وقع في الآونة الأخيرة جدلٌ فكري واسع حول الدعوة إلى التعليم المختلط، ومحاكاة المملكة للنموذج الغربي - أو بالأحرى للنموذج العالمي - في ذلك، فكلُّ دول العالم بها تعليم مختلط، فلماذا تظلُّ المملكة منفردة عن كلِّ الدنيا في أنظمتها، مخالفة لجميع لأهل الأرض في هديها؟

وقد أبدى فريقٌ من الناس تحفُّظهم على ذلك، وذكروا أضرارَ الاختلاط وما يعقبه من مفاسد وشرور، وأنه ليس من العقل أن نكوي أنفسنا بالنار لمجرد أن غيرنا فعل ذلك.

وأبدى غيرهم عدمَ تخوفهم من ذلك، وأن الجامعات والمدارس قاعات للدرس وحقول للبحث العلمي فحسب، وليست أماكن للنزهة والخلاعة، فلا وجه لكلِّ هذه الزوبعة، وأن مثل هذه المحاذير والمفاسد التي يذكرها المانعون لن تكون قاعات التعليم مكانًا مناسبًا لوقوعها.

وهناك فريق ثالث ممثل في العلمانيين والليبراليين - الذين اعتادوا الصيد في الماء العَكِر - اهتبلوا هذه القضية فرصة جاءتهم على طَبَقٍ من ذَهب، فشنعوا - كدأبهم - على أحكام شرعيَّة، كتحريم الاختلاط والتبرُّج وغيرها، ونصبوا بعض العلماء الفضلاء هدفًا لسهامهم، وتستَّروا بأنهم يريدون نهضة الوطن ونمو المجتمع، وأن حربهم مع مَن يحول دون ذلك.

وبرأيي أن ما ذكره المانعون من مفاسد الاختلاط في قاعات الدراسة ليس هو وحدَه مكمن الخطر ومصدر القلق، لكن الأمر الخطير جدًّا في رأيي: هو أن السماح بالتعليم المختلط في الجامعات أو غيرها يعطي رسالة غير مباشرةللعالم أجمع: أن التمدُّن والتحضُّر والرُّقي لا سبيل إليه إلا بتخلِّينا عن ديننا وقِيَمنا، وأن التمسُّك بأوامر الله - تعالى - يساوي التخلُّف والرجعيَّة، وأن تضييع أوامر الله - تعالى - يساوي الرُّقي والتطور والتمدُّن.

وهذه بَليَّة كبيرة كما أنها فِرْية عظيمة على شرع الله - تعالى - من جهة، وعلى الرقي والتمدُّن من جهة أخرى، وإن كان أقوام - أعمى الله قلوبهم وختم على أسماعهم - يدندنون بهذه الفِرْية ليلَ نهار؛ أعني: العلمانيين والليبراليين.

إن أعلى درجات الرُّقي والتمدُّن أن نتمسك بديننا وأخلاقنا وقِيَمنا، مع الأخذ بما أخذ به الناس من العلم المادي والتطور التِّقني.

فحاجة الإنسانيَّة اليوم لمن يصحح لها أخلاقها ويهذِّب لها تفكيرها، ويأخذ بيدها ليخرجها من ظلمات الإلحاد والشرك، والشقاء والصراع والتناحر، إلى نور الإسلام والتوحيد وجنة السعادة والطمأنينة والاستقرار - أعظم ألف مرة من حاجتها لمن يقدِّم لها مخترعًا جديدًا، أو اكتشافًا علميًّا في حَقل من حقول البحث العلمي.

إن التطور التِّقني الذي يسود العالم حاليًا لم يحلَّ مشاكل الإنسان على هذه الأرض، فَنِسَب الانتحار تزداد يومًا بعد يوم، والظلم والاستبداد لهو قائم أشدُّ مما كان، والعيادات النفسيَّة وتعاطي المهدِّئات - بل والمخدرات والكحوليات المسكرة - تملأ أرجاء الأرض المعمورة.

