بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاةُ والسلام على أشرف الأنبياء وخاتم المرسلين ، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين ، وبعد :
فهذا بحثٌ مختصر متواضع ، بيَّنتُ فيه مذهب ابن تيمية في الحقيقة والمجاز ، ثم ناقشتهُ وبيَّنتُ الذي أعتقد أنَّه الصواب والذي عليه جمهور الأئمة سلفًا وخلفًا ، وليتنبَّه القارئ الكريم على أنَّ هذه المسألة ليست مِن أصول الدين ولا يترتب على المخالفة فيها قدحٌ في الدين أو العدالة ، فلهذا ناقشتُ الإمامَ ابن تيمية مع الاحتفاظ بمكانته وجاهه ، والله المستعان وعليه التكلان وهو حسبي ونعم الوكيل .
-(())-
فصلٌ : مقدمةٌ في معنى الحقيقة والمجاز عند أهلِ اللغة :
الحقيقةُ كما عرَّفها الجرجاني بقوله : ( كلُّ كلمةٍ أُريدَ بها ما وقعَت له في وضعِ واضعٍ – وإن شئتَ قلتَ : في مواضعةٍ – وقوعًا لا تَستَنِدُ فيهِ إلى غيرِهِ فهي حقيقةٌ ) أهـ . انظر كتاب "أسرار البلاغة" للجرجاني (ص350) .
والمجاز : ( كل كلمةٍ أُريدَ بها غيرُ ما وقعَت له في وضع واضعها ، لملاحظةٍ بينَ الثاني والأوَّل فهي مجاز ) أيضًا انظر "أسرار البلاغة" للجرجاني (ص351) .
أمَّا حقيقةُ المجاز وسببُ تسميتِهِ ، فقد قالَ الجرجاني : ( "المجازُ" مَفعلٌ مِن جازَ الشيءُ يَجوزُهُ ، إذا تعدَّاهُ . وإذا عُدِلَ باللفظِ عمَّا يُوجِبُهُ أصل اللغة ، وصِفَ بأنَّهُ مجاز ، على معنى أنَّهم جازوا بهِ موضعهُ الأصلي ، أو جازَ هو مكانه الذي وُضِعَ فيه أولاً ) أهـ . انظر كذلك "أسرار البلاغة" للجرجاني (ص395) .
والمجاز ينقسِمُ إلى أقسامٍ كثيرة أطال فيها أهل اللغة ، وقد آثرتُ الاختصار في ذكرها ، مراعاةً لأصل هذا البحث ، فأقول وبالله التوفيق :
* فمِن أقسامِ المجاز :
(1) الاستعارة : وهي استعمالُ الكلمةِ مكان الكلمة الأصلية ، فيكونُ كالعاريَّة ، نحو قول العرب للمطرِ : سماءٌ ، لأنَّهُ مِن السماء يَنزِلُ ، قال الشاعر :
إذا سقَطَ السماءُ بأرضِ قومٍ *** رعيناهُ وإن كانوا غِضَابًا
(2) المقلوب : القلبُ هو وصفُ الشيء بضدِّ صفتهِ ، لأسبابٍ منها : التطير والتفاؤل ، أو للمبالغةِ في الوصف ، أو للاستهزاء ..
مثالُ التطير والتفاؤل : قولهم للَّديغِ : "سليمٌ" تطيُّرًا مِن السُّقم وتفاؤلاً بالسلامَة .
ومثالُ المبالغةِ في الوصف : قولهم للغراب : "أعور" لحدَّة بصرهِ .
ومثالُ الاستهزاء : قولهم للحبشي : "أبو البيضاء" . ومِن هذا قولُ قوم شعيب : { إنَّك لأنتَ الحليمُ الرَّشيد } ، كما تقولُ للرجل تستجهلهُ : يا عاقل ، وتستخِفُّهُ : يا حليم .
(3) الحذفُ والاختصار : منهُ أن تحذفَ المُضافَ وتُقيمَ المُضافَ إليهِ مقامَهُ وتجعَل الفِعلَ لهُ ، كقولهِ تعالى : { وسئل القريةَ التي كُنَّا فيها } أي : سل أهلها . ومثل قوله تعالى : { بل مَكرُ الليلِ والنهار } أي : مَكركم في الليل والنهار .
ومنهُ أن تُوقِعَ الفِعلَ على شيئينِ وهوَ لأحدِهِمَا ، وتضمر للآخرِ فِعلَهُ ، مثلهُ قوله تعالى : { فأجمِعُوا أمركم وشركاءكم } أي : وادعوا شركائكم .
ومِنهُ أن يأتيَ بالكلامِ مَبنيًّا على أنَّ له جوابًا ، فيُحذَفُ الجوابُ اختصارًا لعِلمِ المُخاطَب به ، كقوله سبحانهُ : { ولولا فضلُ الله عليكم ورحمتهُ وأنَّ الله رءوفٌ رحيم } أرادَ : لعذَّبَكُم فحُذِفَ .
