراء فكببتها على البدرة ، فلما كان عند المغرب قال : يا صالح خذ هذا صيره عندك فصيرتها عند رأسي فوق البيت فلما كان سحرا فإذا هو ينادي يا صالح فقمت فصعدت إليه فقال : ما نمت ليلتي هذه فقلت : لم يا أبت ؟ فجعل يبكي وقال : سلمت من هؤلاء حتى إذا كان في آخر عمري بليت بهم ، قد عزمت على أن أفرق هذا الشيء إذا أصبحت فقلت ذلك إليك ، فلما أصبح قال : جئني يا صالح بميزان ، وقال : وجهوا إلى أبناء المهاجرين والأنصار . ثم قال : وجه إلى آل فلان ، فلم يزل يفرقها كلها ونفضت الكيس ونحن في حالة الله تعالى بها عليم ، وكتب صاحب البريد أنه قد تصدق بالدراهم من يومه حتى تصدق بالكيس ، قال علي بن الجهم فقلت يا أمير المؤمنين قد علم الناس أنه قد قبل منك وما يصنع أحمد بالمال وإنما قوته رغيف ، فقال لي صدقت يا علي - وبهذه النقولات عن ابني الإمام وقد عايشا أباهما معايشة خاصة أكبر دليل على مدى صلاح الإمام أحمد وتقواه وزهده وورعه .

    وأما تواضعه :

    فقد قال ابن الجوزي [ مناقب الإمام أحمد الصفحات ( 277 ، 0 28 ، 1 28 ) .)] بلغني عن أبي الحسن بن المنادي قال سمعت جدي يقول : كان أحمد من أحب الناس وأكرمهم نفسا وأحسنهم عشرة وأدبا كثير الإطراق ، معرضا عن القبيح واللغو ، لا يسمع منه إلا المذاكرة بالحديث ، وذكر الصالحين والزهاد في وقار وسكون ولفظ حسن ، وإذا لقيه إنسان بشيء به وأقبل عليه ، وكـان يتواضع للشيوخ تواضعا شديدا ، وكانوا يكرمونه ويعظمونه ، قال الخلال : وأخـبرني محمد بن الحسين أن أبا بكر المروذي حدثهم قال : كان أبو عبد الله لا يجهل ، وإن جهل عليه احتمل وحلم ويقول : يكفي الله ، ولم يكن بالحقود ولا العجول ، ولقد وقع بين عمه وجيرانه منازعة فكانوا يجيئون إلى أبي عبد الله فلا يظهر لهم ميله مع عمه ولا يغضب لعمه ويتلقاهم بما يعرفون من الكرامة ، وكان كثير التواضع يحب الفقراء ، لم أر الفقير في مجلس أعز منه في مجلسه ، مائلا إليهم مقتصرا عن أهل الدنيا ، تعلوه السكينة والوقار ، إذا جلس في مجلسه بعد العصر للفتيا لا يتكلم حتى يسأل ، وإذا خرج إلى مسجده لم يتصدر يقعد حيث انتهى به المجلس ، وكان لا يمد قدمه في المجلس ويكرم جليسه ، وكان حسن الخلق ، دائم البشر ، لين الجانب ، ليس بفظ ولا غليظ ، وكان يحب في الله ويبغض في الله ، وكان إذا أحب رجلا أحب له ما يحب لنفسه ، وكره له ما يكره لنفسه ولم يمنعه حبه إياه أن يأخذ على يديه ويكفه عن ظلم وإثم أو مكروه إن كان منه ، وكان إذا بلغه عن شخص صلاح أو زهد أو قيام بحق أو اتباع للأمر سأل عنه وأحب أن يجري بينه وبينه معرفة . وأحب أن يعرف أحواله ، وكان رجلا فطنا . إذا كان الشيء لا يرضاه اضطرب لذلك ، ويغضب لله ولا يغضب لنفسه فلا ينتصر لها ، فإذا كان في أمر من الدين اشتد له غضبه حتى كأنه ليس هو ، لا تأخـذه في الله لومه لائم ، وكان حسن الجوار ، يؤذى فيصبر ويحتمل الأذى من الجار. انتهى .