إذًا؛ فعلينا أن ندرك أن ما عندنا من دين الإسلام الحنيف وشرع العليم الحكيم الرحيم - ومنه: تحريم الاختلاط والتبرُّج - هو أثمن وأعظم وأنفع للبشريَّة مما يمكن أن نقدمه لها من تطور تكنولوجي أو تِقني، إن فُرِض أننا سبقنا العالم كله في ذلك، وصار العالم عالة على ما عندنا من تقدُّمٍ وتكنولوجيا.

لماذا لا نسأل أنفسنا عن الشيء الذي يمكننا أن نسابق به الغرب المتطور والمتقدِّم تكنولوجيًّا وتِقنيًّا؟ هل يمكن أن يكون هذا الشيء في الجانب التِّقني والتكنولوجي؟ وإذا كان، فما عندنا الآن؟ هل هو شيء مساوٍ لما عند الغرب أو أفضل منه أو دونه؟

إننا عندما نضع أنفسنا في مقارنة أو منافسة تِقْنيَّة أو ماديَّة مع الغرب، فإن الكِفَّة ستميل إلى جانب الغرب مائة في المائة، ولا ريب أن معركتنا معه - لو حصرناها في هذا الجانب وحدَه - ستكون خاسرة، فالغرب قد قطع شوطًا كبيرًا حتى وصل إلى ما هو عليه الآن، ولا بد أن أمامنا نفس هذه المسافة الزمنيَّة لنصل إلى ما وصل إليه، فضلاً عن أن نتفوَّق عليه، بينما لو تمسَّكنا بديننا وقِيَمنا وبدأنا المنافسة التِّقنية، فإن طريقة سير المعركة ستكون مختلفة؛ إذ هي محسومة لنا في الجانب العقدي والأخلاقي، فنكون متفوقين عليه في هذا الجانب دائمًا، إلى أن نصل إلى التفوق عليه في كلِّ الجوانب.

وليس يعني ذلك أن مجرد تمسكنا بشرعنا وأوامر ربِّنا كفيل بإحداث نقلة حضاريَّة ماديَّة عندنا، كلا، بل لا بد من مراعاة السُّنَن الكونيَّة التي لا تحابي أحدًا، ولا بد من الأخذ بالأسباب المادية لهذا التطور؛ فإن العالم لن يسمع ويقبل من أمةٍ ضعيفة مغلوبة.

إن من المشاهد في العالم حولنا أنَّ كلَّ أمةٍ - بل وكل مؤسسة - تحاول جاهدة أن تبرز في إنتاجها أو عملها جانبًا متميزًا مخالفًا للنماذج التي عند الآخرين؛ ليبقى لها ما تنشده من صدارة وتفوق.

لماذا إذًا لا نعمل على الأخذ بحظٍّ وافرٍ من التِّقنية والتطور ننافس به الآخرين، ونجعل من تمسكنا بشعائر ديننا العظيم جانبًا مميزًا لنا يجعل الآخرين يحترموننا ويسعون لتقليدنا، لا أن يجبرونا على تقليدهم.

رأيت قديمًا في إحدى الصحف صورة ممثلة السفارة الأمريكيَّة في المملكة تحضر حفلاً للفنون الشعبيَّة وهي ترتدي العباءة السوداء، ورأيت بالتلفاز مترجمة الرئيس الفرنسي السابق "شيراك" وهي تغطِّي شعرها في لقاء بين الرئيس والملك فهد - رحمه الله.

إن مثل هذه الأشياء الصغيرة تعطي دلالةً - ولو معنويَّةً - أن عندنا ما ليس عند الآخرين، وأن على الآخرين أن يحترموا قِيَمنا وأخلاقنا وشعائر ديننا، لا أن نكون نحن من يتنازل عن قِيَمه وأخلاقه وشعائر دينه؛ ليجاري الآخرين في سلوكهم وأخلاقهم وعاداتهم.

