بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ


«الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام »،
لشيخِنا العلَّامة عبد الرَّحمن البَرَّاك

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيه محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فإن الله سبحانه ــ وهو الخالق لكل شيء ــ له الحكم في عبيده شرعا وقدرا، وله الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين، فكل ما في هذا الكون فهو موجَب حكمه القدري، الواقع بقدرته ومشيئته وحكمته، وكلُّ ما بعث به رسله، وأنزل به كتبه، فهو موجَب حكمه الديني الشرعي، ولا شريك له سبحانه في حكمه، كما قال تعالى: (ولا يشرك في حكمه أحدا)، (إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه)، (له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون)، (إن الحكم إلا لله عليه توكلت).

ودينه ــ الذي هو الإسلام ــ هو دين الرسل كلهم، من آدم ونوح إلى محمد خاتم النبيين، صلى الله عليه وعليهم وسلم أجمعين. وهذا الدين هو الهدى الذي وعد الله به آدم وذريته في قوله تعالى: (قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى. ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى) الآيات.

وأعظم شريعة جاء بها رسول هي شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، المخصوصة بالكمال والشمول والخلود، إلى قيام الساعة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم رسول إلى جميع الناس، ولا نبي بعده، فلا بد أن تبقى شريعته محفوظة إلى قيام الساعة، فلا يستثنى من هذا العموم أحد ولا زمان ولا مكان، فالإيمان به صلى الله عليه وسلم واتباع شريعته واجب على جميع البشرية، منذ بعثه الله حتى تقوم الساعة.

ومن أعظم واجبات شريعته صلى الله عليه وسلم الخالدةِ الجهادُ في سبيل الله، أي جهادُ الكفار بنوعيه، جهاد الحجة والبيان، كما قال تعالى: (فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا) أي بالقرآن.

وجهاد الكفار بالقتال؛ جهاد الدفع وجهاد الطلب، فجهاد الدفع هو المذكور في قوله تعالى: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير)، وقوله تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) على أحد الأقوال في تفسير الآيات.

وجهاد الطلب دل عليه:

أولا: قوله تعالى: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم)، والمراد بالأشهر الحرم المذكورة هي أشهر السياحة المذكورة في أول السورة في قوله تعالى: (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر)، لا الأشهر المذكورة في قوله تعالى: (منها أربعة حرم).

ثانيا: قوله تعالى: (قاتلوا الذي لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون).

ثالثا: قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين).

ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله)) متفق عليه.

وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث بريدة رضي الله عنه عند مسلم ــ أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميرا على جيش أو سرية ــ إلى قوله: (( فإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال؛ ادعهم إلى الإسلام، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكُفَّ عنهم، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهو وكُفَّ عنهم، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم)).

وللجهاد أحكام مفصلة في الكتاب والسنة، وله أبواب مطولة من أبواب الفقه، قسم العبادات، تحت عنوان كتاب الجهاد، ولم يكن للمسلمين هيبة حتى شرع الجهاد، فانطلقت الجيوش والسرايا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، بقيادته وقيادة أمرائه، وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم في عهد الخلفاء الراشدين، وفيما بعد، كلما كان للمسلمين قوة وتهيأت لهم الأسباب وتوفرت الشروط، فالجهاد شريعة ماضية مع أمير من أمراء المسلمين، برًّا كان أو فاجرًا، هذا ما عليه أهل السنة والجماعة، ولم يزل الجهاد مصدر عزة المسلمين وهيبتهم، وتعطيلُه مصدرَ ذلهم، وطمع الكفار بهم، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه: ((رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله))، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول صلى الله عليه وسلم: قال: ((إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلا، لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم))، وهذا ما يشهد به الواقع في الماضي والحاضر.

وعلم مما تقدم أن للجهاد غاية عامة، وهي إعلاء كلمة الله، وذلك يتحقق بكفِّ المعتدين عن العدوان، وبدخول من شاء الله في الإسلام، أو الخضوع لدولة الإسلام بالتزام الجزية، وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأنواع الجهاد كلها إجمالا في قوله تعالى: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير).

وإذا جنح العدو للسلم ــ وهو المصالحة لوقف القتال وقفا مؤقتا أو مطلقا لا مؤبدا، وكان ذلك هو المصلحة للإسلام والمسلمين ــ جاز، كما قال تعالى:(وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم. وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين)، والمطلق ما لم ينص فيه على توقيت ولا تأبيد، كما في موادعة النبي صلى الله عليه وسلم لليهود حول المدينة.

ومما يدل من الواقع على عظم شأن الجهاد أنه أعظم ما يخافه الكفار من المسلمين، ولم يزالوا يطعنون به على شريعة الله، ويطعنون به على المسلمين في ماضيهم وحاضرهم، ولاسيما في هذا العصر الذي كانت فيه القوة المادية في أيدي الكفار، والمسلمون متفرقون، والأكثرون مفرطون في دينهم، مما أوجب أن يوجد في المسلمين من يصانع الكفار في شأن شريعة الجهاد، ويزعم جهلا أو استرضاءً لليهود والنصارى وغيرهم، الذين لن يرضوا كل الرضا إلا باتباع ملتهم (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) وقال تعالى: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) وقال تعالى: (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء) أقول: يزعم هؤلاء المصانعون أن الجهاد في الإسلام إنما شرع دفاعا، وكتبوا في ذلك، وأجلبوا بأنواع الشبه، بتأييد باطلهم، حتى آل الأمر بالكفار إلى أن يطالبوا المسلمين برفع أبواب الجهاد والولاء والبراء من مناهج تعليمهم، أو بتهذيبها على الأقل، ظانِّين أن ذلك يبطل هذه الشريعة، وهيهات! فإن الله قد ضَمِن حفظ كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم موردا لطالبي الهدى علما وعملا، وقد حفظ الله أحكام شريعته وشرائع دينه بحفظ هذين النورين الكتاب والسنة، وذلك بما يُقيِّضه من الحَمَلة لهما، في كل جيل حتى يأتي أمر الله، قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)).

ورفع راية الجهاد مطلب لكل مسلم يريد عزة الإسلام، فهو يدعو به ويتمناه، مستحضرا قوله صلى الله عليه وسلم: ((من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق))، قد كان في خطب أئمة الدعوة هذا الدعاء (اللهم أقم علم الجهاد، واقمع أهل الشرك والزيغ والفساد، وانشر رحمتك على العباد، يا من له الدنيا والآخرة، وإليه المعاد).

ومن أحكام الجهاد في سبيل الله:

1. إعداد ما يستطاع من القوة، كما قال تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) وهذا الإعداد واجب لأمر الله به، وللأمر بالجهاد؛ فإن مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وفي هذه الآية تنبيه على بعض المقصود من هذا الإعداد، وهو إرهاب الكفار، وهم أعداء الله وأعداء المؤمنين العداوة الدينية من جميعهم، والعداوة العدوانية المختصة بالمحاربين منهم، فإن إرهابهم جميعا ــ أي إخافتهم ــ مطلب شرعي، حتى لا يفكر المعاهد ــ من ذمي وغيره ــ بنكث العهد.

2. أسر المقاتِلة من الكفار، فإنه لا يجوز الأسر إلا بعد الإثخان فيهم، قال تعالى: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإمَّا منًّا بعد وإما فداءً حتى تضع الحرب أوزارها )، وقال تعالى: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم. لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ). وهذه الآيات نزلت في شأن أسرى بدر، ومعنى هذا أنه إذا جاز الأسر بعد الإثخان فقد نص العلماء على أن الإمام مخير في الأسرى بين أربعة أمور تخييرَ مصلحة؛ وهي: القتل، أو الاسترقاق، أو المفاداة، أو المنُّ، وهو إطلاقهم مجانا.

3. الغنائم والسبي، فإذا غَلب المسلمون الكفار في قتالهم، فقد أحل الله لهم أن يغنموا أموالهم وديارهم التي فتحوها عَنوة، ويقسموها على حكم الله بقوله عز وجل: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) الآية، وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنة خلفائه الراشدين، وكذلك أحل الله لأوليائه المسلمين سبي نساء أعداء الله الكافرين المحاربين وذريتهم، بحيث يكونون ملكا للمسلمين، ورقيقا في أيدي المسلمين، كما مضت بذلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الراشدين، والتابعين لهم بإحسان، وكم كان هذا السبي والاسترقاق سببا لسعادة من وقع فيه لدخوله في الإسلام! مع عود الحرية لكثير منهم، بسبب ما شرع الله من التحرير، ومن أجلِّ من يستشهد به في هذا صفية بنت حيي بن أخطب اليهودي رضي الله عنها، حيث صارت بالسبي مسلمة، بل إحدى أمهات المؤمنين، وكذلك أم المؤمنين جويرية بنت الحارث من بني المصطلق رضي الله عنها.

