مبادئ عامة تُعِين على فهم القرآن الكريم
كان هدفي من كتابة مقالتي الموسومة (بالبغاء والبغاء المقدس) أنّ يدرك القارئ بنفسه أنّ هناك من يمارس البغاء الديني اليوم تحت عنوان المتعة، وأنهم ورثوها من الجاهليات القديمة، وأنهم خلف لأولئك الجاهليين، وأنهم لا ينفع معهم الدليل؛ لأن القضية ليست قضية وجود دليل أو عدمه أو تعارض الأدلة عندهم، بل المسألة أبعد من أن تقف عند حدود الحل والحرمة، فقد أضفوا على هذا النوع من الزنا صفة القداسة، وجعلوه من أفضل ما يتقرب به العبد إلى معبوده. وقد أدرك ذلك كل من الأخ الكريم، عارف العضيب، والأخ الفاضل: أبو محمد العمري وفقهما الله تعالى.
قالت الضّفدع قولاً ***** فـــــهمتــــــ ـــــــــــه الحكـماء
في فمي ماءٌ وهل ينــ ***** ــطق من في فيه ماء
وأحب أن أذكِّر الأخوة الكرام بمبدأ مهم عند هذه الطائفة التي ترفع شعار الإسلام، ولا تدين إلا بشذوذ العقائد، حتى أنشؤوا ديناً موازياً للإسلام من الألف إلى الياء،، بهدف هدم الإسلام، وتفريغه من محتواه، وهي إذ تمارس البغاء الديني، تمارس معه الإسقاط، فتتهم الآخرين بأبشع وأقذع الصفات.
أما المبدأ أو القاعدة التي ينطلقون منها فهي: أنهم يعتقدون أولاً، ثم يركِّبون الدليل لعقائدهم من المتشابهات، فإن لم يجدوا في المتشابهات ما يسعفهم قالوا: إن للقرآن ظاهراً وباطناً، وأن باطنه هو المقصود. وبذلك يفتحون الأبواب لأهوائهم، فيقولون ما يشتهون، ولا يشتهون إلا الباطل.
هذا ما كنت أرمي إليه من تلكم المقالة، كما يعبر عنه العنوان والعرض معاً، إلا أن الأخت الفاضلة، أم معاذة، وقفت عند جزيئة صغيرة – ليست من أغراض المقالة – فسألتني: كيف عرفتَ أن إتهام بني إسرائيل لمريم عليها السلام كان بهذا النوع من البغاء؟ هل من قول يوشع المنقول أعلاه فقط أم من مصادر موثوقة لدينا نحن كمسلمين؟
فأجبتُ عن تساؤلها باختصار، إلا أنها عادت وافترضت افتراضات وافتراضات، منها قولها: يلزم أن يكون مدلول (البغي) في الآية (20) هو نفس مدلوله في الآية (28) وقالت عني: تقصد أنهم اتهموها بالبغاء المأجور لا المقدس؛ علماً أني صرحت بخلاف ذلك تماماً. وغير ذلك مما تناوله النقاش والأخذ والرد، حتى غطى على الهدف الرئيس للمقالة. ذلك كله دون أن تبدي لنا رأياً واضحاً.
لهذا أحببت أن أضع بين يدي القارئ الكريم بعض المبادئ التي يجب أن يصطحبها، أثناء قراءته لتفسير آية أو لنص تاريخي أو غير ذلك، وأن يخرج من دائرة التقليد، ويتجاوز مقولة: ما ترك الأول للآخر شيئاً. وأنه لا يحل لمسلم أن يقول في كتاب الله تعالى بالهوى والتشهي.
1- مصادر المعرفة والعلاقة بينها:
أولها وأعلاها: الوحي الإلهي المعصوم، وهي تلكم التعاليم الإلهية التي اختير لها محمدٌ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لتبليغها إلى الناس.