الخلاصة : أنَّ كلَّ هذهِ مِن أقسامِ المجاز وأنواعِه ، وهناك أيضًا غيرها ، ولكنني اقتصرتُ على المذكور مخافَةَ السآمَة ، علمًا بأنَّني اختصرتها مِن كتاب "تأويل مُشكِل القرآن" لابن قتيبة رحمه الله ، فقد قال في بداية الكتاب : ( وللعربِ المجازاتُ في الكلام ، ومعناها : طُرُقُ القولِ ومآخِذُهُ ، ففيها : الاستعارةُ ، والتمثيلُ ، والقلبُ ، والتقديمُ ، والتأخيرُ ، والحذفُ ، والتكرارُ ، والإخفاءُ ، والإظهار ، والتعريض ، والإفصاح ، والكناية ، والإيضاح ، ومخاطبةُ الواحِد مُخاطبة الجميع ، والجميعُ خطاب الواحد ، والواحِد والجميع خطاب الاثنين ، والقصدُ بلفظ الخصوص لمعنى العموم ، وبلفظ العموم لمعنى الخصوص ، مع أشياء كثيرة ، ستراها في أبواب المجاز إن شاء الله تعالى ... ) انظر "إعراب مُشكِل القرآن" لابن قتيبة (ص22) .
-(())-
فصلٌ : مناقشةُ مذهب ابن تيميَّة في الحقيقةِ والمَجاز :
لأنَّ الكلامَ يطولُ في هذا الباب ، ولأنَّ البعض قد يضيعُ في أثناء المناقشةِ ، فيُنشئُ كلامًا عنَّا لم نقلهُ ، أو يتأوَّلُ مِن كلامِ ابن تيمية أمورًا لم يُردها ، قرَّرتُ أن أُقسِّمَ هذه المناقشة إلى ثلاثة أقسام ، حتى يسهل على القارئ متابعةُ الردود :
(1) القسمُ الأول : بطلان قول ابن تيمية بحادِثيَّة التقسيم بعد القرون الثلاثة الأولى : بعد الاستقراء في كلام ابن تيمية أقول مُجازفَةً : إنَّ ابن تيمية قد أخطأ في دعواه بأنَّ المجازَ اصطلاحٌ حادثٌ بعد انقضاء القرون الثلاثة الأولى ، فتقسيم اللفظ إلى حقيقةٍ ومجاز قد وُجِدَ في القرنِ الثالث الهجري ، ولهذا فقد تكلَّم الإمامُ ابن تيمية في هذه المسألة بغير علم .
قال رحمه الله : ( فإنَّ تقسيمَ الألفاظ إلى حقيقةٍ ومجاز إنَّما اشتهرَ في المئة الرابعة ، وظهرت أوائلهُ في المئة الثالثة ، وما علمتهُ موجودًا في المئة الثانية اللهم إلاَّ أن يكون في أواخرها ... ) انظر كتاب الإيمان (ص75) وانظر كذلك مجموع الفتاوى (7/89) .
قلتُ : وهذا يُناقِض كلامه الثاني ، حيث قال رحمه الله : ( وبكل حالٍ فهذا التقسيمُ هو اصطلاحٌ حادثٌ بعدَ انقضاء القرون الثلاثة ، لم يتكلَّم به أحدٌ مِن الصحابة ولا التابعين لهم بإحسانٍ ، ولا أحدٌ مِن الأئمة المشهورين في العِلم ، كمالكٍ والثوري والأوزاعي وأبي حنيفة والشافعي ، بل ولا تكلَّم به أئمة اللغة والنحو كالخليل وسيبويه وأبي عمرو بن العلاء ونحوهم ) أهـ . انظر كتاب الإيمان لابن تيمية ص73 ، وانظر مجموع الفتاوى لابن تيمية (7/88) .
قلتُ : انظر إلى قوله (حادثٌ بعدَ انقضاء القرون الثلاثة ) ، فهذا القولُ غيرُ مسلَّمٍ به ، فإنَّ التقسيمَ واردٌ في القرنِ الثالث ، والأئمةُ مِن القرنِ الثالث قد ذكروا المجازَ الذي هوَ قسيمُ الحقيقة ، وليتَهُ التزَمَ بقوله الأول ولم يُناقِض ، وأنا أنقلُ ما وسعني نقلهُ عن أشهرهم معَ قلة مصادري في هذا الجانب ، ولو بَحَثَ المُتخصِّص في هذه المسألة لوجد المزيد :
(1) قال الإمام الطبري رحمه الله في تفسيرِهِ لقولهِ تعالى : { ألم تروا كيفَ خلَقَ اللهُ سبعَ سمواتٍ طباقًا * وجَعَلَ القَمَرَ فيهِنَّ نُورًا وَجعَلَ الشمسَ فيهِنَّ سِراجًا } ، قال رحمه الله : ( وكان بعض أهل العربيَّة مِن أهل البصرة يقول : إنَّما قيلَ : { وَجَعَلَ القمَرَ فيهنَّ نورًا } على المجاز ، كما يُقالُ : أتيتُ بني تميمٍ وإنَّما أتى بَعضَهُم . { واللهُ أنبتكم مِن الأرضِ نباتًا } يقول : والله أنشأكم مِن ترابِ الأرض ... ) هكذا نص ابن جرير .
قلتُ : فهذا ابن جريرٍ الطبري المتوفى سنة 310هـ ، قد عاش في القرن الثالث الهجري وتوفي في أوائل القرن الرابع الهجري ، وقد نَقَلَ عن أهل اللُّغة في عَصرهِ وقوعَ المجاز الذي هوَ قسيمُ الحقيقة ، ومعروفٌ عن الإمام ابن جرير رحمه الله أنهُ كان عالمًا باللغة والنحو والقراءات ، فهو حجة في هذا .
