تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: حماية الملكية الفكرية مبدأ رأسماليٌ

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    May 2010
    المشاركات
    11

    افتراضي حماية الملكية الفكرية مبدأ رأسماليٌ

    لمحة تاريخية
    ـ حماية الملكية الفكرية مبدأ رأسماليٌ
    إن فكرة حماية الملكية الفكرية نشأت في ظل النظام الاقتصادي الرأسمالي، وأصبحت من مبادئه، فقد أبرمت الدول الرأسمالية الصناعية اتفاقية باريس لحماية الملكية الفكرية عام 1883 ر، واتفاقية بيرن عام 1886ر، وتلاهما اتفاقيات أخرى لا تقل عن عشرين. وما لبثت أن تأسست المنظمة العالمية للملكية الفكرية التي تعرف باسم "ويبو" (wipo)لتشرف على الاتفاقيات المذكورة وترعاها. وفي العام 1995 تبنت المنظمة العالمية للتجارة فكرة حماية الملكية الفكرية، وأصبحت منظمة ويبو جزءًا منها فاشترطت المنظمة العالمية للتجارة على الدول التي ترغب في الانضمام إليها أن تلتزم بحماية الملكية الفردية وأن تسن قوانين ملزمة لرعيتها من أجل حماية الملكية الفكرية على أراضيها.
    ـ حماية الملكية الفكرية فكرة غريبة عن المسلمين
    ففكرة حماية الملكية الفكرية فكرةٌ غريبةٌ عن مجتمعات المسلمين لم يعرفها المسلمون قط قبل أن تغزو بلادَهم في ما غزاها من أفكار دخيلة لا تمت إلى شريعتهم ولا أعرافهم بصلة. وقد انتشرت الطباعة في بلاد المسلمين وأخذوا يطبعون الكتب على نطاق واسع قبل أن تصل فكرة حماية الملكية الفكرية وقوانين حقوق الطبع والتأليف والابتكار إلى بلادهم فلم يرِدْ أن أحدًا رأى في أي من مؤلفات المسلمين القديمة ومخطوطاتهم المنتشرة اليوم في مكتبات الدنيا أيةَ عبارة تشير إلى احتفاظ المؤلف بحق الاستنساخ دون غيره، كعبارة: (جميع حقوق الاستنساخ محفوظة للمؤلف) كما نرى في غالب الكتب العصرية وعلى صفحاتها الأولى.
    وجهة النظر الرأسمالية
    ـ تعتبر القوانين الرأسمالية الفكرة مالاً يملكه مَن سبَق إليها
    تعتبر قوانين حماية الملكية الفكرية التي سنّتها الدول الرأسمالية أن للفرد حقـًا في حماية إنتاجه الفكري المبتكر أي ما ابتكره وسبق إليه من فكر وتأليف، وتعتبره مالكـَه الوحيد وتمكـّنه من التصرف به دون غيره وتمنع غيرَه من التصرف والانتفاع بهذا الابتكار إلا بإذنه، وتقوم الدول التي تطبق هذه القوانين بحماية ما ابتكره الشخص وصيانته عن النسخ والتقليد والاستعمال والتصرف والانتفاع من قبل الآخرين بلا إذنه، في حياته وبعد موته، وتعاقبُ كلَ مَن يفعل ذلك وتجعل لورثة المبتكر حقـًا في التصرف والانتفاع بهذه الفكرة بعد موته. وتصحح هذه القوانين ملكية الشركات أيضًا للأفكار المبتكرة كالأفراد.
    ـ العلم والتكنولوجيا تدخل عندهم تحت ذلك
    والمقصود بالإنتاج المبتكر في هذه القوانين هو الفكر أو العلم الذي توصّل إليه عقل شخص ما ولم يسبقه إليه أحد كما ذكر آنفا، ويدخل في ذلك تأليف الكتب وتصنيفها، ومن أهم هذه الابتكارات المعارف التي تستخدم في التصنيع وإنتاج السلع والخدمات وهي ما يسمى اليوم "التكنولوجيا" وتوسع كفارُ الغرب حتى اعتبروا أي فكرة جديدة نافعة مالاً قابلاً للتملك (ولو كانت مثلا ترتيبًا جديدًا لمجموعة إجراءات عملية في إدارة الأعمال كلٌٌ منها معروف سابقـًا).
    ـ الأفكار في القوانين الرأسمالية كالأعيان ومنافعها
    وبذلك اعتبر الرأسماليون المعارف والأفكار الفردية مالا قابلا للتملك كالأعيان ومنافعها، ولا يجوز الانتفاع به لمن علِمَه أو تعلمه إلا بإذن صاحبه الأول أو بإذن ورثته من بعد موته وفقـًا لمعايير حددوها في قوانينهم، منها أن يكون هذا الابتكار قد تم تسجيله في سجلات خصصوها لهذا الغرض، فإن اشترى شخص كتابًا أو أسطوانة حاسوب "ديسك" أو شريط تسجيل "كاسيت" مما هو محمي بالقوانين المذكورة، فله في نظرهم أن ينتفع بالنسخة التي اشتراها انتفاعًا مقيدًا كالقراءة أو النظر أو السماع، ويحظرون عليه أن ينتفع بها في مجالات أخرى كطباعتها ونسخها للبيع والمتاجرة. وينسحب هذا الحكم عندهم على جميع الصنائع، فمن اشترى آلة أو سلعة أخرى مما تمّ تسجيله في سجلاتهم فليس له عندهم أن يصنع مثلها إلا بإذن الصانع الأول.
    ـ كثيرون اعتبروا ذلك موافقـًا للإسلام مع أنه يخالفه
    والعجيب أن كثيرًا من الناس في بلاد المسلمين ـ ومنهم من هو معدود في أهل الفقه بالدين ـ اعتبر أن كل ذلك موافق للشرع الإسلامي، بل زاد على ما ذهب إليه الرأسماليون فاعتبر الملكية الفكرية حقـًا يكفله الشرع الإسلامي للشخص الذي سبق إليه ولو لم يسجله في السجلات التي خصصتها الدول لذلك، واعتبر طبعَ الكتب بدون إذن مؤلفيها اعتداءً على هذا الحق المزعوم بل تمادى البعضُ فمنعَ طبعَ الكتاب المشترى وتصويرَه بدون إذن الناشر الذي نضّده وصفّ أحرفه نقلا من بعض المخطوطات ولو كان كتابًا تراثيًا قديمًا؛ وقيّد آخرون المنعَ بوجود نية المتاجرة؛ واستثنى قومٌ من هذا المنع الكتبَ الإسلامية. وكل هذا باطل لا أصل له في شرع الله كما سنبين فيما يلي وقد أفردتُ فصلاً في آخر هذه الرسالة لتعداد أسباب انجراف البعض مع هذه الفكرة وانجرافهم عن الجادة في هذه القضية.
    حكم الشرع الإسلامي
    ـ تنظيم الشرع للملكية
    والحقيقة أن الإسلام نظـّم الملكية فشرع للمسلم التملّك وأباح له ملكية أكثر الأعيان كالرقيق والأنعام والمساكن ومحاصيل الأرض، وحرّم عليه ملكية بعض الأعيان كالخمر والخنزير، وشرع له أسبابًا لتملّك الأعيان والمنافع كالبيع والإجارة والإرث والهبة، وحرّم عليه أسبابًا أخرى كالربا والقمار، كما أباح له أخذ الأجرة على عمله كتعليم الآخرين.
    ـ لا تثبت الملكية في الإسلام إلا بالشرع
    والملكية الفردية في الإسلام لا تثبت إلا بإثبات الشرع لها وتقريره لأسبابها، فالحقّ في ملكية الشيء ليس ناشئـًا عن الشيء نفسه ولا عن كونه نافعًا، وإنما هو ناشئ عن إذن الشارع وهو الله، بملكيته بسبب من أسباب التملك الشرعية كالبيع والهبة والإرث.
    ـ للفرد سلطان على ما يملكه شرعًا
    وقد جعل الشرعُ الإسلامي للفرد سلطانـًا على ما يملك يمكـّنه من التصرف والانتفاع بما يملك وفق الأحكام الشرعية، وأوجب على الدولة صيانة الملكية الفردية، ووضع عقوبات زاجرة لكل من يتعدى على ملكية الآخرين.
    ـ الفكرة ليست مما يباع ويشترى شرعًا
    وأما الفكرة المبتكرة والنظرية العلمية والكلام المؤلــَف فليست شرعًا من الأعيان التي تباع وتشترى، ولا من المنافع الني تـُتـَمَلك فهي ليست مالاً شرعًا، لكن لصاحبها ـ إن كان لها اعتبار في الإسلام ـ أن يأخذ أجرة على عمله في تعليمها لغيره أو تدوينها في كتاب أو تسجيلها في شريط أو أسطوانة أو تطبيقها في صناعة سلعة ما، كما له أن يكتبها على ورق يملكه أو يسجلها على شريط أو أسطوانة يملكها أو يطبّقها في صناعة سلعة من مواد يملكها ثم يبيع هذا الكتاب أو الشريط أو الأسطوانة أو السلعة.