والثاني: الكون بأحيائه وأشيائه، وهو كل ما يقع تحت حواس الإنسان مباشرة أو بوساطة أدوات اخترعها الإنسان. والكون ساحة عمل الإنسان، ومجال حركته، وقد دعته الآيات القرآنية الكريمة إلى النظر والتفكر فيه؛ لاستثماره، واستخراج كنوزه.
والثالث: التاريخ وما حوتْه سجلاتُه من المعرفة البشرية المتراكمة، فالتاريخ ذاكرة البشرية، وسجل تجاربها، وقد أمر الله تعالى بالسير في الأرض في أكثر من آية للاعتبار بمصائر المكذبين، منها قوله: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } [الأنعام: 11]
وظيفة الوحي: للوحي وظيفتان: (الأولى) امداد العقل بالعلوم. (والثانية) توجيهه وضبط مساره، فهو المرشد الأمين والحاكم المهيمن؛ يقول الأصفهاني تحت عنوان: (تظاهر العقل والشرع وافتقار أحدهما للآخر): «اعلم أن العقل لن يهتدي إلا بالشرع، والشرع لا يتبين إلا بالعقل، فالعقل كالأس والشرع كبناء، ولن يغني أس ما لم يكن بناء، ولن يثبت بناء ما لم يكن أس». [تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين، ص 117]
وظيفة العقل: وللعقل وظيفتان: (الأولى) تلقي الصور والمعاني عن طريق الحواس من الوحي، والكون، والتاريخ. (والثانية) وهي الأساسية: القيام بالتحليل والتركيب، والقياس والاستنتاج، والاستقراء، فينتقل من المقدمات إلى النتائج، ومن المعلوم إلى المجهول، عبر طريق يتصف بالمرحلية، والتدرج، والترابط، ليعطينا معلومة جديدة؛ لتضاف إلى صرح العلم المتطور دائماً.
وظيفة التجربة: أما التجربة فلا تعد مصدراً للمعرفة – كما يدعي الماديون – وأما وظيفتها فلا تتجاوز أن تكون أداة تقاس بها الفرضيات لمعرفة مدى صدقها من عدمه. مثلها مثل جهاز قياس الحرارة أو قياس الضغط الذي يستعمله الطبيب.
3- ظاهرُ التاريخ وباطنُه:
للتاريخ ظاهر وباطن، أما ظاهره فهو جمع أخبار الأمم الخالية ثم نقلها، وأما باطنه فهو السعي للتعرف على أسباب الحوادث، والدوافع إلى فعلها، ومحاولة استخلاص ما يمكن استخلاصه من النتائج، واستبعاد ما يتنافى مع ما كان عليه أحوال الناس من العادات والأعراف، أو يتناقض مع طبائع الأمور.
جاء في (مقدمة ابن خلدون، ص 9-10) قوله: «إن فن التاريخ من الفنون التي تتداوله الاممُ والاجيال وتُشَدُّ إليه الركائبُ والرحال...إذ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول، والسوابق من القرون الاولى... وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليلٌ للكائنات ومبادئها دقيقٌ، وعلمٌ بكيفيات الوقائع وأسبابها عميقٌ، فهو لذلك أصيلٌ في الحكمة عريقٌ، وجديرٌ بأن يُعَدَّ في علومها وخليقٌ».
وقال في موضع آخر منها (ص 16): «اعلم أن فن التأريخ فن عزيز المذهب، جم الفوائد، شريف الغاية؛ إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الامم في أخلاقهم، والانبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسياستهم. حتى تتم فائدةُ الاقتداء في ذلك - لمن يرومه - في أحوال الدين والدنيا؛ فهو محتاج إلى مآخذ متعددة، ومعارف متنوعة، وحسنُ نظرٍ وتثبتٍ، يفضيان بصاحبهما إلى الحق، وينكِّبان به عن الْمَزِلّات والمغالِط؛ لأن الاخبار إذا اعتُمد فيها على مجرد النقل، ولم تُحْكَم أصولُ العادة، وقواعد السياسة، وطبيعة العمران والاحوال في الاجتماع الانساني، ولا قياس الغائب منها بالشاهد، والحاضر بالذاهب؛ فربما لم يؤمَن فيها من العثور، ومَزِلّة القدم، والْحَيَد عن جادة الصدق». ثم ذكر أمثلة لذلك.