(2) وقال الإمامُ ابن قتيبةَ رحمه الله في كتابه "تأويل مشكل القرآن" : ( بابُ القول في المجاز ) ، ثم استطرد في هذا الباب ، حتى قال ( وقد تبيَّن لمن قد عرف اللغة أنَّ القولَ يقعُ فيه المجاز ، فيُقال : قال الحائطُ فمالَ ، وقُل برأسكَ إليَّ ، أي : أمِلهُ ، وقالت الناقة ، وقال البعير .
ولا يُقالُ في مثل هذا المعنى : تكلَّمَ ، ولا يُعقَلُ الكلامُ إلاَّ بالنطق بعينِهِ ... ) انظر كتاب "تأويل مُشكل القرآن" (ص69- 73) .
قلتُ : فهذا ابن قتيبة رحمهُ الله إمامٌ مِن أئمة اللغة وعالمٌ مِن علماء السلف ، عاشَ في القرن الثالث وتوفي فيهِ ، سنة 276هـ ، قد تكلَّم عن المجاز الذي هوَ قسيمُ الحقيقة ، بل وصفَ في كتابهِ مَن يُنكر المجاز في اللغة بأنَّهم جُهَّال ، ولمن أرادَ التوسع في ذلك فليقرأ كتابهُ ، فقد فصَّل رحمه الله في المجاز وذكرَ أنواعهُ .
(3) وقال الإمامُ النحويُّ أبو العباس محمد بن يزيد المعروفُ "بالمُبرِّد" ، في كتابهِ "الكاملُ في اللغةِ والأدب" : ( ونذكُرُ آياتٍ مِن القرآن ربما غلَطَ في مجازِهَا النحويون ، قال الله عز وجل : { إنَّما ذلكم الشطيان يخوف أولياءه } . مجازُ الآية إنَّ المفعول الأوَّل محذوف، ومعناهُ : يخوفكم مِن أولياءه . وفي القرآن : { فمَن شهِدَ مِنكم الشهرَ فليصمهُ } ، والشهرُ لا يغيبُ عنهُ أحد ، ومجازُ الآية : فمن كانَ مِنكم شاهدًا بلدهُ في الشهر فليصمهُ ، والتقدير : فمن شهِدَ منكم أي فمن كان شاهدًا في شهر رمضان فليصمهُ ، نَصْبَ الظروف لا نَصْبَ المفعول بهِ . وفي القرآنِ في مخاطبةِ فرعون : { فاليومَ ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية } ، فليسَ معنى نُنجِّيكَ نُخلِّصكَ ، ولكن نُلقيكَ على نجوةٍ مِن الأرضِ ببدنكَ ، بدرعكَ ، يدل على ذلك لتكون لمَن خلفَكَ آية ... ) كتاب "الكامل في اللغة والأدب" للمُبرِّد (ص393) .
قلتُ : وهذا أيضًا الإمامُ المُبرِّد الذي عاش في القرن الثالث وتوفي فيهِ ، سنة 285هـ ، ذكرَ المجاز الذي هو قسيمُ الحقيقة ، وكلامهُ واضحٌ جدًا .
وبهذا يتبيَّن لنا أنَّ الإمام ابن تيمية قد أخطأ في هذا أو لنقل تناقَضَ ، وإن سُلِّمَ له ما قالهُ ، فإنَّهُ تقسيمٌ صحيحٌ لازمٌ لكلِّ أحدٍ لأنَّهُ واقعٌ في اللغة لا مفرَّ منهُ ، فهو تقسيمٌ واصطلاحٌ في فنِّ البلاغة والأدب ، وأهلُ اللغةِ أدرى بفنِّهم ، ولا علاقَةَ لهذا التقسيم أو الاصطلاح بمسألة الأسماء والصفات أو الإيمان .
ولكنَّ إنكار ابن تيمية لهذا التقسيم والاصطلاح إنَّما هوَ ردَّة فعلٍ سلبيَّة منهُ ، جاءت بسبب تسلط المُعطلة والجهمية في زمانه ، فنتجَ عن ذلك إنكارهُ هذا التقسيم ، وقد كان عليه أن يردَّ عليهم كما ردَّ عليهم الأئمة قبلهُ ، لا أن يُنكر المجاز في اللغة .
والخلافُ في هذا لا يُقدِّمُ ولا يؤخر ، فالمجازُ واقعٌ في اللغة باتفاق أهل اللغة ، حادثٌ ذلك الاصطلاح أم قديم .
ولكنني لما اطلعتُ على آراء ابن تيمية وتتبَّعتُ مذهبهُ ، وجدتُهُ لا يُنكر حادثيَّةَ المجازِ فحسب ، بل يُنكرُ حَقيقتَهُ ووجودهُ في اللغة أيضًا ، وهذهِ مِن سقطاتهِ رحمه الله .