    هذه أخلاق الإمام أحمد . علم وعمل وتواضع وصبر واحتمال ، وجدير بمن تربى على الكتاب والسنة وتتلمذ على العلماء العاملين وخالط الصالحين أن يكون كذلك ، بخلاف من يتربى على نظريات الفلاسفة وأفكار الغرب فإنه سيتأثر بها ويتخلق بها ، فيجب على المسلمـين أن يوجهوا أولادهم إلى الكتاب والسنة وأخـلاق السلف الصالـح ليتربوا التربية الصحيحة ، ويتجهوا الوجهة السليمة ، ويزكوا استيراد النظريات التربوية من الكفار وفلاسفة الغرب .

    5 - محنته وصلابته في الحق :

    قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - [ ( البداية والنهاية ) 10 / الصفحات 374 ، 376 ، 378 ، 379 ] باب ذكر ما جاء في محنة أبي عبد الله أحمد بن حبنل/ في أيام المأمون ثم المعتصم ثم الواثق بسبب القرآن العظيم . وما أصابه من الحبس الطويل والضرب الشديد والتهديد بالقتل بسوء العذاب وأليم العقاب وقلة مبالاته بما كان منهم من ذلك إليه ، وصبره عليه ، وتمسكه بما كان عليه من الدين القويم والصراط المستقيم ، وكان أحمد عالما بما ورد بمثل حاله من الآيات المتلوة والأخبار المأثورة . وبلغه بما أوصي به في المنام واليقظة فرضي وسلم إيمانا واحتسابا - وفاز بخير الدنيا ونعيم الآخرة ، وهيأه الله بما آتاه من ذلك لبلوغ أعلى منازل أهل البلاء في الله من أوليائه ، ثم قال ابن كثير - رحمه الله - : قد ذكرنا فيما تقدم أن المأمون كان قد استحوذ عليه جماعة من المعتزلة ، فأزاغوه عن طريق الحق إلى الباطل ، وزينوا له القول بخلق القرآن ، ونفي الصفات عن الله - عز وجل - قال البيهقي : ولم يكن في الخلفاء قبله من بني أمية وبني العباس خليفة إلا على مذهب السلف ومنهاجهم ، فلما ولي الخلافة اجتمع به هؤلاء فحملوه على ذلك ، وزينوا له واتفق خروجه إلى طرسوس لغزو الروم فكتب إلى نائبه ببغداد - إسحاق بن إبراهيم بن مصعب - يأمره أن يدعو الناس إلى القول بخلق القرآن ، واتفق له ذلك آخر عمره قبل موته بشهور من سنة ثماني عشرة ومائتين ، فلما وصل الكتاب كما ذكرنا استدعى جماعة من أئمة الحديث فدعاهم إلى ذلك فامتنعوا فتهددهم بالضرب وقطع الأرزاق فأجاب أكثرهم مكرهين ، واستمر على الامتناع من ذلك الإمام أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح الجنديسابوري ، فحملا على بعير وسيرا إلى الخليفة عن أمره بذلك . وهما مقيدان متعادلان في محمل على بعير واحد - فلما اقتربا من جيش الخليفة ونزلـوا دونه بمرحلة جاء خادم وهو يمسح دموعه بطرف ثوبه ويقول : يعز علي يا أبا عبد الله أن المأمون قد سل سيفا لم يسله قبل ذلك ، وأنه يقسم بقرابته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لئن لم تجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنك بذلك السيف ، قال فجثا الإمام أحمد على ركبتيه ورمق بطرفه إلى السماء وقال سيدي غر حلمك هذا الفاجر حتى تجرأ على أوليائك بالضرب والقتل ، اللهم فإن يكن القرآن كلامك غير مخلوق فاكفنا مؤنته ، قال فجاءهم الصريخ بموت المأمون في الثلث الأخير من الليل ، قال أحمد ففرحنا ثم جاء الخبر بأن المعتصم قد ولي الخلافة ، وقد انضم إليه أحمد بن أبي دؤاد وأن الأمر شديد ، فردونا إلى بغداد في سفينة مع بعض الأسرى ونالني منهم أذى كثير ، وكان في رجليه القيود ، ومات صاحبه محمد بن نوح في الطريق ، وصلى عليه أحمد - فلما رجع أحمد إلى بغداد دخلها في رمضان فأودع السجن نحوا من ثمانية وعشرين شهرا وقيل نيفا وثلاثين شهرا ، ثم أخرج إلى الضرب بين يدي المعتصم ، وكان أحمد وهو في السجن هو الذي يصلي في أهل السجن والقيود في رجليه ، ولما أحضره المعتصم من السجن زاد في قيوده ، قال أحمد : فلم أستطع أن أمشي بها - فربطتها في التكة وحملتها بيدي ، ثم جاءوني بدابة فحملت عليها ، فكدت أن أسقط على وجهي من ثقل القيود . وليس معي أحـد يمسكني فسلم الله حتى جئنا دار المعتصم ، فأدخلت في بيت وأغلق علي ، وليس عندي سراج فأردت الوضوء ، فمددت يدي فإذا إناء فيه ماء ، فتوضأت منه ، ثم قمت ولا أعرف القبلة ، فلما أصبحت إذا أنا على القبلة ولله الحمد - ثم دعيت فأدخلت على المعتصم .