2- الإسرائيليات وكيفية التعامل معها:
الإسرائيليات: قصص أو حوادث تروى عن مصدر إسرائيلي. (واصطلاحاً): هي كل ما دخل في التفسير والحديث والتاريخ من أساطير قديمة، منسوبة في أصل روايتها إلى مصدر يهودي أو نصراني أو غيرهما. وإنما أطلق لفظ الإسرائيليات على كل ذلك من باب التغليب للون اليهودي على غيره؛ لأن غالب ما يروى عن هذه الخرافات والأباطيل، يرجع في أصله إلى مصدر يهودي.
التعامل مع الإسرائيليات: إن دين الإسلام دين معرفة واسعة، ولا تقتصر معارفه على ما يدور في فلك المسلمين، وإنما تمتد إلى معارف أمم سابقة، وديانات سابقة، تأخذ منها الحق لتؤيد به حقها، وتلفظ منها الباطل الذي لا يتفق وهديها. قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43، الأنبياء: 7]
وأخرج الإمام أحمد والبخاري والترمذي عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو – رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَا حَرَجَ...».
والإسرائيليات تنقسم باعتبار مضمونها إلى ثلاثة أقسام: (1) ما يتعلق بالعقائد. (2) ما يتعلق بالأحكام. (3) ما يتعلق بالمواعظ أو الحوادث التي لا تمت إلى العقائد والأحكام بصلة.
وكل قسم منها تنقسم باعتبار موافقتها لما في شريعتنا ومخالفتها له إلى ثلاثة أقسام: (1) موافق لما في شريعتنا. (2) ومخالف له. (3) ومسكوت عنه، أي: ليس في شريعتنا ما يؤيده، ولا ما يعارضه.
يقول شيخ الإسلام في (مقدمة في أصول التفسير، ص 100): «الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد، لا للاعتقاد؛ فإنها على ثلاثة أقسام: ما علمنا صحته مما بأيدينا، مما يشهد له بالصدق، فذاك صحيح. والثاني: ما علمنا كذبه بما عندنا، مما يخالفه. والثالث: ما هو مسكوت عنه، لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به، ولا نكذبه، وتجوز حكايته لما تقدم. وغالبُ ذلك مما لا فائدة فيه، تعود إلى أمر ديني».
إذاً ما جاء منها موافقاً لما في شرعنا تجوز روايته. وأما ما جاء مخالفاً لما في شرعنا، أو كان مما لا يصدقه العقل، فلا تجوز روايته. وأما ما سكت عنه شرعنا فتجوز روايته للاستئناس، لا للاعتماد.
مثال على المسكوت عنه: قال الله تعالى: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران: 35]
قال ابن جرير الطبري: «كان الْمُحَرَّر إذا حُرِّر جُعل في الكنيسة لا يبرحها, يقوم عليها، ويَكْنِسها. (ثم روى عن عكرمة): أن امرأة عمران كانت عجوزاً، عاقراً، تسمى حَنَّة, وكانت لا تلد، فجعلت تغبط النساء لأولادهن, فقالت: اللهم إن علي نذراً – شكراً - إن رزقتني ولداً أن أتصدق به على بيت المقدس, فيكون من سدنته، وخدامه».
قال ابن كثير: «امرأة عمران هذه أم مريم بنت عمران - عليها السلام - وهي حَنَّة بنت فاقود. قال محمد بن إسحاق: وكانت امرأة لا تحمل، فرأت يوما طائرًا يَزُقُّ فرخه، فاشتهت الولد، فدعت الله، عز وجل، أن يهبها ولدا، فاستجاب الله دعاءها، فواقعها زوجها، فحملت منه، فلما تحققت الحمل نذرته أن يكون {مُحَرَّرًا} أي: خالصا مفرغاً للعبادة، ولخدمة بيت المقدس».