(2) القسمُ الثاني : إنكارُ ابن تيمية المجازَ بمعناهُ : ومِمَّا يؤيِّدُ الذي ذكرتُ لك ، وهوَ أنَّ ابن تيميَّة يُنكر المجازَ في اللغةِ بمعنَاهُ وحقيقته قولهُ في كتاب الإيمان ببطلان هذا الاصطلاح وحقيقته ، وأمَّا ما جاءَ في المُسوَّدة مِن إقرارٍ بصحة التقسيم إلى الحقيقة والمجاز ، بقوله : ( مسألةٌ : اللغةُ مشتملةٌ على الحقيقة وكذا المجاز في قول الكافة خلافًا للإسفراييني ... ) ، فهذا ليسَ لشيخ الإسلام وإنَّما لجدهِ ، وهو مجد الدين ابن تيمية ، فالمسوَّدة كتابٌ جمعه أحد تلامذة شيخ الإسلام فاشترك فيه كلام الجد والابن والحفيد ، فما كان يُرمَزُ له بقوله : "قال شيخنا" فهذا يُقصَدُ به شيخُ الإسلام تقي الدين ، وما كانَ يُرمَزُ له بقوله : "قال والدُ شيخنا" فهذا يُقصَد به والد شيخ الإسلام شهاب الدين ، وما لم يُرمَز له بشيء فهو مِن كلام الجد مجد الدين ، فكل مسألةٍ تَبدأ ليس فيها رمز فهي للجد .
وأمَّا شيخُ الإسلام رحمه الله فهو يقولُ بأنَّ مَا كان يُسمَّى مجازًا ، فهو على الصحيحِ عندهُ لا يُطلق عليه أنَّه مجاز ، ولكن يُقال أنَّه لفظٌ مشترك اقترنَ بقرينةٍ ، ثمَّ قسَّمَ القرينَةَ إلى لفظيةٍ وحاليةٍ ، ثمَّ قسَّم القرينةَ الحاليَّةَ إلى ما يختص بالنوع وما يختص بالشخص ، ولا شكَّ أنَّ هذا دليلٌ على تناقض الإمام في هذه المسألة ، فتقسيمهُ هذا بالتحديد ، هوَ تقسيمٌ حادثٌ !!! .. وإذا كانَ اصطلاحهُ اصطلاحٌ سائغٌ ، فاصطلاحُ الجمهور مِن باب أولى ، ولكنَّ اصطلاحهُ ليسَ اصطلاحًا سائغًا البتة ، فقد وُجِدَ فيه الكثير مِن الأخطاء ، مِمَّا يقوي اعتقادنا بأنَّهُ لم يفهم سبب التقسيم إلى حقيقةٍ ومجاز ، وقد بيَّنتُ سبب التقسيم في بداية البحث بعدَ تعريف المجاز .
قال الإمام تقيُّ الدين في المسوَّدة عن اللفظ المشترك الموضوعِ بقرينةٍ لفظيةٍ للنوع – وهو يعني المجاز - : ( ... شيخنا : فصلٌ : إذا استعملَ اللفظُ في معنًى ثم استعملَ في غيرهِ لعلاقةٍ مُشتركةٍ ، فإمَّا أن يُقال : كان موضوعًا لما به الاشتراك فقط ، أو لما به الامتياز ، وامتياز الأول عن الثاني لم يستفد مِن نفس اللفظ المفرد فقط بل بقرينة تعريف أو إضافة ونحو ذلك ، فهذا يكون حقيقة فيها كما قلنا في أسماء الله التي يُسمَّى بها غيره ، وإمَّا أن يُقال : بل كان موضوعًا لما به الاشتراك والامتياز أو لما به الامتياز فقط ، كلفظ الأسد والحمار والبحر ونحو ذلك ، لكن إذا استُعمِلَ في الثاني فإمَّا أن يكون بقرينةٍ لفظية أو حالية ، فإن كان بقرينةٍ لفظية فإمَّا أن يكون للنوع أو للشخص ، فأمَّا النوعُ فهذا كثيرٌ كمَا يُقالُ : إبرةُ الذراعِ وإبرةُ القرنِ ورأسُ الذكرِ ورأسُ المالِ ورأسُ الدربِ ونحو ذلك ، فهذا قد قيلَ إنَّهُ مجازٌ ، والأصوبُ أنَّهُ حقيقةٌ ، وهوَ وضعٌ ثانٍ لهذا المُضاف ، لكن الموضوعُ هوَ الأوَّل وغيرهُ ، وإنَّما كان يدلُّ على ذلك المعنى بدون تركيب ، فإذا وُضِعَ المُركَّبُ صارَ وضعًا جديدًا لم يُوضَع قبلَ ذلكَ لمعنًى أصلاً ... ) انظر المسوَّدة (ص387 - 388) . - وفي طبعة الشيخ محيي الدين عبد الحميد ليس فيها قوله : ( شيخنا : فصلٌ : إذا استعمل اللفظ ... ) بل هي مُجرَّدةٌ عن شيخنا ، ولعله سقط ، يشهد على ذلك مذهب ابن تيمية الذي قرَّرهُ في كتابه الإيمان ، والطبعة التي أعتمدها في المسوَّدة هي طبعةٌ جديدة مِن دار ابن حزم - .
أقول : ولنَا وقفةٌ مع قوله السابق ذكره ، فلازم قولهِ هنا أنَّ اللغاتَ اصطلاحيَّة ، وهذا لا شكَّ في أنَّهُ تناقضٌ مع ما قرَّرَهُ الإمامُ ابن تيمية نفسه في كتابه كتاب "الإيمان" ، حيث إنَّه انتصرَ للقول الذي يقولُ بأنَّ اللغاتَ توقيفيَّةٌ مِن الله عزَّ وجلَّ – وهو القول الصحيح المأثور عن السلف – ولكنه هُنا يُشيرُ إلى أنَّ مِن الألفاظ ما كان وضعها اصطلاحيٌ ، وذلك في قولهِ السابق ذكرُهُ ( وإنَّما كان يدلُّ على ذلك المعنى بدون تركيب ، فإذا وُضِعَ المُركَّبُ صارَ وضعًا جديدًا لم يُوضَع قبلَ ذلكَ لمعنًى أصلاً ... ) .