    وذكر ابن كثير - رحمه الله - المناظرة التي دارت بينه وبين خصومه بحضرة المعتصم في موضوع خلق القرآن - إلى أن قال : ثم لم يزالوا يقولون له يا أمير المؤمنين إنه ضال مضل كافر ، فأمرني فقمت بين العقابين وجيء بكرسي فأقمت عليه ، وأمرني بعضهم أن آخذ بيدي بأي الخشبتين ، فلم أفهم فتخلعت يداي وجيء بالضرابين ومعهم السياط ، فجعل أحدهم يضربني سوطين- ويقول له - يعني المعتصم - شد قطع الله يدك - ويجئ الآخر فيضربني سوطين ثم الآخر كذلك فضربوني أسواطا فأغمي علي وذهب عقلي مرارا - فإذا سكن الضرب يعود علي عقلي - وقام المعتصم إلي يدعوني إلى قولهم فلم أجبه - وجعلوا يقولون ويحك الخليفة على رأسك فلم أقبل . فأعادوا الضرب ثم عاد إلي فلم أجبه ، فأعادوا الضرب ثم جاء الثالثة فدعاني فلم أعقل ما قال من شدة الضرب ، ثم أعادوا الضرب فذهب عقلي فلم أحس بالضرب ، وأرعبه ذلك من أمري وأمر بي فأطلقت ولم أشعر إلا وأنا في حجرة من بيت وقد أطلقت الأقياد من رجلي ، ثم أمر الخليفة بإطلاقه إلى أهله ، وكان جملة ما ضرب نيفا وثلاثين سوطا ، وقيل ثمانين سوطا ، ولكن كان ضربا مبرحا شديدا جدا ، ولما رجع إلى منزله جاء الجرائحي فقطع لحما ميتا من جسده وجعل يداويه ، ولما شفاه الله بالعافية بقي مدة وإبهاماه يؤذيهما البرد . - وجعل كل من آذاه في حل إلا أهل البدعة وكان يتلو في ذلك قوله تعالى : ﴿ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ﴾ الآية [سورة النور الآية 22 ]ويقول ماذا ينفعك أن يعذب أخوك المسلم بسببك ، انتهى باختصار .