وههنا أسئلة: الأول: من أين عرفوا أن اسمها حَنَّة؟ والثاني: من أين عرفوا أن امرأة عمران كانت عجوزاً عاقراً. والثالث: من أين عرفوا سببَ النذر، علماً أن عكرمة ذكر سبباً غير الذي ذكره ابن إسحاق؟ ومثل هذا كثير. أليس مصدر ذلك كله الإسرائيليات؟ وهو مما لا فائدة فيه، تعود إلى أمر ديني، ولا ضرر.
دور العوائد في فهم القرآن الكريم:
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البقرة: 189] نزلت هذه الآية في قوم كانوا لا يدخلون - إذا أحرموا - بيوتَهم من قِبل أبوابها.
أخرج البخاري عن الْبَرَاءَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – يَقُولُ: «نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا، كَانَتْ الأَنْصَارُ إِذَا حَجُّوا، فَجَاءُوا لَمْ يَدْخُلُوا مِنْ قِبَلِ أَبْوَابِ بُيُوتِهِمْ، وَلَكِنْ مِنْ ظُهُورِهَا».
وروى ابن جرير الطبري عن الزهري: أنهم كانوا يتحرجون من الدخول من الباب، من أجل سقف الباب أن يحول بينهم وبين السماء، ويعدّون فِعْلهم ذلك بِرّاً.
قال صاحب (الكشاف): «كان ناس من الأنصار إذا أحرموا لم يدخل أحدٌ منهم حائطاً، ولا داراً، ولا فسطاطاً من باب، فإذا كان من أهل المدر نقب نقباً في ظهر بيته، منه يدخل ويخرج، أو يتخذ سلماً يصعد فيه، وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخباء؛ فقيل لهم: {وَلَيْسَ الْبِرُّ} بتحرّجكم من دخول الباب{وَلَكِنَّ الْبِرَّ} برُّ{مَنِ اتَّقَى}ما حرّم الله».
نفى القرآن الكريم أن يكون هذا العمل من البر في شيء، فهو غير مشروع، بل هو غلوٌّ في أفعال الحج، فالحج وإن اشتمل على أفعال راجعة إلى ترك الزينة عن البدن كترك المخيط، وترك تغطية الرأس، إلا أنه لم يكن الهدف من تشريعه إعنات الناس، بل إظهار التجرد، وترك الترفه.
إن من لا يعرف هذه العادة لأهل المدينة ولغيرهم من بعض قبائل العرب، لا شك أنه لن يستطيع فهم هذه الآية على الوجه الصحيح، ومثل ذلك عوائد الأمم السابقة التي تحدث عنهم القرآن الكريم، فإن معرفة ذلك أحد الأمور الهامة لفهم آيات الكتاب الكريم على الوجه الأتم. ومن ذلك ما عرف عن اليهود من البغاء الديني (المقدس) إلى جانب البغاء المدني.
4- عطاء القرآن الكريم المتجدد:
يرجع العطاء المتجدد للقرآن الكريم إلى مرونة مفرداته وسعتها، فقد جاءت الكلمة القرآنية على فصاحتها عامة، مرنة، مطلقة عن الزمان والمكان، خاصة إذا تعلق الأمر بعرض حقائق الكون، والخلق، والتاريخ، فالكلمة القرآنية مرنة عامة، تجمع بين النسبي والمطلق في آن واحد، وتتسع لمفاهيم مختلفة، هي اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، مفاهيم تتجدد بتجدد المعرفة الإنسانية، لتتكامل، فكلما تطور العلم، واتسعت مدارك الإنسان؛ توسعت معرفته وفهمه لآيات القرآن الكريم . والأمثلة على ذلك كثيرة، وللتوضيح أكتفي بذكر مثالين:
المثال الأول:
كلمة (أدنى) وكلمة (الأرض) في قوله تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ}
قال صاحب (الكشاف): «والأرض: أرض العرب، لأن الأرض المعهودة عند العرب أرضهم. والمعنى: غُلبوا في أدنى أرض العرب منهم، وهي أطراف الشام. أو أراد أرضهم (يقصد الروم) على إنابة اللام مناب المضاف إليه، أي : في أدنى أرضهم إلى عدوّهم (يقصد فارس). قال مجاهد: هي أرض الجزيرة (الفراتية)، وهي أدنى أرض الروم إلى فارس. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: الأردن وفلسطين».