واللازمُ الذي ذكرتُهُ هنا الآن ، يُثبتُ أيضًا بطلان قول مَن يقول : إنَّ تقسيم الألفاظ إلى حقيقةٍ ومجاز تقسيمٌ باطل ، أليس هذا ما قالهُ ابن تيمية ؟ لأنَّ الذي يُفهمُ مِن كلامهِ أنَّه يرى أنَّ مِن الألفاظ ما استُعملَ لمعنًى أوَّل ، ومِنها مَا استُعملَ في غير موضوعه الأصلي ، مَعَ أنَّه كان مِن الأحرى بالإمام أن يقول ( استعمال ) ولا يقولُ ( وضع ) .
فلفظ ( الوضع ) في كلامهِ يُفهمُ مِنهُ اللازمُ الذي ذكرتُ لك ، وهوَ أنَّ لازم قوله أنَّ اللغات اصطلاحيَّة ، فقولنا ( استعمالُ اللفظ في غير ما وضع له على وجهٍ يصح ) غير قولنا ( وضع اللفظ في غير موضوعهِ الذي وُضِعَ له ) ، هذا الفرق لمن تأمله مِن الحُذَّاق ، يُبيِّن تناقض الإمام في هذه المسألة .
فإن جادلَ مُجادلٌ وقالَ : الحقيقةُ ثلاثة أقسام :
القِسمُ الأوَّل : الحقيقةُ اللغوية : وهي الأصل .
والقسم الثاني : الحقيقةُ العرفية : وهي ما وُضِعَ عُرفًا ، أو مَا وَضَعَهُ أهل كل فنٍّ لشيءٍ مِن مصطلحاتهم .
والقسمُ الثالث : الحقيقةُ الشرعية المنقولة : وهي ما استعملهُ الشرع كالصلاة للأقوال والأفعال المخصوصة ، والإيمان للعقد بالجنان ونطقٍ باللسان وعملٍ بالأركان ، ونحو ذلك .
وابن تيميَّة يقصِدُ بالوضع قطعًا وضعُ الحقيقة العُرفيَّة ، فإنَّك ترى العرب يُغيِّرون المسمى في بعض الحقائق ، فمثلاً قولنا : "الدابة" فهي في أصل اللغة لكل ما يدب على الأرض ، ثم هَجَرَتها العرب وصارت عُرفًا حقيقةً للفرس ولكل ذاتِ حافر ، وهذا ذكرهُ أهل الأصول في كتبهم ، وابن تيمية يقصِدُ بالوضع هنا الوضع العرفي .
فنقول ردًا على هذا المُجادِل : يُرَدُّ على هذا الكلام الباطل بأمرين :
الأوَّل : إنَّ ابن تيميَّة لا يُؤمِن أصلاً بالتقسيم ، وهو تقسيم اللفظ إلى حقيقة ومجاز ، وتقسيمُ الحقيقةِ إلى لغوية وعرفية وشرعية ، فكيفَ يُجادَلَ عنهُ به ؟
ثانيًا : لم يَقُل ابن تيميَّة أصلاً في كلامهِ أنَّهُ يقصِدُ الحقيقة العرفيَّة عندَ كلامهِ عن اللفظ المركب الذي صارَ بتركيبه وضعًا ثانيًا حقيقيًا ، وكلامُنا أصلاً عن المَجاز وكونُهُ استعمالُ اللفظ في غير موضوعه ، فابن تيمية يقول بأنَّه لا يوجَد استعمال اللفظ في غير موضوعه بل كلُّ الكلام حقيقة ، فهوَ لا يُؤمِنُ بالحقيقة العرفية أو اللغوية أو الشرعية أصلاً ، بل يعتبر اللفظ كله حقيقة ، وله تقسيماتٌ أخرى لحقيقته التي ذهب إليها وقد توسَّع فيها .
ثم لنا وقفةٌ أخرى : فأهل اللغة يجعلون المجاز أنواع ، كالتشبيه والاستعارة ، فأين يذهبُ ابن تيمية بالاستعارة ؟ بل أينَ يذهبُ بالمقلوب ؟ أو الحذفِ والاختصار ؟ فكل هذه لا تنفعُ أن تكون وضعًا جديدًا عند التركيب ، فهذه الأمور لا تدخل ضمنَ اصطلاح الإمام ، فإن أنكرها فأينَ تذهبُ حقائقها ؟ .. وكلها واقعةٌ في لغة العرب قطعًا ، وهي مِن أقسام المجاز وأنواعه ، وسمِّهَا ما شئتَ ، فهي واقعةٌ لا محالةَ وإن كابرَ في ذلكَ مَن كابر .