إن بعض مَن يحبُّون الخير لهذه البلاد يظنون خطأً أنَّ رَفْع بعض القيود الشرعيَّة داخل قاعات الدراسة أو غيرها، سيساعد أو سيسرع من سير عجلة التنمية والتطور، وإلى هؤلاء نقول:
إننا نحلف بالله - تعالى - أيمانًا مغلظة نُشهد عليها الله وملائكته والجن والإنس: أن إقامة أمر الله - تعالى - بمنع الاختلاط في جامعات المملكة، وفي أيِّ جامعةٍ على وجه الأرض - لن يحول قَدْر أُنملة بين هذه الجامعات وبين ما ترجوه من تطور تكنولوجي وتقدُّمٍ تِقني، ونحلف مرة ثانية ونُشهد جميع من أشهدناهم: أن تضييع أمر الله - تعالى - بالسماح بالاختلاط في جامعات المملكة، وفي أيِّ جامعةٍ على وجه الأرض - لن يكون سببًا في تطورها وتقدمها.

فحاشا شرع الملك الحكيم العليم الرحيم أن يكون فيه ما يحول بين الناس وبين ما فيه تقدمهم الحقيقي ونهضتهم الصحيحة، بل إن ظنَّ ظانٌّ وقوع ذلك، فقد حكم على نفسه بالجهل الفاضح بالشرع، أو بالنهضة والتطور، أو بهما معًا، وإذا ظهر شيءٌ من ذلك التعارض بادئ الرأي، فليس سوى التعارض بين شرع الله وبين قشور التطور وزخارفه وبهارجه، لا بين شرع الله وجوهر التطور ولبِّه وحقيقته.

أما طيور الظلام من العلمانيين والليبراليين الذين أجلبوا بخيلهم ورجلهم، فلا كلام لنا معهم في هذه القضية على الخصوص، ذلك أن هؤلاء لا تعنيهم قضية التطور التِّقني والتكنولوجي في قليل ولا كثير، وإنما مرادهم الحقيقي: هو أن تشيع الفاحشة في المجتمع، تحت ما يسمونه سفهًا وغباءً "الحرية"، وليسوا أحقَّ بها وليسوا أهلها.

وإن شئت شاهدًا، فانظر كم تأخذ قضايا تنمية الوطن والنهوض التِّقني به في مقالاتهم وأعمدة صحفهم ومنتدياتهم التي يكتبون فيها، وهم لا يطرقون هذا الباب إلا قليلاً، وإذا طرقوه لم يحسنوا الكلام فيه، كما لا يحسنونه في غيره من الأبواب، وإنما يحسنون الحديث فحسب، ويطيب لهم الكلام، وتأخذهم الحميَّة والنخوة في معارضة أحكام شرع ربِّ العالمين بآرائهم الفاسدة وأذواقهم السمجة.

ولو فُرِض - عياذًا بالله - الإعلان عن افتتاح "مرقص" أو "ملهى ليلي" برعاية الدولة، لقاموا في مؤازرة ذلك قيامًا عظيمًا بكلِّ ما أوتوا من قوة، ولو فرض أن الحكومة تبنَّت إنشاء جامعة أخرى بتقنيات أكبر مائة مرة من تلكم الجامعة التي يدور حولها الجدل الآن، وحاضر فيها كِبار الأساتذة في معاهد البحث العلمي في العالم الغربي، ولكنها تبنَّت السير في نفس الطريق المألوف من منع الاختلاط ونحو ذلك - لما ألقوا لها بالاً، ولا عناهم هذا الأمر أصلاً، ولما وجدتَ له صدًى في صحفهم ومنتدياتهم؛ لأن قضية التطور التِّقني والتكنولوجي لا تشغلهم، إنما يشغلهم الفسوق والعصيان ينوحون عليه إذا لم يجدوه، ويبحثون عنه حتى يستخرجوه، فلا أقرَّ الله لهم عينًا، ولا حقق لهم منالاً؛ فهم حقًّا أعداء نهضتنا وتطورنا، وسبب رجعيتنا وتخلُّفنا.


--------
مقالة لأخيكم نشرتها الألوكة على هذا الرابط
http://www.alukah.net/Culture/0/20128/