وقال ابن الجوزي في (زاد المسير): «أي: أقرب الأرض، أرض الروم إِلى فارس. قال ابن عباس: وهي طرف الشام. وفي اسم هذا المكان ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الجزيرة (الفراتية)، وهي أقرب أرض الروم إِلى فارس، قاله مجاهد. والثاني: أذْرِعات وكَسْكَر، قاله عكرمة. والثالث: الأردنُّ وفلسطين، قاله السدي».
تعليق وتوضيح: مما سبق تبين أن علماءنا الأجلاء فسروا (أدنى) بأقرب، وفسروا (الأرض) بأرض العرب، ومنهم من فسرها بأرض الروم، وبناء عليه اختلفوا أيضاً في تحديد موقع المعركة ومكانها.
ونتيجة للمعطيات العلمية توسعت المدارك والأفهام، فتم تفسير (أدنى) بأخفض، وتفسير (الأرض) بمطلق الأرض؛ لأنه ثبت علمياً أن أخفض نقطة في الأرض بالنسبة لسطح البحر هي في غور الأردن – حيث كانت الواقعة – وهي تقابل أعلى نقطة في الأرض التي هي في جبل هيملايا في الهند.
وبناء عليه يترجح القول: (غُلبوا في أدنى أرض العرب منهم، وهي أطراف الشام). وبذلك تكون الآية قد جمعت بين (النسبي) و(المطلق): النسبي هو أقرب أرض العرب إلى الروم. والمطلق وهو أخفض نقطة في الأرض، وهذا نوع من الإعجاز، أو دليل علمي جديد على صدق النبوة.
المثال الثاني:
كلمة (لمن خلفك) في قوله تعالى لفرعون:{فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس: 91]
قال أبو جعفر الطبري: {لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} يقول: لمن بعدك من الناس عبرة يعتبرون بك، ، فينزجرون عن معصية الله ، والكفر به، والسعي في أرضه بالفساد.
وقال الزمخشري: {لِمَنْ خَلْفَكَ ءايَةً}: لمن وراءك من الناس علامة، وهم بنو إسرائيل، وكان في أنفسهم أن فرعون أعظم شأناً من أن يغرق. وروي أنهم قالوا: ما مات فرعون ولا يموت أبداً.
وقال الحافظ ابن كثير: «قال ابن عباس وغيره من السلف: إن بعض بني إسرائيل شكُّوا في موت فرعون، فأمر الله تعالى البحر أن يلقيه بجسده بلا روح، وعليه درعه المعروفة به على نجوة من الأرض، وهو المكان المرتفع؛ ليتحققوا موته وهلاكه؛ ولهذا قال تعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ} أي: نرفعك على نَشز من الأرض {بِبَدَنِك} قال مجاهد: بجسدك. وقال الحسن: بجسم لا روح فيه. وقال عبد الله بن شداد: سويا صحيحا، أي: لم يتمزق؛ ليتحققوه ويعرفوه. وقال أبو صخر: بدرعك. وكل هذه الأقوال لا منافاة بينها. والله أعلم. وقوله: {لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً}، أي: لتكون لبني إسرائيل دليلاً على موتك وهلاكك».
تعليق وتوضيح: نتيجة للمعطيات العلمية الجديدة فقد توسعت المعارف عما كان عليه أولئك الأجلاء من المفسرين، ففي العصر الحديث اكتشف علماء الآثار بوادي الملوك بمصر معبداً، تحت الأرض، يضم أجساد الفراعنة محنطة، ومن بينهم فرعون موسى عليه السلام، أياً كان هو.