(3) القسم الثالث : سقطةٌ لابن تيمية ، لا يُوافَقُ عليها :
إنَّ ابن تيميَّةَ لم يقل بأنَّ التقسيمَ حادثٌ فحسب ، ولم ينكر المجاز بمعناهُ فحسب ، فلو كان ذلكَ كذلك ، لهَانَ الأمرُ وصارَ خلافًا سائغًا يُناقَشُ بالأدلَّة ، ولكنَّ ابن تيميةَ رتَّب على قولهِ أمورًا لا ينبغي للمسلم المنصف أن يُوافِقَهُ عليها فضلاً عن طالب العلم أو العالم الفقيه ، فقد أهانَ شيخنا ابن تيمية علماءَ الإسلامِ مِمن صحَّت عقيدتهم ، ونزَّلَ مِن مكانتهم بغير حق ، فقالَ إنَّ مَن قال بهذا التقسيم فهو مبتدعٌ في الشرع وأنَّه يتكلم بغير علمٍ وبغير تصورٍ لما يقول ، بل قال بأنَّ مَن قال بتقسيم الألفاظ إلى حقيقةٍ ومجاز مخالفٌ للعقل !!!!
حيث إنَّهُ قال بنصِّهِ : ( ونحنُ نُجيبُ بجوابين : أحدهما : كلامٌ عامٌّ في لفظ الحقيقَةِ والمجاز . والثاني : ما يَختصُّ بهذا المَوضِع . فبتقدير أن يكونَ أحدهما مَجَازًا ، ما هوَ الحقيقَةُ مِن ذلك مِن المَجاز ؟ هل الحقيقَةُ هو المُطلق أو المُقيَّد ، أو كلاهمَا حقيقة حتى يُعرَف أنَّ لفظَ الإيمان إذا أُطلقَ على ماذا يُحمَل ؟
فيُقالُ أولاً : تقسيمُ الألفاظ الدالَّة على معانيها إلى حقيقةٍ ومجاز ، وتقسيمُ دلالتها أو المعاني المدلول عليها ، إن استُعمل لفظ الحقيقَة والمجاز في المدلول أو في الدلالة ، فإنَّ هذا كله يقعُ في كلام المُتأخرين ، ولكن المشهور أنَّ الحقيقةَ والمجاز مِن عوارض الألفاظ ، وبكل حالٍ فهذا التقسيمُ هو اصطلاحٌ حادثٌ بعد انقضاء القرون الثلاثة ... ) .
فهنا الإمام ابن تيميَّة يردُّ على المُرجئة والجهميَّة الذين لا يُدخلون الأعمالَ في مُسمَّى الإيمان ويحملون الإيمانَ في حديث شُعَبِ الإيمان على أنَّهُ مَجاز ، فهو يَردُّ عليهم بجوابين ، فقد ذكرَ الجوابَ الأوَّلَ بقولِهِ ( فيُقالُ أولاً : تقسيمُ الألفاظ الدالَّة على معانيها إلى حقيقةٍ ومجاز ، وتقسيمُ دلالتها أو المعاني المدلول عليها ... ) .
ثم استطردَ الإمامُ ابن تيميَّة في الجوابِ الأوَّل وأطالَ الكلام فيما يُقاربُ الست صفحات ، ثم ذَكرَ الجوابَ الثاني ، بقولِهِ : ( ثمَّ يُقالُ ثانيًا : هذا التقسيمُ لا حقيقَةَ لهُ ، وليسَ لمَن فرَّقَ بينَهُمَا حدٌّ صحيحٌ يُميِّزُ به بينَ هذا وهذا ، فعُلِمَ أنَّ هذا التقسيم باطلٌ ، وهوَ تقسيمُ مَن لم يتصوَّر ما يقول ، بل يتكلَّمُ بلا علم ، فهم مبتدعةٌ في الشرع ، مخالفون للعقل ، وذلك لأنَّهم قالوا : الحقيقةُ : اللفظُ المستعملُ فيما وُضِعَ له ، والمجازُ : هوَ المستعملُ في غير ما وُضِعَ لهُ ، فاحتاجوا إلى إثبات الوضع السابق على الاستعمال ، وهذا يتعذَّر ... ) . مِن كتاب الإيمان لابن تيميَّة (ص73 – 80) ، وانظر كذلك مجموع الفتاوى (7/87 – 7/96) .
قلتُ : لقد قالَ ابن تيميَّة في كلامهِ السابق ما قد يُعدُّ مِن الكبائرِ ضدَّ علماء المسلمين :
الأول : قولهُ أنَّ التقسيمَ باطلٌ لا يصح ، وقوله هذا خلاف الصحيح الذي عليه أهل اللغة ، وإن اختلف بعض العلماء في المسمى فلا ينبغي أن يختلفوا في المعنى فهو لازمٌ لكل أحدٍ إلا مَن أغوتهُ العصبيَّة وتشرَّب بتقديسِ الأئمة ، أو مَن لم يَعرف لغة العرب ، الثاني : قولهُ أنَّ القائلَ بالتقسيمِ لا يتصوَّرُ ما يقول ، وهذا لا ينبغي أن يصدر مِن العالم ، الثالث : قولهُ أنَّ القائل بالتقسيمِ يتكلم بغير علم ، وهذا حائرٌ على شيخنا ابن تيمية ، فقد أنكر وجود المجاز في القرن الثالث وقال بأنه حادثٌ بعد انقضاء القرون الثلاثة الأولى ، وهذا غير صحيح ، الرابع : قولهُ أنَّ القائلَ بالتقسيمِ مبتدعٌ في الشرع ، وهذه كبيرةٌ في حق علمائنا مِن أتباع السلف الذين حَسُنَت عقيدتهم وقالوا بالتقسيم ، الخامس : قولهُ أنَّ القائلَ بالتقسيم مخالفٌ للعقل ، وهذا لا يُوافقُهُ عليه كل العقلاء .