    وهكذا ثبت الإمام أحمد - رحمه الله - على الحق ، وصبر على السجن والضرب ولم تأخذه في الله لومة لائم ، ولم ترهبه السلطة والجبروت ، فكانت العاقبة له والعقوبة لأعدائه ، ومع هذا يعفو ويصفح عن خصومه ، ويجعلهم في حل ما عدا المبتدعة - لأن المبتدعة انتهكوا محارم الله ، ولم تكن إساءتهم قاصرة عليه ، إنه الإيمان الراسخ والتربية النافعة المستمدة من الكتاب والسنة ، يصنعان الرجال ويبعثان على الثبات في مواقف الفتن والأهوال ، وهكذا تكون مواقف الأبطال .

    6 - مميزات مذهبه والأصول التي بناه عليها :

    مذاهب أهل السنة كلها مذاهب حق لا سيما مذاهب الأئمة الأربعة - أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ، وكل مذهب من هذه المذاهب السنية له مميزات ، ويمتاز مذهب الإمام أحمد من بينها بقربه من النصوص [ ولهذا يعتبر الإمام أحمد من الفقهاء المحدثين ] وفتاوى الصحابة .

    قال الإمام ابن القيم رحمه الله [ أعلام الموقعين ( 1 / 28 ، 29 ) ] رويت فتاويه ومسائله وحدث بها قرنا بعد قرن فصارت إماما وقدوة لأهل السنة على اختلاف طبقاتهم حتى إن المخالفين لمذهبه بالاجتهاد والمقلدين لغيره ليعظمون نصوصه وفتاواه ويعرفون لها حقها وقربها من النصوص وفتاوى الصحابة . ومن تأمل فتاواه وفتاوى الصحابة رأى مطابقة كل منهما على الأخرى ، ورأى الجميع كأنها تخرج من مشكاة واحدة . حتى إن الصحابة إذا اختلفوا على قولين جاء عنه في المسألة روايتان ، وكان تحريه لفتاوى الصحابة كتحري أصحابه لفتاويه ونصوصه بل أعظم ، حتى إنه ليقدم فتاويهم على الحديث المرسل .

    أصول مذهبه :

    كان مذهبه مبنيا على خمسة أصول وهي :

    1 - النصوص ، فإذا وجد نصا أفتى بموجبه ولم يلتفت إلى ما خالفه ولا من خالفه .

    2 - ما أفتى به الصحابة - فإذا وجد لأحدهم فتوى لا يعرف له مخالف منهم فيها لم يعدها إلى غيرها ، ولم يقل إن ذلك إجماع - بل من ورعه في العبارة يقول : لا أعلم شيئا يدفعه أو نحو هذا .

    3 - إذا اختلف الصحابة في المسألة تخير من أقوالهم ما كان أقربها إلى الكتاب والسنة ، ولم يخرج عن أقوالهم ، فإن لم يتبين له موافقة أحد الأقوال للدليل حكى الخلاف ولم يجزم بقول .

    4 - الأخذ بالمرسل والحديث الضعيف إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه ويرجع ذلك على القياس ، والمراد بالحديث الضعيف عنده قسيم الصحيح وقسم من أقسام الحسن ، وليس المراد بالضعيف عنده الباطل ولا المنكر ولا ما في روايته متهم .

    5 - فإذا لم يكن هناك نص ولا قول للصحـابة أو أحدهم ولا أثر مرسل أو ضعيف عدل إلى القياس فاستعمله للضرورة .

    فهذه الأصول الخمسة هي أصول مذهبه - وقد يتوقف في الفتوى لتعارض الأدلة عنده ، أو لاختلاف الصحابة فيها ، أو لعدم اطلاعه فيها على أثر أو قول أحد من الصحابة والتابعين ، وكان شديد الكراهية والمنع للإفتاء بمسألة ليس فيها أثر عن السلف - كما قال لبعض أصحابه : إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام [ أعلام الموقعين لابن القيم ( 1/ 29 - 32 ) .]أي لم يسبق أن قال بها أحد من الأئمة بشيء .