    ـ لا يحق للبائع تحديدُ تصرف المشتري بما اشتراه
    ثم لهذا الذي اشترى كتابًا مثلا أن يتصرف به بالقراءة والبيع والهبة والإعارة والنسخ كما يشاء، وليس للبائع الأول أن يمنعه من شيء من ذلك، إذ لا مسوغ لهذا المنع شرعًا، وليس للبائع أن يشترط تقييد تصرف المشتري بأن يمنعه من نسخه لغرض المتاجرة مثلا، فكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط، والمسلمون عند شروطهم إلا شرطـًا حرّم حلالا أو أحلّ حرامًا.
    ـ لا يجوز للمشتري أن يدّعي أنه المؤلف أو المبتكر
    إلا أنه لا يجوز للمشتري أن يدّعي أنه مؤلف هذا الكتاب لأن هذا يدخل في الكذب المحرم شرعًا، كما أنه لا يجوز لمن قلد سلعة مبتكرة وصنع مثلها أن يبيع إنتاجه على أنه من صنع المبتكر الأول أو يدعيَ أنه هو المبتكــِر لأن ذلك يدخل في الغش المحرّم شرعًا.
    ـ حقوق البائع في السلعة تنتقل إلى المشتري
    بمقتضى عقد البيع في الإسلام يحُلُ المالكُ الجديد (أي المشتري) محلَ المالك الأول (أي البائع) بالنسبة للسلعة المبيعة، وتنتقل إلى المالك الجديد حقوقُ المالك الأول في السلعة كافة؛ وليس للمالك الأول أن يحرم المالكَ الجديد من أيٍ منها. وهذا يصدُق على كل ما يصح بيعُه في الإسلام سواءً كان كتابًا أم غير ذلك وسواءً كان المالكُ الأولُ هو مؤلفَ ما في الكتاب ومبتكِرَ هذه السلعة أم لم يكن.
    قوانين حماية الملكية الفكرية تحرّم حلالا فلا يجوز تطبيقـُها
    ـ كلُ شرطٍ يخالف الشرعَ فهو باطل
    إن الشروط التي نصت عليها قوانين حماية الملكية الفكرية وسمحت لمؤلفي الكتب وصانعي السلع ونحوهم أن يشترطوها عند البيع باسم حماية الملكية الفكرية كما يسمونه حقوق الطبع وبراءة الاختراع، هي شروط غير شرعية، لا يجب الالتزام بها، ولا يجوز إلزام الناس بها لأن مقتضى عقد البيع في الإسلام يعطي المشتري حق التصرف بما يملك كما يعطيه حق الملكية، وكلّ شرط مخالف لمقتضى عقد البيع فالمشتري في حلّ منه، ولو كان مائة شرط، ففي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها: "أن بَريرة أتتها وهي مكاتـَبة قد كاتبها أهلها على تسع أواق، فقالت لها: إن شاء أهلك عددتـُها لهم عَدة واحدة وكان الوَلاء لي. فأتت أهلـَها فذكرَت ذلك لهم وأبوا إلا أن يشترطوا الولاءَ لهم، فذكرته عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم فقال افعلي ففعلـَت. فقام النبي صلى الله عليه وسلم فخطب الناس فحمِد الله وأثنى عليه قال: ما بال رجال يشترطون شروطـًا ليست في كتاب الله، قال: فكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، كتاب الله أحق، وشرطه أوثق، والولاء لمن أعتق، فالحديث يدل بمنطوقه على أن الشرط المخالف لما في كتاب الله وسنة رسوله لا عبرة به ولا يجوز إلزام أحد به كما أن هذه الشروط المخالفة لمقتضى عقد البيع تدخل أيضًا بلا أدنى شكٍ تحت النهي الوارد في حديث: "أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعٍ وشرطٍ" وحديثِ: "اِنهَهُم عن بيعٍ وشرطٍ"، فهي شروط لا يقتضيها عقد البيع ولا تلائمه لأنها تناقض إطلاق يد المشتري فيما اشتراه وتنافي كونـَه أًصبحَ مالكَه وصاحبَ حق الانتفاع به.
    ـ اشتراط احتفاظ البائع بحق البيع أو التصنيع شرطٌ باطل