ولا شكَّ في أنَّ هذه كبيرةٌ مِن الإمام ابن تيمية في حق الأئمة الأعلام الذينَ قالوا بهذا التقسيم مِن أصحابنا الحنابلة ، الذين عُرفوا بحُسنِ العقيدة وصفائها ، كأمثال الإمام القاضي أبو يعلى شيخُ المذهب ومُنقِّحُه ، والإمام البحر العلاَّمَة ابن قدامَة المقدسي ، وغيرهم مِن الأئمة في المذاهب الأخرى كالشافعية والمالكية ممَّن عُرفوا بحسن العقيدة .
فإن جَادَلَ صاحبنا المُجادلُ بقولِهِ : إنَّ ابن تيميَّة لمَّا ذكرَ الجوابَ الثاني وقال مَا قالَ مِن أمورٍ أنتَ استعظمتها ، فإنَّهُ لا يقصدُ الأئمة المعروفين المشهود لهم بحسن العقيدة وصفائها ، بل هو يقصِد المبتدعة في باب الإيمان ، فاقتِصاصُكَ الكلامَ مِن سياقهِ الصحيح يُشعِركَ بأنَّه كان يَقصِدُ أولئك الأئمة الفحول ، والأمرُ ليس كذلك ، يدلُّ على هذا بدايةُ الكلام ، حينَ قال بنصِّهِ قبلَ ذكرِ الجوابين ( ونحنُ نُجيبُ بجوابين : أحدهما : كلامٌ عامٌّ في لفظ الحقيقَةِ والمجاز . والثاني : ما يَختصُّ بهذا المَوضِع ... ) ، فهو يُصرِّحُ بأنَّ الجواب الثاني – وهو الذي أنتَ استعظمتهُ – إنَّما هو مُختصٌّ بهذا المَوضِع ، وهو موضع الرَّد على المُرجئةِ والجهميَّة .
فنقولُ نحنُ ردًّا على جهل هذا المُجادل : هذا هو ادِّعاءُ العِصمَةِ بعينِه !! التحريف والتلفيقُ على الأئمة ، فكلام الإمام ابن تيمية واضحٌ جليٌ لا خفاء فيه ، فظاهرُ جوابه الثاني عامٌ في كل مَن قال بالتقسيم ولم يُوجِّه ذلك لطائفةٍ مُعيَّنة ، فإن أنكرتَ أنَّ ظاهر جوابه العموم فأنتَ جويهلٌ لا تعرف ما هوَ الظاهرُ مِن الباطن .
وأمَّا كلامُهُ في البداية بقولهِ ( ونحنُ نُجيبُ بجوابين : أحدهما : كلامٌ عامٌّ في لفظ الحقيقَةِ والمجاز . والثاني : ما يَختصُّ بهذا المَوضِع ... ) ، فهو يقصد بقوله "الموضع" : موضع التقسيم ، وليس موضع الرَّد على المرجئة والجهميَّة ، وهذا ظاهرٌ واضح ، فالإمام قد قالَ بنصِّهِ ( أحدهما : كلامٌ عامٌّ في لفظِ الحقيقة والمجاز ... ) فمَاذا يقصدُ بقوله (في لفظِ) ؟ لا شكَّ أنَّهُ يقصد بذلك لفظ الاصطلاح ، والدليل على ذلك أنَّه ناقشَ في الجواب الأوَّل كونُ الاصطلاح حادثٌ ، وأمَّا قولُهُ ( والثاني : ما يَختصُّ بهذا المَوضِع ... ) فهو يقصِد موضع التقسيم ، والدليلُ على ذلك أنَّه ناقشَ في الجواب الثاني حكمَ هذا الاصطلاح وهل هو اصطلاحٌ باطلٌ أم صحيحٌ في معناه ولم يتعرض للجهمية بالرد فدلَّ على أنه عام .
إذًا : الجوابُ الأول كان في لفظ الاصطلاح وكونه حادثًا ، والجوابُ الثاني في حكمهِ وكونه صالحًا أم غير صالح ، ولا دليلَ البتةَ على أنَّهُ يَقصِدُ الجهميَّة والمرجئة ، ومَن حملها على هذا فهو مُتقعِّرٌ مختلقٌ للأعذارِ مُدَّعٍ للعِصمَة والعياذُ بالله مِن هذا .
ثم لو سلَّمنا جدلاً وتنزُّلاً أنَّ الجوابَ الثاني قد قصَدَ به الجهمية ، فإنَّ مِن الأشاعرة أئمةٌ أعلام لهم جهودٌ في خدمة هذا الدين ، وابن تيمية يُسمِّي الأشاعرة جهميَّة ومَن استقرأ كلامهُ يعرف هذا ، ومِن الأشاعرة كما قلنا أئمةٌ أعلام ، صلاحهم وتقواهم وعلمهم يمنعُ مِن انتقاصهم فضلاً عن سبِّهِم ، فلا ينبغي أن يُقالُ في حقهم ما قاله شيخنا ابن تيمية ، فرحمَ الله الإمام وغفرَ له زلَّته .
-(())-
فصلٌ : أقوال أئمة المذهب الحنبلي في الحقيقة والمجاز :
إنَّ البصيرَ بالمذاهب وانتشارها ، يعلمُ أنَّ المَذهبَ الحنبليَّ مِن أقلِّ المذاهب انتشارًا ، فلهذا كانت كتب الحنابلة التي في أيدينا قليلة جدًا ، وخصوصًا كتب أصول الفقه ، فأمَّا أسبابُ قلة الانتشار فلا تهمُّنا ولا يَسَعُنا ذكرها هنا ، ولكن أحببتُ الإشارة إلى هذا على سبيل الإيجاز توطئةً وتمهيدًا ..