    7 - مؤلفـاته :

    قال الإمام ابن القيم [ أعلام الموقعين لابن القيم (1 / 28 ) ] :
    كان الإمام أحمد - رحمه الله - شديد الكراهية لتصنيف ، الكتب وكان يحب تجريد الحديث ، ويكره أن يكتب كلامه ويشتد عليه جدا ، فعلم الله حسن نيته وقصده فكتب من كلامه وفتواه أكثر من ثلاثين سفرا ، ومن الله سبحانه علينا بأكثرها فلم يفتنا منها إلا القليل ، وجمع الخلال نصوصه في ( الجامع الكبير ) فبلغ نحو عشرين سفرا أو أكثر ، ورويت فتاويه ومسائله وحدث بها قرنا بعد قرن ، فصارت إماما وقدوة لأهل السنة على اختلاف طبقاتهم ،
    وقال ابن الجوزي : كان الإمام أحمد - رضي الله عنه - لا يرى وضع الكتب ، وينهى أن يكتب عنه كلامه ومسائله ولو رأى ذلك لكانت له تصانيف كثيرة ولنقلت عنه كتب [ مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ( 248 ) ]

    واقتصر الإمام أحمد على التصنيف في النقول - أي الأحاديث والآثار - وهذه بعض مؤلفاته :

    1 - المسنـد في الحـديث ، وكان يقول لابنه عبد الله : احتفظ بهذا المسند فإنه سيكون للناس إماما
    [ وجملة أحاديث ( المسند ) ثلاثون ألف حديث انتقاها من سبعمائة ألف حديث .]


    2 - التفسير - وهو مائة ألف وعشرون ألفا ، يعنى : بالأحاديث والآثار .

    3 - الناسخ والمنسوخ .

    4 - التاريخ .

    5 - المقدم والمؤخر في القرآن .

    6 - جوابات القرآن .

    7 - المناسـك الكبير والصـغير .

    8 - الزهـد .

    9 - الرد على الجهميـة .

    8 - وفـاته :

    مرض في أول شهر ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين ومائتين ، وتوفي ليلة الجمعة وهي ليلة الثاني عشر من هذا الشهر ، ولما حضرته الوفاة أشار إلى أهله أن يوضئوه ، فجعلوا يوضئونه وهو يشير إليهم أن خللوا أصابعي ، وهو يذكر الله - عز وجل - في جميع ذلك ، فلما أكملوا وضوءه توفي - رحمه الله ورضي عنه - فغسلوه وكفنوه بثوب كان قد غزلته جاريته ، وخرج الناس بنعشه والخلائق حوله ما لم يعلم عددهم إلا الله ، ثم صلي عليه ، وأعيدت الصلاة عليه عند القبر . ثم أعيدت الصلاة أيضا على القبر بعد دفنه ، ولم يستقر في قبره - رحمه الله - إلا بعد العصر ، وذلك لكثرة الخلق الذين حضروا . وقد قدر عدد الذين صلوا عليه وشيعوه إلى قبره بألف ألف ، وفي رواية وسبعمائة ألف - أي مليون وسبعمائة ألف - رحم الله الإمام أحمد رحمة واسعة ، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا ، وجعله مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .

    والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

    المصدر : (( مجلة البحوث الإسلامية )) العدد : (17) ص129

    = = = = = = = = = = = = = = =

    (1) [رواه أحمد (5/410)، وابن أبي شيبة (29929) ، قال الهيثمي (7/165) : فيه عطاء بن السائب ؛ اختلط في آخر عمره .
    ورواه ابن سعد في ( الطبقات ) (2/177) من طريق حماد بن زيد عن عطاء، وسنده صحيح .
    وعزاه القرطبي في ( التفسير ) (1/39) لعبد الرزاق عن معمر عن عطاء .
    ورواه البيهقي (3/119) وفي ( الشعب ) (1953) من رواية ابن مسعود، وفيه غير عطاء : شريك .]


    أخوكم المحب
    سلمان بن عبد القادر أبو زيد


  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Dec 2011
    الدولة
    مصر
    المشاركات
    894

    افتراضي رد: (( من أعلام المجددين : الإمام أحمد - رحمهُ اللهُ - )) لصاحب الفضيلة العلامة الفوز

    بارك الله فيكم ، وأحسن إليكم .

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •