الحمد لله ، و الصلاة و السلام على النبي ِّ الأكرم و على آله و صحبه ، أجمعين :

(1)
ليست هذه مقالة ً أو أطروحة مطوّلة ، إنْما هي فكرة لقدح الزند و إشعال قضايا ، يهتمُّ بها المثقفُ و المفكرُ و من له من النظر و البحث نصيب .

و يكفينْي تسجيلها ، لبْراءة الاختراع أولاً (ابتسامة) ، و كي لا تضيع ثانياً .
و هي فكرة ٌ على الهامش : عند بحثي عن النظريّة السياسيّة عند المعتزلة ، الموضوع الذي لم أجد متطرقاً إليه إلا نتفاً و أقاصيص .
مع أنَّ : ظاهرة النظر السياسي لدى زعامات المعتزلة و مقولاتهم الموافقة و المعارضة تحتاج ُإلى بحثٍ و استقصاء ، خاصةً في ضوء قصر النظر إلى هذه الجماعة على : النظر العقائدي المحض .

و لذلك ، و مثلاً : تجد ُ لدى علماء الجرح و التعديل أنَّ : عبد الرحمن بن كيسان الأصم البصري المعتزلي – صاحبنا الذي نحن في صدد الحديث عنه - : معتزلي .. و قال عنه القاضي عبد الجبار : زاهد .. عابد ، متفننٌ .

ثم
و كأنك تفهم من ابن حجر – رحمة الله عليه - : يكفيك أنهُ معتزلي !!
و في الحقيقة يجب ُ أن أسجل شهادة لا بدَّ منها :
- علماءُ الجرح و التعديل أضبط ُ من غيرهم في نقل المقولات ، و تجد في مثالنا هذا : قال القاضي عبد الجبار .. / و هذه كافية ، مقارنة بمن ينقل : عن الشهرستاني و البغدادي ، نقل عن نقل عن نقل ، بنقل لازم عن لازم عن لازم ، بفهم فلان على فهم فلان على مقولة فلان !

و هكذا يضيعُ الحق بين ركام من الجزئيات و المشوَّهات ، و لا تكاد ترى الصورة صافية .
- نعم ، كتب التراجم و الرجال ليست كتب نقل مقولات ، لكننا لا يمكننا أن ننقل عن : الأدباء و الإخباريين و المؤرخين ، فهي كقبض الريح ، على قول إبراهيم اليازجي .

و كما قلنا : حصر ظاهرة الاعتزال على المضمون العقائدي معيبٌ في تقييم أو تقويم رجالاتها و مقولاتهم .
و إنِّي هنا أتجرأُ و أقول : عند تتبع مقولات المعتزلة السياسيّة ، تجدها أعقل بكثير ، بل لا مقارنة ، بينها و بين : مقولات الخوارج و المرجئة .

و سأضرب ُ هنا مثالاً :
يقول الأستاذ خير الدين الزركلي – رحمة الله عليه – عن عبد الرحمن بن الأصم – صاحبنا - : أنهُ كان يخطّئ علياً – عليه السلام – و يصوّب معاوية في بعض أفعاله .

ناقلاً عن : اليواقيت الثمينة ، و صفوة من انتشر .
و في الحقيقة : أراحتني كلمة "بعض" هذه كثيراً .
فهي أسلمُ من : مواقف الخوارج .
و : الرافضة .
و : المرجئة ، .. أعني : الإرجاء السياسي ، الذي تمثّل ببعض أهل السنة و الحديث ، مع الأسف الشديد .
مع أنَّ : مواقف : سفيان الثوري ، و سعيد بن المسيّب مثلاً ، خير مثال على المواقف الناضجة و الفهم السياسي العميق .

بل ، إنَّ المتتبع لمواقف الحسن البصري – رضي الله عنه – الذي انطلق الاعتزال من تحت عباءته ، لا يكاد يجدها تبعد عن ميزان : (التصويب و التخطئة) .

و لتسجيل مقولتنا هذه على نسق مقولات المحكمة نقول : هل مواقف علماء أهل السنة السياسيّة تعتبَرُ داخلة ضمن ميزان : (التصويب و التخطئة) أم (التوقف مع النصح الخفي و الإيمان القلبي) ؟

لن أجيب عن هذا السؤال ، كي لا يثار جدل ما ، لكنني أدعوا إلى ، نقل مقولات :
- سعيد بن المسيب – رضي الله عنه - .
- سفيان الثوري – رضي الله عنه - .
- الحسن البصري – رضي الله عنه - .
- سعيد بن جبيْر – رضي الله عنه - .