وبناء عليه يترجح تفسير (لِمَنْ خَلْفَكَ) بمعنى: لمن بعدك من الناس، سواء أكانوا الذي عاصروه وعاشوا بعده من المصريين وبني إسرائيل، أم الذين جاؤوا من بعدهم مطلقاً. وهكذا تكون الآية قد جمعت بين النسبي والمطلق، النسبي هم أهل مصر وبنو إسرائيل الذين عاصروا فرعون وقاسوا ظلمه، وعاشوا بعده. والمطلق هم الذين عاصروه، والذين جاؤوا من بعدهم، إلى قيام الساعة. وهذا دليل علمي جديد على صدق النبوة، أو نوع من الإعجاز العلمي.
وعليه لا تصح بالمطلق مقولة: ما ترك الأول للآخر شيئاً. وعليه على كل من يحمل قاعدة علمية شرعية رصينة أن يخرج من دوامة التقليد، ويستعمل عقله، فقد نعى الله تعالى على أقوام عطلوا ملكة التدبر والتفكير، فقال جل شأنه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]
عود على بدء
سبق القول: إن الباحثين قسموا البغاء إلى نوعين: (الأول) البغاء المدني، وهدفه الكسب. (والثاني) البغاء الديني أو المقدس، وهدفه التقرب إلى الإله. وقد ذكرتُ من أقوالهم ما يدل على وجود هذين النوعين من البغاء، وعلى انتشارهما في معظم المجتمعات القديمة، ومنها المجتمع اليهودي. وأن كلا النوعين كانا يمارسان في العلن أصلاً، قبل السر، كما يدل على ذلك نصوص الباحثين.
وقلتُ عن البغاء المدني: اصطلح الباحثون على تسمية هذا النوع من البغاء بالبغاء المدني، تمييزاً له عن البغاء الديني أو البغاء المقدس (ولم استعمل البغاء العلني بتاتاً) لأن كليهما كانا يمارَسان في العلن قبل السر. أما قول هوشع ففيه من التناقضات ما لا يخفى على متأمل، وإنما أخذت من قوله ما يدل على إثباته للبغاء الديني على قومه. وتفسيري لبعض قوله لا يعني – بحال - أني أتبنى وجهة نظره.
تفسير (البغيّ):
قال الله تعالى:{قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} [مريم: 20]
البغيُّ: الفاجرة التي تبغي الرجال (الكشاف للزمخشري)، أي: تطلبهم.
البغيُّ: مَنْ دأبها الفجور. (انظر نظم الدرر للبقاعي)
أخرج الشيخان وأصحاب السنن - واللفظ للبخاري - عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ».
قال ابن حجر في [الفتح، كتب البيوع، باب ثمن الكلب 4/497]: «مهر البغي: وهو ما تأخذه الزانية على الزنا؛ سماه مهراً، مجازاً». ومن هذه المعاني صغت تعريف البغاء، فقلت:
البغاء: ممارسةُ المرأة الزنا لقاءَ أجر، بدافع الكسب. أما إذا كان بغير أجر، وبدافع الشهوة؛ فهو الزنا، ومن قبيل الزنا ما سعتْ إليه امرأة العزيز {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف: 23} ومنه ما جاء في حديث الظل: «وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ».
والسؤال: ما المراد بالبغي في قولها:{وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا}؟ هل هو البغاء المدني، أم هو البغاء الديني، أم هما معاً؟ وهل النفي يتجه إلى وقت دون وقت، أم إلى كل الأوقات؟
الجواب: نفتْ مريم البتول – عليها السلام - عن نفسها البغاء بنوعيه، ماضياً وحاضراً، لأن النكرة في سياق النفي تفيد العموم، أي: ما كنت بغيّاً فيما مضى فكيف أكون بغيّاً فيما يستقبل؟!