ومسألتنا مِن المسائل التي يُوردها الأئمة في أصول الفقه ، بينما أصل المسألةِ يتعلَّقُ باللُّغةِ والبلاغة ، فنجدها مُفصَّلةً في كتبِ البلاغةِ والأدب ، وبناءً على قلة المصادر الحنبليَّة التي في أيدينا ، سأكتفي بنقلِ كلام أشهر الأئمة في المذهب ، مِن الذين قالوا بتقسيم الألفاظ إلى حقيقةٍ ومجاز .
* قال شيخُ المذهبِ القاضي أبو يعلى رحمه الله : ( مسألةٌ : في القرآنِ مجازٌ : نصَّ عليه أحمد رحمه الله فيما خرَّجهُ في متشابه القرآن ، في قوله تعالى { إنَّا معكم مستمعون } ، هذا مجازٌ في اللغة ، يقولُ الرجل : إنَّا سنجري عليك رزقك ، إنَّا سنفعلُ بك خيرًا . وهو قولُ جماعَة . خلافًا لمن مَنَع ذلك مِن أصحابنا وطائفةٌ مِن أهل الظاهر .
دليلنَا : أنَّ اللهَ تعالى تكلَّمَ بالقرآن على لغة العرب ، ووجدناهُم تكلموا بالمجاز والحقيقة ، فوجبَ أن يجوزَ ذلك في كلامِ اللهِ تعالى ) .
فهذا القاضي أبو يعلى رحمه الله يَستَدِلُّ بأنَّ المجازَ وُجِدَ في لغة العرب ، فمن باب أولى وجودهُ في القرآن ، ذلكَ لأنَّ القرآنَ نزلَ بلغة العرب ، وكلام الإمام لا يحتاجُ إلى شرحٍ أو حتى تدقيقٍ وتمحيص ، فهو أوضح من الشمس في رابعة النهار .
يقول القاضي أبو يعلى بعد الذي ذكرنا : ( فإن قيلَ : هناك حذفٌ في الكلام . قيل : إلاَّ أنَّ هذه الألفاظ لم يوضع لها في صميم اللغة ، فإن لم تُسمِّها مجازًا فذلك مُنازَعةٌ في عبارة ، معَ تسليم المعنَى الموجود في المجاز . وأيضًا فإنَّ أهل اللغة قد صَنَّفوا في ذلك كتبًا ، فمَن منَعَ ذلكَ فهو كمَن دفَعَ أن يكونَ في اللسان مجاز .
واحتجَّ مخالفٌ : بأنَّ المجازَ كذبٌ ، لأنَّه يتناولُ الشيءَ على خلاف الوضع .
والجواب : أنَّ هذا خرقُ الإجماع ، لأنَّهم استحسنوا التَّكلمَ بالمجاز معَ استقباحهم الكذبَ وعلى أنَّ الكذبَ يتناولُ الشيءَ على غير سبيل المُطابقَة ، والمجازُ فيه تطابق الخَبَر مِن طريق العرف ، وإن كان لا يُطابقُ اللغةَ ) أهـ . انظر كتابُ العدَّة للقاضي أبي يعلى (2/423) طبعة دار الكتب العلميَّة .
قلتُ : انظر إلى قول الإمام ( والجوابُ أنَّ هذا خرقُ الإجماع ... ) ردًا على مَن يقولُ بأنَّ المجازَ كذبٌ لأنَّهُ استعمالُ اللفظِ في غير موضعه ، فالإمامُ بيَّنَ بأنَّهُ لا علاقَةَ بينَ الكذب وبين المجاز .
* ويقولُ الإمامُ الفذُّ البَحرُ العلاَّمَةُ الفقيهُ مُوفَّقُ الدِّين ابن قُدامَة المقدسي رحمه الله : ( فصلٌ : والقرآنُ يشتملُ على الحقيقَةِ والمجاز ، وهوَ اللفظُ المُستعمَلُ في غيرِ موضوعِهِ الأصلي على وجهٍ يصحُّ ) .
ثم ذكرَ رحمَهُ الله الأدلَّةَ على ورودِ المجازِ في القرآن ، ولسنا بصددِ ذكرها هُنا ، فأذكرُ ما قالهُ بعد تلك الأدلَّة ، حيث قال : ( ... وذلكَ كلُّهُ مجَازٌ ، لأنَّهُ استعمالُ اللفظِ في غير موضوعِهِ ، ومَن منَعَ فقَد كابَرَ ، ومَن سلَّمَ وقالَ : لا أُسَمِّيهِ مَجازًا ، فهوَ نزَاعٌ في عِبارَة لا فائدَةَ في المُشاحَّةِ فيه ، واللهُ أعلم ) أهـ . انظر كتاب روضة الناظر لابن قدامة (1/216) تحقيق الشثري .
قلتُ : وفي قولِ الإمَام ( وَمَن مَنَعَ فقد كابَرَ ) ردٌّ صاعقٌ على مُدَّعي العِصمَة للإمامِ ابن تيميَّة ، والله أعلمُ بحالهم وقبحِ مقالهم .
والله أعلمُ ، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم نلقاه ..