لننظر نظرة نقد و فحص و توثيق : هل ميزان ابن العربي – رحمه الله - ، الذي انتقل من موقفٍ زمنيِّ إلى أزمان أخرى ، هو الموقف الذي اختاره هؤلاء العمالقة الأربعة الذين يمثلون منهج أهل السنة بشكلٍ عام ؟

و دعنا ننقلُ كلاماً مهمّاً لـ : المحققة سوسنّه ديفلد ، من مقدمة "طبقات المعتزلة" ، لتوضيح أشياء قد قلناها متفرقة ، أو هي تحت القول :

1 – قد قيل أنَّ منشأ الاعتزال من أصل ٍ سياسي ، و لكنَّ هذا القول و إن وجدت دلائل قد تؤكده ، موضع نزاع و شك في بعض النقاط عند العلماء .

قال الفقيْر الممضي بـ : عَرَّاق الحَمَوي :
دقق في : (و إنْ وجدت دلائل قد تؤكده) .
و في : (بعض النقاط) ، من أجل الصورة الكاملة فقط ، و انظر إلى المنقولة التالية .

2 - و قد ذهب قوم إلى تفسير هذا الاسم – أي المعتزلة - من وجه الدين ، و ذهب غيرهم إلى تفسيره من وجه السياسة و لكنَّ أدلة القولين تكافأت ، قيل أنَّ الاعتزال الديني سبقه اعتزال سياسي .

قلت أيضاً : أنظر إلى مقولتها المهمّة : و لكنَّ أدلَّة القولين تكافأت ، و انظر إلى المنقولة التالية لنصل إلى مبتغانا .
3 – و لا نعلم مكان المسائل السياسية في بنية الكلام المعتزلي ، و لكن من الثابت أن مجرّد قبول قول واصل بن عطاء في الخلافة و الخلفاء الأربعة لم يكن يجعل المرء معتزلياً

.
و أمثلة ثلاث جاثمات --- و يطلبن اللبيب : ألا الحلولا ؟

ملاحظة مهمّة للغاية : لا أتحدث عن "فترة زمنيّة" ، إنما على منهج عام ، يمكننا استقصائه عبر التاريخ .
ملاحظة أخرى مهمّة للغاية : لا أصوّب منهج المعتزلة هنا ، إنني أدعوا إلى إعادة النظر ، بل أدعوا إلى تتبع المقولة الأكثر "سلفيّة" – عبر استقراء المقولات و المواقف - ، دون موقفي العام من :
- فلسفة التاريخ .
- الفلسفة السياسيّة .

(2)
أيضاً ، فكرتنا هذه ، تُعتبَرُ داخلة ضمن : (علم مقارنة الثقافات) ، كي نرى مدى تأثر ثقافة ما بثقافة أخرى ، أو تداخلها و ذوبانها ، أو حتى "التوافق البعيد" أو "التوافق التخاطري" – كما يقول الإمام ابن حزم رحمه الله - .

التوافق البعيد الذي ينبئُ عن : محاولة لحصر مصادر المعرفة و الخيارات المطروحة أمام العقل عند مشكلة ٍ ما ، و لنضرب أمثلة على الفائدة المرتجاة من هذا المنهج :
- لفهم : مدى أثر التأثر على انضاج فكرة ٍ ما ، و الخروج بحلٍّ توفيقي أو مستوعب للحظة الحاضرة ، و لنضرب مثالاً على هذا المثال :

يقول المفكر البريطاني برتراند رسل : إنَّ الأسلوب العلميّ ولد من زواج مذهبين فكريين أتت بكل واحد منهما إحدى الحضارات القديمة :
أولهما : تنظير الإغريق .
و ثانيهما : اختبار العرب .

- لفهم مدى أثر التأثر على رقيّ الحضارات و موتها ، إغرائها – كما يقول أندرو مارلو – أو انحطاطها – كما هو فهم شبنغلر - .

(3)
الأضبط أنْ نقول : لا سلطوية ، بدلاً من "فوضوية" ، فمدرسة اللاسلطوية مدرسة سياسيّة محضة .

و لترتيب القصّة :
لا سلطوية = فوضوية الحكم و السياسة .
فوضوية = عبثيّة الفكر أو المنهج أو النظر العام .

و كثيراً ما يقارن بين الفوضويّة ، و :
- الفوضى = الشواش .
- العدميّة .
- اللانظامية .

لنرى مدى تأثر العلوم ببعضها ببعض ، فالأولى نظريّة رياضية – فيزيائيّة ، و الثانيّة نظرية أدبيّة ، و الثالثة اجتماعيّة .
و الأولى لـ : إدوارد لورينتز .
و الثانية تشاهد عند : ديستوفسكي ، بلزك ، سارتر ، جوستاف فولبير .
و الثالثة من إنتاج : دوركهايم اليهودي – و إنِّي أنظر نظرة إلى كلام قديم لمحمد قطب ؟ ؟ - .

ملاحظة : قد تؤدي فوضوية السياسة إلى فوضوية المجتمع و الثقافة و الاقتصاد ، لكننا في مجال التأصيل ، دون النظر إلى مآلات محتملة ، أو إلزام ما لا يلزم حيناً – كما يقول الأصوليون - .
ملاحظة : اخترنا "الفوضويّة" لشهرتها ، و إلا فالصواب ما قلناه قبل هنيهة ، و يجب أن ْ نعلم أنَّ : اللاسلطوية رد فعل كبير على الماركسية و الاشتراكيّة .

(4)
يقول الأشعري في "مقالات الإسلاميين" : و اختلفوا في وجوب الإمامة ، (1) فقال الناسُ كلُّهم إلا "الأصم" : لا بدَّ من إمام .
(2) و قال الأصمّ : لو تكافَّ الناسُ عن التظالم لاستغنوا عن الإمام .

في المقابل ، ينظّر ميخائيل باكونين – أبو اللاسلطويّة - : أن ْ : لا ملك ، لا حاكم ، لا رئيس ، و مبادئ اللاسلطويّة تقوم على : مجمل الجمعيات و الأحزاب السياسيّة التي تهدف لأزالة سلطة الدولة المركزيّة .

إنها هي هيَ .. هاته الجمعيات و الأحزاب ، التي قال عنها عبد الرحمن الأصم ، في موضع آخر من مقالات الإسلاميين :

و قال الأصم و ابن عُليّة : إذا كان جماعة لا يجوز على مثلهم أن يتواطئوا و لم تلحقهم ظنّة و لا تهمة لكثرتهم جاز لهم أن يقيموا الأحكام .

(5)
الفائدة من كل الشذرات الماضية :

يقول الإمام الجويني :
فنصب الإمام عند الإمكان واجب ، و ذهب عبد الرحمن بن كيسان إلى أنه : لا يجب ، و يجوز ترك الناس أخيافاً يلتطمون ، ائتلافاً و اختلافاً ، لا يجمعهم ضابط و لا يربط شتات رأيهم رابط .

و هذا الرجل هجوم على شق العصا ، و مقابلة الحقوق بالعقوق ، لا يهاب حجاب الإنصاف ، و لا يستوعر أصواب الاعتساف و لا يسمى عند الانسلال عن ربقة الإجماع ، و الحيد عن سنن الاتباع ، و هو مسبوق بإجماع من أشرقت عليه الشمس شارقة و غاربة ، و اتفاق مذاهب العلماء قاطبة .

و يقول أحد نقاد الأدب ، عن قصة روبن هود (اللاسلطوي) :
قصة روبن هود كخارج عن النظام الجائر و أنظمة الحكم الشمولية ، تشكل أمثلة واضحة عن خطورة النظام و التحكم في حياة البشر و من أجل ذلك يخرج مناضلو الحرية freedom fighters ثائرين على الأنظمة ، حيث يرى "اللاسلطويون" أنَّ : حالة التحكم و السيطرة من قبل الدولة على حريات الأفراد هي الشر المطلق للبشرية .


(6)
الفائدة الخالصة المنحوتة ، أقول :
إنَّ في النظر إلى مقولات هؤلاء قدح في الذهن إلى :
- الحرية (اللاسلطوية) ، و أهميّة النظر إلى مآلاتها و نتائجها المحتملة ، و لعلَّنا نلحظ مدخلاً هنا إلى نقد : الحرية الليبرالية ، و النظر إلى جدليّة العلاقة بين الحرية و الليبراليّة ، و أنَّ الليبرالية لا بدَّ لها في أصلها و جذورها إلا أن تلتزم باللاسلطوية ، و إلا .. فلا ليبراليّة !
- مع موافقتي لكلام الجويني السابق ، فإنَّي ألمح فيه : نقداً بلازم لا يلتزمه الأصم ، و المقارن بين أوالهما يرى ، خاصة المقولة الثانية .

و قد كتبت الموضوع لألمح إلى : مدخل خفي إلى الحرية الليبْرالية ، و التنبيه على كلام الجويني ، الذي عندي منه كثير ، فيه تعسّف و نقد بلازم ، و قسوة لا تقبل .

(أعلم أنَّ الموضوع غير مرتب ..
و حسبي :
إثارة قضيّة ، في ظل أحداث "أن تكون عربياً في زماننا" –

و الحمد لله رب العالمين .