وهذا الرقيق له أحكام في جميع أبواب الفقه، ومنها العتق فإنه مخصوص بكتاب مستقل.

وهذا الحكم من أحكام الجهاد ــ وهو الرق ــ هو الذي فرض قانون الأمم المتحدة على المسلمين إلغاءه، حتى خضع لهم كل من يحترم هذا القانون.

هذا؛ ودول الكفر والطغيان المتحكمة في قانون الأمم المتحدة تستعبد الشعوب المستضعفة باسم الإصلاح، حتى كانوا يسمون احتلال بلاد المسلمين استعمارا، ولا يزال هذا المعنى باقيا في كل بلد يقع فيها الاحتلال، وأنقل هنا ما قلته سلفا في الرد على خالص جلبي في موقفه من الجهاد والرقيق، ونصه: "وما ذكر في السؤال من أقوال المذكور يتضمن نقصا في عقله، وانحرافا في فكره، وطعنا في شريعة الجهاد في الإسلام، ويظهر نقص عقله بجحده السنن الكونية الربانية من الصراع بين الناس نتيجة الاختلاف، (ولا يزالون مختلفين) وتعاقب الرغد والجوع في الأزمان والبلدان، (كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة)، ومن العجب أنه يعيب الحروب التي جرت في الماضي، ويدرج فيها حرب الغنائم والرقيق، وهذا هو طعنه في جهاد المسلمين، والغنائم والرق حكمان من أحكام الجهاد القطعية، (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول) الآية، (فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا)، ونصوص الكتاب والسنة في أحكام الرقيق لا تحصى، فالطعن في حكم الرق في الإسلام جهل أو جحد لهذه النصوص، وطعن في تلك الأحكام، ومن مغالطاته في هذا السياق نسبة الحروب إلى مناطق المتخلفين، وفي هذا تعظيم لمن هم عنده من المتقدمين.

هذا؛ ومن المعروف عند الخاصة والعامة أن دول هذا التقدم، وعلى رأسها الولايات المتحدة هي المشعلة لتلك الحروب، (كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين)، ومَن صناع القنابل وأسلحة الدمار الشامل؟ مَن وراء هذه الحروب هنا وهناك، في العراق وفلسطين وأفغانستان والصومال وأرتريا وغيرها إلا تلك الدول المتجبرة المتسلطة؟ وهل ضرب هيروشيما التي لا ينساها التاريخ من فعل دول المتخلفين؟ أم مظهر من مظاهر تقدم تلك الدول؟ وهل من النضج والتقدم ملكهم السلاح النووي وتحريمه على غيرهم؟اهـ.

وأحب هنا أن أسجل السبب الباعث على كتابة هذه السطور عن الجهاد، وهو أن أحد الإخوة في الله، وهو دكتور زارني يعتب عليَّ ورود اسمي في بيان أسطول الحرية الذي وقع عليه سبعون، فاعتذرت بأني لم آذن بإدراج اسمي، لأنه لم يكن من عادتي في الغالب التوقيع في البيانات الجماعية، وإنما أكتب ما أكتب مستقلا، ولكني لم أعترض عليه، ولعل إدراج اسمي كان بناءً على الثقة وحسن الظن.

وكان أهم ما اعترض به الأخ على البيان قولهم: "والواجب على أمة الإسلام إقامة الجهاد في سبيل الله تعالى، واستهداف عمق الكيان اليهودي، لطردهم من أرض المسلمين"اهـ. ويؤيد اعتراضه بأن من شروط الجهاد إذن الإمام، ومن المعلوم أن هذا لا يرد على أصحاب البيان؛ لأنه لا يلزم ــ إذا ذُكر وجوب الواجبات من الصلاة والزكاة والصيام والحج، وكذلك الجهاد ــ ذكرُ كل ما يُشترط، فمحل ذلك كتب أبواب تفصيل أحكامها، ومن المعلوم أن نصوص هذه الواجبات جاءت في القرآن مجملة في أكثر المواضع، وجاء من تفصيل أحكامها قدر يسير، وأما التفصيل التام فقد كفلته سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، نسأله تعالى أن يفتح علينا بفهم كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يمن علينا بتحكيمهما والعمل بهما، والثبات على ذلك حتى نلقى ربنا، كما أسأله تعالى أن يعز الإسلام والمسلمين، ويذل أعداء الله الكافرين. إنه سبحانه سميع الدعاء، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين.

حرر في 24شعبان 1431هـ.
أملاه عبد الرحمن بن ناصر البراك
الأستاذ (سابقا) في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.