    وما دامت شروط قوانين حماية الملكية الفكرية تجعل الانتفاع بالعين المبيعة مقصورًا على انتفاع دون انتفاع آخر مما أباحه الشرع، فهي شروط باطلة، تحرم المشتري من حقٍ كفله له الشرعُ فهي مخالفة لما في كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة، لكونها مخالفة لمقتضى البيع الشرعي الذي يمكـّن المشتري من التصرف والانتفاع بالعين التي اشتراها بأي وجه من الوجوه الشرعية كالبيع والإجارة والهبة والنسخ وغيرها، والشروط التي تحرّم الحلال لا شك باطلة لقوله صلى الله عليه وسلم: "والمسلمون على شروطهم إلا شرطـًا حرّم حلالا أو أحلّ حرامًا"، وعليه فلا يجوز أن تكون حقوق التصرف محفوظة للمالك الأول محرمة على المالك الثاني، بل هي مباحة للمالك الثاني بعد إنجاز البيع كما كانت للأول قبله، فعقدُ البيع نقل هذه الحقوقَ من المالك الأول إلى الثاني ولم يعد للمالك الأول أيُ حق فيها.
    ـ لا يحق للبائع والمعلم تحريمُ ما أحله الشرع للمشتري والمتعلم
    فالمفكر والعالم والصانع والمؤلف، بعد أن وصل علمه أو فكرته أو صناعته أو تأليفه منه إلى غيره بالتعليم أو البيع لكتاب أو سلعة، لا يملك منع أحد من استعمال ما تعلمه أو اشتراه منه والتصرف به حسب ما أحله الشرع وأذن به الشارع (أي الله). فالمعلومات والأفكار كما تقدّم ليست مالاً متقوِّمًا يملكه شخصٌ معين ويحق له الانتفاع به دون غيره ولكن لا يجوز نسبتها إلى غير الذي صدرت عنه لأن ذلك كذبٌ والكذب حرام.
    انعقاد الإجماع على حل نسخ الكتب بدون إذن مؤلفيها
    ـ عملُ الأمة منذ عهد النبوة حتى مطلع القرن المنصرم
    إن إباحة نسخ ما اشتراه المرء من كتب بدون إذن مؤلفيها ولو بأعداد كبيرة ولو بقصد التجارة من البدَهيات والمسَلـّمات التي لم يختلف فيهما مسلمان منذ عهد النبوة حتى مطلع القرن المنصرم، (حتى بعد أن بدأ عهد الطباعة فلم يُعلم أن مؤلـِفـًا من المؤلفين في أي فن أو علم قبل القرن الماضي منعَ النساخَ من استنساخ مؤلفاته بقصد المتاجرة ولا طالبهم بحصة من أرباحهم من بيعها، مع أن علماء العصور الماضية أفنوا أعمارهم في التأليف والتصنيف مع الفاقة والفقر الغالب على كثير منهم، ولم يقل أحد منهم: "أنا أتعبت عقلي وجسمي وبصري في التحصيل والسفر والتأليف والجمع والاستنباط وهؤلاء الكتبيون (أي تجار الكتب) يستأجرون النساخ لنسخ مؤلفاتي ويتاجرون بها وتسير بها الركبان وينتفعون بأرباحها دون أن ينالني من ذلك فلس واحد".
    ـ ليس الزهد وحده هو الباعث على ذلك
    وليس الزهد في عرض الدنيا وحده هو الباعث على إعراضهم جميعًا عن هذه المطالبة كما ظن البعض لأن كثيرًا منهم كانوا يقبلون الأموال من الحكام والأثرياء مكافأة على بعض مؤلفاتهم كما كان منهم من يأكل من المرتبات والأوقاف المخصصة لأهل العلم من مدرسين وقضاة وغيرهم ومنهم من كان يبيع بعض ما يملكه من الكتب عندما يحتاج إلى مال ومع هذا لم يطالب أحد منهم بحصة من أرباح تجار الكتب من مؤلفاته فلا يسلـّم بأن ملايين المؤلفين المسلمين في مختلف العلوم والفنون الذين عاشوا خلال ألف وثلاثمائة سنة كانت مقاصدهم وأغراضهم وأخلاقهم واحدة ولا أنهم كانوا جميعًا زهادًا إلى حد رفض أي نفع مالي حلال من مؤلفاتهم والتنازل عن حقوقهم فيه.
    ـ إذا كان جميع المؤلفين زاهدين فهل كان جميع ورثتهم كذلك
    ثم إن كانوا جميعًا زاهدين في المال فهل كان جميع ورثتهم كذلك حتى لم يُعرف عن أحد من عوام المسلمين في القرون الغابرة أنه طالب بحصة من أرباح استنساخ مؤلفات والده أو جده أو قريبه ولا لجأ إلى واحد من القضاة الشرعيين لهذا الغرض أو استعان بأحد من الحكام والأئمة العادلين أو الجائرين على ذلك؟
    ـ لم يُعلم أن شاعرًا متكسبًا طالب نساخ ديوانه بالمال
    وحتى الشعراءُ الذين دأبوا على التكسب بشعرهم على أبواب الحكام والموسرين في القرون الماضية وعُرفوا بشدة حرصهم على تحصيل المال لم يعرف أن أحدًَا منهم طالب النساخ بمال لاستنساخهم ديوانـَه الشعريَ ومتاجرتِهم به كما لم يُعرف أن أحدًا من ورثتهم فعل ذلك مع شدة حرص كثير منهم على الدنيا وبُعدهِم عن الزهد.