أما قولهم لها:{قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 28] فهو تقرير لكون ما جاءت به فريّاً، أي: ما كان أبوك ولا أمك أهلاً لهذه الْفَعْلة - حتى نقول نزعك عرق - فكيف جئتِ أنت بها؟!
واليهود قوم بهت اتهموا مريم الصِّدِّيقة – عليها السلام - بالبغاء، لا بالزنا. (والزنا): اسم للاتصال الجنسي غير المشروع بين رجل وامرأة بهدف التمتع. وسببه ضعف النفس، والحب العارم، وغلبة الشهوة. وهو أعم من البغاء بنوعيه، فالبغاء المدني هدفه التكسب، بينما البغاء المقدس هدفه التقرب إلى الإله أو الإلهة.
وعدول القرآن عن كلمة (الزنا) إلى كلمة (البغيّ) لم يكن عبثاً، والبغيّ صفة خاصة بالمرأة كالحامل والحائض، لذلك جاءت الكلمة مجردة من (تاء التأنيث) في الموضعين، بينما (الزنا) وصف يوصف به المرأة والرجل على حد سواء، وفي سورة النور: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي...}
لذلك يراد بالبغيّ في الآية (28) أحد النوعين، لا النوعين معاً، بخلاف الآية (20)؛ لاختلاف السياق، والقائل، والصيغة، فالصيغة في الآية (20) نفي مطلق، وفي الآية 28) إثبات وتهمة. والذي ترجح لدي أن المراد هو البغاء الديني؛ لقرائن: (الأولى) أن اللغة تحتمل هذا وذاك؛ فلم نعطل اللغة.
(والثانية) وجود هذا النوع من البغاء بين بني إسرائيل إلى جانب البغاء المدني، إلى جابب الزنا، إلى جانب أناس يعيشون حياة الطهر والعفاف، كأسرة زكريا وأسرة مريم عليهم الصلاة والسلام.
(والثالثة) أن مريم – عليها السلام – كانت تقيم في المعبد (المحراب) وكان البغاء الديني يمارس في المعابد وفي أرباض المعابد، كما أثبت ذلك الباحثون ومؤلفو (الكتاب المقدس). وهذه قرينة قوية.
(والرابعة): أن البغاء الديني يكفي أن يمارس ولو مرة واحدة، في بعض الأحيان، لحصول المطلوب، أي: القربة، بخلاف البغاء المدني الذي يتخذ حرفة، ويمارس مرة بعد مرة.
أما عدم تعرض علماؤنا الأجلاء من المفسرين والمؤرخين – رحمهم الله تعالى – لذكر البغاء الديني نفياً أو إثباتاً؛ فالراجح – حسب اطلاعي على الأقل – أنهم ما كانوا يعرفون هذا النوع من البغاء. وعدم العلم بالشيء ليس دليلاً على عدم وجوده. وربما عرفوا ولكنهم لم يفرقوا بين النوعين، وإن كنتُ استبعد هذا الاحتمال؛ لأنني لم أعثر ولو على إشارة منهم إلى هذا المعنى الديني للبغاء.
وسواء أَحَملنا البغاءَ على هذا النوع أو ذاك، فهو مما لا ضرر فيه على أمر ديني؛ فهو ليس من العقائد التي لا تثبت إلا بدليل قطعي من الكتاب والسنة، ولا من الأحكام الشرعية، بل من الحوادث التي لا تمت إلى العقائد والأحكام بصلة. ومن نظر في كتب التفسير يجد من ذلك الكثير والكثير.
هذا ما وفقني الله تعالى إلى بيانه وتوضيحه، ولكل مجتهد نصيب. والله أعلم.
وشكراً للأخت الفاضلة، الكريمة، أم معاذة، التي كانت أسئلتُها ونقاشُها سبباً ودافعاً لي إلى كتابة هذا التعقيب الذي أرجو أن ينتفع به.
{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8]
ابن الجزيرة الفراتية