    ـ انعقاد الإجماع الفعلي قرونـًا طويلة على حل النسخ بلا إذن المؤلف
    يتبين مما تقدم أن الأمة الإسلامية أجمعت إجماعًا فعليًا بلا أدنى شك على حل النسخ بدون إذن المؤلف للكتاب المشترى سواءً كان موضوع الكتاب دينيًا أو غير ذلك ولو كان ذلك لغرض المتاجرة على نطاق واسع فعلى هذا جرى عمل المسلمين علمائهم وعوامهم على وجه واحد قرونـًا طويلة فكل الأمة كانت مطبِقةً على أن من اشترى كتابًا فله نسخـُه كما شاء وبالعدد الذي شاء وكفى بذلك دليلاً وأما إذا استعار الرجل كتابًا فليس له أن ينسخ منه إلا بإذن صاحبه (أي مالكه لا مؤلفه) فإن أذن له المالك حلّ له ذلك ولو بدون إذن المؤلف كما بيّن ذلك أهل العلم فكيف يُجعَل المؤلفُ مكانَ المالك ثم يُجعَل حكمُ مَن اشترى وحكمُ مَن استعار حكمًا واحدًا لا فرق بينهما؟ هذا بهتان عظيم.
    اعتراضاتٌ ستة للمخالفين وردُنا عليها
    ـ الرد على الاعتراض الأول: الحرامُ حرامٌ ولو كان فيه منفعة
    ولا يَرِدُ علينا قولُ بعضهم: "إن في قوانين حماية الملكية الفكرية وحقوق الطبع والابتكار المطبقة في هذا العصر منفعةً لأنها تشجع المؤلفين والمبتكرين"؛ لأن مجرد وجود منفعة ما في أمر ما لا يجعله حلالا شرعًا، فالخمر والميسر فيهما منافع للناس بنص القرءان، قال الله تعالى: "يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس"، ومع هذا فهما حرام شرعًا، فمتى قام الدليل على حرمة شيء ما فهو حرام ولا ينظر إلى وجود منفعة فيه، فهذه القوانين تحرّم حلالا كما ظهر مما تقدّم، فهي حرام ولا خير فيها وإن نفعت من بعض الوجوه، فالخير في ما شرعه الله لنا، لا فيما سنّه البشر مما يخالف شرع الله. قال تعالى: "أفـَحُكمَ الجاهلية يبغون ومَن أحسنُ مِن الله حُكمًا لقوم يوقنون".
    ـ الرد على الاعتراض الثاني: اعتمادُ كثيرٍ من الناس على حرامٍ ما في معيشتهم لا يجعله حلالا
    كذلك لا يَرِدُ علينا قولُ بعضهم: "إن في إطلاق الحِل في مسألة النسخ إضرارًا بأصحاب دور النشر والمؤلفين والمبتكرين، الذين لا دخل لهم إلا ما تدُرُّهُ عليهم منشوراتهم ومؤلـَفاتـُهم ومبتكراتهم"؛ لأن من اختار أن يعيش مِن تحجيرِ مباح، أو تحريمِ حلالٍ، أو تحليل حرامٍ، لا يُلتفت إليه فهو أضرَّ بنفسه؛ فهل يسوغ مثلا أن يقال: "ليس لأحد اليوم أن يحرم الربا ويغلق بابه لأن في إيقافه إضرارًا بالآلاف المؤلفة من موظفي البنوك الربوية المنتشرة في بلاد المسلمين والذين لا دخلَ لهم سوى مُرَتباتِهم وهم لا يحسنون عملاً آخر".
    الرد على الاعتراض الثالث: الحلال لا يصبح حرامًا إذا أصبح سهلا
    كذلك لا يَرِدُ علينا قولُ بعضهم: "إن سهولة استنساخ الكتب وتصنيع السلع بأعداد كبيرة في عصر الصناعة والطباعة غيّرت الحكمَ"؛ فهذا قول بلا دليل فلم يقل أحد من الفقهاء إن الشيء الحلال يصبح حرامًا إذا أصبح في منتهى السهولة، ثم إن استنساخ الكتب بأعداد كبيرة كان قائمًا قبل عصر الطباعة كما أشرنا أعلاه، وكان تجارُ الكتب أقدرَ ماليًا على الاستنساخ على نطاق واسع من كثير من المؤلفين الذين غلب عليهم الفقر في العصور الماضية؛ ثم إن المسلمين في مطلع عهد الطباعة بقوا على ما كانوا عليه من إباحة أن يستنسخ مالكُ الكتاب كتابَه الذي اشتراه ويطبعَ ما شاء منه بلا قيود، ولذلك لا نرى على أي كتاب من الكتب المطبوعة قديمًا كالطبعات البولاقية مثلا عبارةً تفيد منعَ مَن يشتري الكتابَ مِن إعادة طبعه؛ فلا وجه لهذا الاعتراض.

    ـ الرد على الاعتراض الرابع: عاشت الأمة قرونـًا وأنتجت بدون هذه القوانين
    ولا نسلـّم بأن إبطال هذه القوانين يعني إيقافَ أعمال التأليف والابتكار، فقد عاشت الأمة قرونـًا طويلة بدون هذه القوانين حتى في عصورها الذهبية، ومع هذا وصلت إلى ما وصلت إليه في مختلف العلوم والفنون، مما اتكأ عليه الغربُ في نهضته في الطب والعلوم الكونية وغير ذلك. بل ربما كان في إبطال هذه القوانين حافزًا للمؤلفين والمبتكرين الحريصين على المكاسب المالية لمواصلة جهودهم بدل التراخي والاتكال على ما تدُرّه عليهم مؤلفاتـُهم ومبتكراتهم السابقة من أموال دون أي جهد إضافي منهم، فكم مِن كاتبٍ أو مبتكرٍ يعيش اليومَ بلا إنتاجٍ جديد اتكالا على ما سبق أن أنتجه. وعلى أي حال فالخير فيما يوافق شرعَ الله ولو كره الكثيرون، والشرُ فيما يخالف شرع الله ولو أعجب الكثيرين.

    ـ الرد على الاعتراض الخامس: إلغاءُ هذه القوانين لا يلغي الحوافزَ مطلقـًا
    ولا وجه للقول بأن إبطال هذه القوانين يسد على المؤلفين والمبتكرين جميعَ وجوه الانتفاع الماليّ بإنتاجهم، فالشرع لم يسدَّ كلَ وجوه الكسب المالي والانتفاعِ المادي عليهم، ولم يُلغِ حافزَي المال والشهرة اللذين يدفعان كثيرًا من الناس إلى التأليف والابتكار، فكما ذكرنا في فصلٍ سابق، للمؤلف أو المبتكر ـ إن كان لِما ألـّفه أو ابتكره اعتبارٌ في الشرع ـ أن يأخذ أجرة على عمله في تعليمه لغيره أو تدوينه في كتاب أو تسجيله في شريط أو أسطوانة أو تطبيقه في صناعة سلعة ما، كما له أن يكتبه على ورقٍ يملكه، أو يسجله على شريط أو أسطوانة يملكها، أو يطبقـَه في صناعة سلعة من موادََّ يملكها، ثم يبيعَ هذا الكتابَ أو الشريط أو الأسطوانة أو السلعة، وكلُ هذا يدُرُّ عليه مالاً، إن كان هدفـُه هو المالَ. كما أن الشرعَ لا يمنعُ المرءَ من نيل الشهرة والمجدِ مِن إنتاجه إن كان هذا ما يطمَح إليه، بشرط أن لا ينزلق إلى الرياء والسمعة، وهو العملُ بالطاعة وامتثال الأوامر الشرعية ظاهرًا من أجل محمدة الناس.

    ـ الرد على الاعتراض السادس: لا يسوغ شرعًا السكوت عن هذه القوانين
    وأما ظن البعض أنه ينبغي ترك الخوض في مسألة قوانين حماية الملكية الفكرية وحقوق الطبع والابتكار لحديث: "وسكت عن أشياء رحمةً لكم غيرَ نسيانٍ فلا تبحثوا عنها" فلا وجه له لأن هذا الحديث لا يعني أن يترك الناسُ السؤالَ في النوازل التي نزلت ولا أن يترك العلماءُ بيانَ حكم شرع الله فيها، فهذا المعنى لا يليق بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كيف يمكن أن ينهانا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن سؤال أهل العلم عما عرض لنا من أمور لنعرف ما أحل الله منها وما حرم وكيف يمكن أن ينهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلَ العلم عن القيام بواجبهم في بيان حكم الله في ما ينزل من النوازل ويطرأ ويقع من المسائل، أيصح أن يأمر الشارعُ (أي الذي شرع الشرعَ وهو الله)الناسَ أن يقدِموا على أمر دون معرفة حكم الله فيه، هذا والله ما لا يكون فالحديث إنما يعني الكفَ عن السؤال عما لا يعني الناسَ ولا يحتاجون إلى معرفته ولا يتعاطونه، وأما ما تدعو الحاجة إلى بيانه مما لابسَهُ كثيرٌ من الناس وفيه تحريمُ حلالٍ ـ كهذه المسألة ـ فلا بد من بيانه والتحذير منه لأنه يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة للمسلمين بلا أدنى شك.
    قوانين حماية الملكية الفكرية من أساليب الاستعمار الغربي

    ـ هذه القوانين تفرضها دولُ الاستكبار وتروّجُها
    تجدر الإشارة هنا إلى أن قوانين حماية الملكية الفكرية التي فرضتها دول الاستكبار الرأسمالية على سائر دول العالم وشعوبه عن طريق المنظمة العالمية للتجارة، هي أسلوب من أساليب الاستعمار الغربي يستخدمه الغرب الكافر في حفظ تفوقه العسكري وبسط نفوذه الاقتصادي وتمتين تأثيره الثقافي وتكريس غزوه الفكري وتوسيع استغلاله لشعوب الأرض وزيادة ثروته وثرائه، ولذلك ترى دولَ الغرب (ولا سيما كبراها) شديدة الحرص على أن تطبق دولُ الدنيا هذه القوانين، فهي تضغط عليها بشتى الوسائل لتفعل، وتستعمل لهذا الغرض الترغيب والترهيب كليهما. فبعد أن توصلت هذه الدولُ إلى "التكنولوجيا"، وهي المعارفُ المتعلقة بالصناعة وإنتاج السلع والخدمات، فرضوا قوانينهم ليحتكروا هذه المعارف ويمنعوا الأمم الأخرى من الاستفادة التامة منها، لتظل بلاد الدنيا أسواقـًا استهلاكية لبضائعهم ولتبقى دولُ الدنيا بحاجة إلى شراء منتجاتهم من أسلحة وسيارات وطائراتٍ وأدوية ومحاصيلَ زراعية والالكترونيات وغيرِها، ولكي لا تنفكَ أمم الأرض تابعة لهم خاضعة لنفوذهم، يتحكمون بها ويسرقون ثرواتها وينهبون خيراتها باسم الاستثمار والتجارة والعولمة.

    ـ بعض الغربيين يُقرّ بأن هذه القوانين صُممت لحماية مكاسب الدول الصناعية
    يُقر بعضُ المنصفين من الاقتصاديين في الغرب نفسِه كـَهاجون تشانغ الاقتصادي في جامعة كامبريدج البريطانية الشهيرة بأن المبادئ الاقتصادية التي تروجها دولُ الغرب كفكرة حماية الملكية الفكرية صُممت للمحافظة على مكاسب الدول الصناعية ويصرح بأن الولايات المتحدة الأمريكية والبلدان الصناعية الأخرى تتعامل في هذا الشأن بأنانية وكذب فهي تمنع البلدَ الذي يحاول أن يصبحَ بلدًا صناعيًا من استعمال الأساليب التي اعتمدتها هي في الماضي لتصبح قوةً صناعيةً هائلة. فأمريكا نفسها بُعَيد الحرب الكونية الثانية لم تتردد في تجاهل قوانين الملكية الفكرية مدةً من الزمان، وحين توصلت إلى ما تريد وتمكنت في الصناعة أصبحت تطبق قوانين الملكية الفكرية وتحميها وتـُلزم غيرَها بها.
    ـ الأمة الإسلامية هي هدف الكفار الأول
    ولا شك أن الأمة الإسلامية هي الهدف الأول لدول الكفر بين الأمم، فالكفار يدركون قوة هذه الأمة العظيمة ويعرفون خطرها عليهم إنْ هي عادت إلى تطبيق تعاليم الإسلام، ولذلك فرضوا عليها قوانينهم البشرية المفصّلة على قياس مآربهم، بدءًا بالديمقراطية ووصولا إلى فكرة حماية الملكية الفكرية، وذلك لمنعها من أسباب قوتها وإبعادها عن العمل بشرعها، خوفـًا من نهضتها من جديد. فعلينا أن ندرك خطر قوانين الغرب ومبادئه على ديننا ودنيانا. ومن هذه القوانين والمبادئ الخطيرة قوانين حماية الملكية الفكرية فمن أهداف هذه القوانين منعُنا من الوصول إلى المعارف العلمية والأسرار التكنولوجية والاستفادة منها، للحيلولة دون نهضة أمة الإسلام، واستغنائِها عن دول الكفر وتحررها من التبعية لهم، ولذلك علينا رفض هذه القوانين وعدم الالتزام بها، لأنها تخالف الإسلام ولأنها سُنّت لإلحاق الضرر بنا، ولسنا بحاجة إليها فلنا في شرع الله خيرُ كفاية.
    كلمة أخيرة
    ـ من أراد أن يحتفظ بسلطته على ما يملك فلا يبعه
    وفي الختام أقول لمن ألف كتابًا أو صنع سلعة ورغب في أن يبقى له سلطة عليها وأن يحِلَ له شرعًا تحديدُ تصرف الآخرين بها: لا تبعها؛ إذ لا يمكن أن تبيع الشيء وتحتفظ بسلطتك عليه شرعًا؛ فكما يقول المثل: "لا يمكن أن تأكل الحلوى وتحتفظ بها في آنٍ معًا". فعليك أن تجد طرقـًا أخرى غير البيع للانتفاع المالي بمؤلـّفِك أو سلعتك، إن كان هذا هدفـُك، بحيث يبقى لك شرعًا سلطة عليها؛ ففي الشرع أبوابٌ تسمحُ بذلك ليست هذه الرسالة مجالَ بحثها. والخير في موافقة الشرع، لا في إتباع الهوى وتحصيل المال بالحرام.
    ـ من باع شيئـًا فقد رضي بالتخلي عن سلطته عليه
    وأما من اختار بيع كتابه أو صنعته فقد اختار نقلَ ما له من سلطة عليهما إلى غيره، فلا يلومنّ غيرَه إذا رآه يستنسخ الكتاب الذي باعه، أو يستصنع السلعة التي باعها. وليتق الله ولا يتعدّينّ حدودَ شرع الله بالتعدي على حقوق المشتري الشرعية، طمعًَا في كسبٍ أو منفعة لا يحلان له شرعًا؛ فمن ترك شيئـًا لله عوّضه الله خيرًا منه؛ والله هو الرزاق الكريم، ورحم اللهُ امرَأً عرف حده فوقف عنده ولم يتعدّه


  2. #2
    تاريخ التسجيل
    May 2010
    المشاركات
    11

    افتراضي رد: حماية الملكية الفكرية مبدأ رأسماليٌ

    قرأت هذا الموضوع فأعجبني فأحببت ان أنقله لكم .
    وبارك الله فيكم

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jun 2009
    الدولة
    المغرب-مراكش
    المشاركات
    1,812

    افتراضي رد: حماية الملكية الفكرية مبدأ رأسماليٌ

    جزاك الله خيرا
    ولو ذكرت مصدر النص لكان أفضل للتوثيق

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •