ثم أخذ في سرد كلام ركيك لا يهمنا منه شيء هنا، سوى عبارة جميلة وهي قوله: (بل إن الحق إنما يعرف بالنظر والبحثوالإتيان بالأدلة القوية على كل حكم يدعىصوابه وحقيته. هذا هو المرجع الوحيدعندنا، لا اعتبار للاسم إلا من حيث دلالته على هذا الأمر)
وهذه كلام جميل، وأجمل منه العمل به. لكن تقدم معك أن عمدة الرجل فيما يقول ويعتقد مجرد الدعاوى، وسيأتي معك مزيد بيان وتأكيد لذلك. فليته إذ ادعى معرفة الحق عن طريق الدليل، جابهنا ولو بالدليل الضعيف لنناقشه فيه ونبين أنه ليس بدليل فضلاً عن يكون دليلاً قوياً، لكنه لا يزال يذكرى دعوى إثر أخرى، حتى انتهت رسالته إلى دعواه أن شيخ الإسلام ليس من أهل السنة. فالدعوى التي بدأ بها رسالته، هي هي التي ختم بها رسالته، من دون أن يتخلل ذلك ذكر البينة.
والدعاوى إن لم تقيموا عليها *** بينات أبناؤها أدعياء
ثم قال : (واعلمأن الأصل في التسمية -بأهل السنةوالجماعة - أن كل من اندرج فيها فيجب أن يكون متفقا مع صاحبه في الأصولالكلية ، ونحن نقصد هنا الأصول الكلية للعقائد)
فانظر إلى هذا الكلام ما أركه وأسمجه؛ فما المقصود بالصاحب في قوله (متفقاً مع صاحبه) وإلى من يعود الضمير المضاف إليه في (صاحبه) ؟ !
إن قال : قصدت أن من يدعي أنه من أهل السنة فيجب أن يوافق أهل السنة في الأصول الكلية التي هي العقائد.
قيل له : مع أن عبارتك السمجة المتقدم ذكرها لا تعطي هذا، إلا أنك لم تذكر عقائد أهل السنة ولو على وجه الإجمال حتى نستطيع أن نميز أن مدعي الإسم موافق لأهل السنة أم لا عن طريق مقارنة عقيدته بعقيدتهم. ولكن اكتفيت بتعريف أهل السنة بأنهم طائفة اجتمعت على أصول وأقوال.
وقال بعد ذلك : (فلو قلنا إن كلا من الفرقتين يطلق عليها اسم أهل السنة والجماعة، للزمنا قطعا أننقول إنهما متفقتان على أصول العقائد، ولكن إذا كانت كل من هاتين الفرقتين قائلةبأصول مخالفة للأخرى، فكيف يصح من عاقل أن يقول إنهما مندرجتان تحت اسم واحد،ويجمعهما حكم واحد)
قد تقدم معك الكلام على اندراج الفريقين تحت الإسم الواحد، وتقدم معك تعريفه لأهل السنة بقوله (إن اسمأهل السنة والجماعةأطلق في التاريخ على طائفة من الناس اشتركوا في أصول معينة،وأجمعوا على أقوال محددة) وبينا أنه على هذا التعريف فالسلفيون والأشاعرة يندرجان تحت إسم أهل السنة؛ لأن السلفيين طائفة من الناس اشتركوا في أصول معينة، وأجمعوا على أقوال محددة، فتحقق فيهم ما جعله فودة مفهوماً لأهل السنة، كما أن الأشاعرة كذلك طائفة من الناس اشتركوا في أصول معينة وأجمعوا على أقوال محددة، فيكونون هم أيضاً محققين لمفهوم أهل السنة بحسب ما ذكره فودة. فاجتمعت الطائفتان تحت مسمى واحد. كما أبنا لك أن كل طائفة في الدنيا لها أقوال وأصول محددة مجمعة عليها هي أيضاً داخلة تحت هذا المفهوم.
لكن إذا فسرنا إسم أهل السنة والجماعة بما قدمته سابقاً أمكن أن يقال : (أنه لا يجوز أن يجتمع السلفيون والأشاعرة تحت هذا الأسم) على أن المنازعة في هذا أيضاً ممكنة، بأن يقول قائل: إن الإتفاق بين الأشاعرة والسلفيين أكثر من الإختلاف، فإنهم متفقون على إثبات الصفات للذات وأنها ليست هي الذات ولا غيرها، وعلى خلق أفعال العباد والشفاعة وعذاب القبر وأكثر مسائل الإيمان والنبوات وغير ذلك، والخلاف بينهم هو كالخلاف بين الأشاعرة أنفسهم وبين السلفيين أنفسهم، فلا يؤثر في صحة إطلاق الإسم عليهم، فهم جميعاً أهل السنة والجماعة.
ومع أن هذه الدعوى خطأ بلا شك، لكن ليس بإمكاني أن أدفعها دفعاً كلياً عند من يجعل ذلك اصطلاحاً له ولمن وافقه لما علم من أنه لا مشاحاة في الإصطلاح.
ثم أراد أن يبين عدم دخول الفريقين تحت مسمى واحد، وهو يقصد مسمى أهل السنة لكنه لا يحسن التعبير، فذكر مسألة الجسمية ولوازمها، وهي آخر رسالته، ثم أتبعها برسالة إلى الميداني ولا تهمني.
وننبه هنا قبل النظر فيما ذكره فودة، أنه لمعرفة الصواب من الخطأ لا بُدَّ أولاً من تصحيح النقل عن كل واحد من الفريقين ومقارنته بعد ذلك عما جاء في الكتاب والسنة وما جاء عن السلف الأول والأئمة المشهود لهم بسلامة الاعتقاد.
قال فودة : (إن أصلالخلاف في العقائد بين هاتين الفرقتين: هي الأمور التي تتعلقبالذات الإلهية، وخصوصا التشبيه والتجسيم، أي هل يجوز نسبة بعض صفات الأجسام إلىالله تعالى أو لا يجوز ، وهذا الأصل الكبير تفترق عليه الفرق كما هو معلوم عندالمطلعين)
أقول: هذا جهل وسوء عرض، فإن الجسم يختلف معناه بين أهل اللغة والمتكلمين اختلافاً كثيراً.
أما في اللغة فهو الجسد والجثة والجثمان، ونحو ذلك. لذا لا تسمي العرب الريح والنار والهواء والروح والنفس جسماً. وهذه كلها أجسام عند المتكلمين سوى الروح والنفس، فهم مختلفون فيها.
وقال بعض المتكلمين: الجسم هو القائم بنفسه. وقالوا : بل هو الشيء والذات. وقال قومٌ منهم : هو الواجب. وقال قوم منهم: هو الذاهب في الأبعاد الثلاثة، وقال قوم منهم: بل الذي يصح فرض ذلك فيه. وقال قوم: هو المؤلف مطلقاً، أقوال أخرى كثيرة. ثم جعلوا لكل تعريف لواز تلزمه.
والجسم بمعنى القائم بنفسه والذات والشيء متفق على إثبات معناه بين السلفيين والأشاعرة، كما أنه بمعنى الجسد والجثمان متفق على نفيه بين السلفيين والأشاعرة.
فكان على فودة أن يبين ما هو الجسم الذي اختلفت الأشاعرة والسلفيون على إثباته.
وفي الحقيقة، الرجل يعلم أنه لا خلاف بين الأشاعرة والسلفيين حول وصف الله جل وعلا بأنه جسم، لكون الجميع ينكر هذه التسمية وإن اختلف سبب الإنكار، وإنما الاختلاف في بعض الصفات التي يرى الأشاعرة أنها من لوازم الجسمية كالعلو والحد والمكان والجهة والنزول والمجيء وغير ذلك مما سيأتي لاحقاً. لكنه أراد التشنيع.
وقد شرع فودة بعد هذا الكلام في بيان موقف الأشاعرة والسلفيين من التجسييم، دون أن يبين ما هو مذهب أهل السنة في هذا الباب ، وذلك بأن ينقل عمن اتفق الأشاعرة والسلفيون على إمامتهم في السنة كالصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان كالثوري ومالك وابن عيينة وحماد بن سلمة وحماد بن زيد ونعيم بن حماد والشافعي وأبي نعيم وأحمد وإسحاق والبخاري ومسلم والرازييين وأبي داود والترمذي والنسائي وغيرهم مما لا يأتي عليه العد. فينقل جملة قول هؤلاء إما على سبيل التفصيل مكتفياً بعدد لهم شأن، أو ينقل قول جملتهم عن طريق نقل إمام معتبر متفق على إمامته وجلالته في السنة بين الفريقين كابن خزيمة والآجري واللألكائي والصابوني والسمعاني ونصر بن إبراهيم المقدسي. وبعد ذلك ينظر في أقوال السلفيين والأشارعة ويقارنها بأقوال من تقدم من أهل السنة، فمن وافقهم فهو منهم، ومن خالفهم فبالعكس.
لكنه لم يفعل ذلك، واقتصر على الكلام في مسألة التجسيم بقلة أمانة مع جهل كثير، ثم حكم هو بأن الصواب مع الأشاعرة ـ وهو منهم ! ـ وعاب شيخ الإسلام وسب وشتم.
وقبل الكلام في المسائل التي أثارها فودة، وهي التجسيم ولوازمه، أذكر عقيدة أهل السنة والجماعة في علم الكلام لانبناء مسألة التجسيم عليها.
تحت عنوان : بيان رأي الأشاعرة في التجسيم قال فودة: "والمقصود من التجسيم كما هو معلومهو القول بأن الله تعالى جسم أو أن له صفات الأجسام كالحيز والمكان والحد والمقداروالجهة والانتقال من مكان إلى مكان او الانتقال من حيز إلى آخر إلى غير ذلك منالصفات الخاصة بالأجسام"
أقول: إعلم أن الكلام فيها هو فرع الكلام عن دليل الحديث وملخصه أن الأجسام لا تخلوا من الحوادث وما لا يخلو من لحوادث فهو حادث، فالأجسام حادثة.
لذا نفروا من وصف الله جل وعلا بأنه جسم وإلا لزم عندهم حدوثه. لكن لم يقصروا على هذا، فأرادوا أن يعرفوا ما هو الجسم، فقال الأشاعرة: هو المؤلف من الجواهر، وفسروا الحوادث بالأعراض، ثم رأوا أن وصف الله جل بأن له وجهاً ويدين وعينين على الحقيقة يقتضي التأليف، وإذا تألف فهو جسم، والجسم حادث، والله ليس بحادث، فنفوا هذه الصفات وتأولوا ظواهر النصوص.
ثم رأوا أن الحركة والسكون حادثة وأن ما قامت به الحوادث فهو حادث، فأنكروا مجيء الله جل وعلا يوم القيامة على ما جاء به الكتاب، وأنكروا نزوله في الثلث الأخير من الليل واستقراره على العرش وغير ذلك، وإلا قامت به الحوادث فيكون حادثاً.
ورأوا أن الجسم إذا قدر معه آخر فلا بُد أن يكون في جهة منه، وتلك الجهة حادثة لجواز انتقاله إلى جهة أخرى منه، فأنكروا أن يكون الله جل وعلا بجهة فوق ... إلى آخر هرائهم المبني على هذا الدليل.
وجعلوه أصلاً لهم يعرضون عليه الكتاب والسنة، فما وافقه قبلوه، وما خالفه ردوه بدعوى أنه خالف الدليل العقلي وهو يقين، والدليل النقلي ظني. لكنهم لا يجرؤون على رد النصوص صراحة، فيلجؤون إلى التأويل وإخراج الألفاظ عن ظاهرها الذي تدل عليه، ولا أريد بالظاهر هنا الراجح من المعاني، بل هذا وما دلت عليه نصاً لا يحتمل غيره
أما السلف الأول فقد أنكروا الاستدلال على حدوث العالم بهذا الدليل. لا أقول أنهم سكتوا عنه وتكلموا بغيره، أو أن لهم قولان أحدهما الاستدلال بالنصوص والآخر الإستدلال بالجواهر والأعراض، بل تكلموا فيه بالذم له ولأهله.
وللنقل عن الأئمة المتفق على صدقهم في النقل قول السلف في هذا الدليل:
قال الإمام أبو المظفر السمعاني في (الإنتصار لأصحاب الحديث) صفحة 102 : "وقالوا ـ وهو الأصل الذي يؤسسه المتكلمون والطريق الذي يجعلونه قاعدة علومهم ـ : "من لم يحكم هذا الأصل لم يمكنه إثبات حدث العالم وذلك مسألة العرض والجوهر وإثباتهما. فإنهم قالوا: إن الأشاء لا تخلوا من ثلاثة أوجه: إما أن يكون جسماً أو عرضاً أو جوهراً. فالجسم ما اجتمع من الإفتراق. والجوهر ما احتمل الأعراض. والعرض ما لا يقوم بنفسه وإنما يقوم بغيره ... وهذا أصلهم الثاني الذي أدى إلى رد الأخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومثل هذا كثير يأتي بيانه.
ولهذا قال بعض السلف : (إن أهل الكلام أعداء الدين) لأن اعتمادهم على حدسهم وظنونهم وما يؤدي إليه نظرهم وفكرهم، ثم يعرضون عليه الأحاديث: فما وافقه قبلوه، وما خالفه ردوه، على ما سبق بيانه.
وأما أهل السنة ـ سلمهم الله ـ فإنهم يتمسكون بما نطق به الكتاب ووردت به السنة، ويحتجون بالحجج الواضحة، والدلائل الصحيحة على ما أذن فيه الشرع وورد به السمع، ولا يدخلون بآرائهم في صفات الله تعالى، ولا في غيرها من أمور الدين، وعلى هذا وجدوا سلفهم وأئمتهم" انتهى.
وقال صفحة 106 : "وقد علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدعهم في هذه الأمور إلى الإستدلال بالأعراض والجواهر وذكر ماهيتهما، ولا يمكن لأحد من الناس أن يروي في ذلك عنه ولا عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم من هذا النمط حرفاً واحداً فما فوقه، ولا في طريق تواتر ولا آحاد، فعلمنا أنهم ذهبوا خلاف مذهب هؤلاء وسلكوا غير طريقهم، وأن طريقهم هذا طريق محدث مخترع، لم يكن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسلوكه يعود عليهم بالطعن والقدح ونسبتهم إلى الجهل وقلة العلم في الدين واشتباه الطريق عليهم"
وهذا الكلام منه رحمه الله إنما نقله عن الخطابي الشافعي من (الغنية عن الكلام وأهله) فهذان إمامان شافعيان ينقلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته وأهل السنة أنهم لم يسلكوا هذا الطريق. ولم يكتفيا بذلك حتى يُقال: إن لأهل السنة قولان. بل ذماه وبينا أن أهل السنة يسلكون طريقاً غيره، فإذا كان أهل السنة لا يقولون بهذا الكلام، فالقائلون به ليسوا من أهل السنة كما هو واضح.
وهكذا قال الإمام أبو القاسم الأصبهاني الشافعي في (الحجة في بيان المحجة) 1/99 : "أنكر السلف الكلام في الجواهر والأعراض، وقالوا: لم يكن على عهد الصحابة والتابعين رضي الله عن الصحابة ورحم التابعين، ولا يخلوا أن يكونوا سكتوا عن ذلك وهم عالمون به فيسعنا السكوت عما سكتوا عنه، أو يكونوا سكتوا عنه وهم غير عالمين به فيسعنا أن لا نعلم ما لم يعلموه، والحديث الذي ذكرناه يقتضي أن من تكلم فيه الآخرون من ذلك ولم يتكلم فيه الأولون يكون مردوداً"
وقال الإمام محمد بن طاهر المقدسي صاحب (صفوة التصوف) نقلاً عن الإمام الخطابي: "إنا لا ننكر أدلة العقول والتوصل بها إلى المعارف، ولكنا لا نذهب في استعمالها إلى الطريقة التي سلكتموها في الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها على حدث العالم وإثبات الصانع ... وإنما هو شيء أخذتموه عن الفلاسفة، وإنما سلكت الفلاسفة هذه الطريقة لأنهم لا يثبتون النبوات ولا يرون لها حقيقة" (الحجة على تارك المحجة) 2/404-406.
أما ذم الكلام عن السلف فلا يحصر إلا بمشقة، وهو أول ما نذكره من الفروق بين الأشاعرة وأهل السنة:
قال أبو يوسف : ( من طلب العلم بالكلام تزندق )، ونقل هذا عن الإمام مالك رحمه الله.
وقال الإمام مالك : ( لو كان الكلام علماً لتكلم فيه الصحابة والتابعون كما تكلموا في الأحكام والشرائع، ولكنه باطل يدل على باطل ) (شرح السنة) للبغوي 1/217
وقال الإمام الشافعي : ( ما ارتدى أحد بالكلام فأفلح )
وقال : ( حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم في العشائر والقبائل ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام )
وقال الإمام أحمد : ( لا يفلح صاحب كلام أبدا ولا يرى أحد نظر في الكلام إلا في قلبه دغل )
وعنه أنه قال : ( أئمة الكلام زنادقة )
وقال أبو عمر بن عبد البر : ( أجمع أهل الفقه والآثار من جميع أهل الأمصار أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ لا يعدون عند الجميع في طبقات العلماء وإنما العلماء أهل الأثر والمتفقه فيه) (جامع بيان العلم وفضله) 2/942.
وأفتى ابن خويز منداد المالكي بإحراق كتب الكلام.
وقال أحمد بن إسحاق المالكي : ( أهل الأهواء والبدع عند أصحابنا هم أهل الكلام فكل متكلم من أهل الأهواء والبدع أشعريا كان أو غير أشعري لا تقبل له شهادة ويهجر ويؤدب على بدعته فإن تمادى عليها استتيب منها)
وفيما تقدم عن الخطابي والسمعاني وأبو القاسم الأصبهاني وأبو طاهر المقدسي ما يدل على نهي السلف الأول عن الخوض في الكلام بالجواهر والأعراض، كما نص بعض من تقدم على ذم دليل الحدوث الذي يعتمده المتكلمون في إثبات الخالق وحدوث العالم.
نكتفي بهذا، وإلا فكلامه في ذم الكلام كثير جداً يعسر حصره، إن لم يتعذر.
ولا خلاف بين السلفيين في ذمه وعدم الاعتماد عليه في معرفة العقائد ولا غيرها، ولا حاجة إلى النقل فيه إذ الخصم معترف لهم بهذه الفضيلة، إلا أننا نقل كلام شيخ الإسلام رحمه الله باعتباره رأس الطائفة عند الجهمية اليوم.
قال شيخ الإسلام : (ودلائل الجهمية والنفاة : هو استدلالهم بدليل الجواهر والأعراض فإنهم زعموا أن الأعيان المشاهدة كالسماوات والأرض مركبة من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة وأن المركب مسبوق بجزئه ومفتقر إلى مركب يركبه فيكون محدثا وممكنا وما قام بها من الصفات والحركات أعراض والأعراض - أو بعضها - حادثة وما كان شخصه حادثا وجب أن يكون نوعه حادثا فيمتنع وجود حوادث لا تتناهى قالوا : بهذا عرفنا أن السماوات مخلوقة وبذلك عرفنا أن الله موجود فلزمهم على ذلك أن ينفوا صفات الله وأفعاله وذلك باطل شرعا وعقلا ولم يكن ما أقاموه دليلا صحيحا فلا هم عرفوا الحق بدليل صحيح قويم ولا هم نصروا بميزان مستقيم ولكنهم قد يقابلون الفاسد بالفاسد)
(درء تعارض العقل والنقل)
يقول العضد الأيجي في (المواقف) صفحة 4 : ( وإن أرفع العلوم وأعلاها، وأنفعها وأجداها، وأحراهما بعقد الهمة بها وإلقاء الشراشر عليها، وادآب النفس فيها، وصرف ا لزمان إليها، علم الكلام)
وقال السعد التفتازاني في (شرح العقائد النسفية) صفحة 2 من الطبعة الهندية : ( فإنى مبنى علم الشرائع والأحكام، وأساس قواعد عقائد الإسلام، هو علم التوحيد الموسوم بعلم الكلام، المنجي من غياهب الشكوك وظلمات الأوهام )
وقال : (وبالجملة هو أشرف العلوم لكونه أساس الأحكام الشرعية ورئيس العلوم الدينية)
ومن ذلك قول بعضهم:
أيها المبتدي لتطلب علماً *** كل علمٍ عبدٌ لعلم الكلام
تطلب الأصل كي تصحح فرعاً *** لم أغفلت منزل الأحكام
وذكروا أشعاراً يعيبون بها أئمة الإسلام الناهين عن علم الكلام منها:
عابوا الكلام أناس لا خلاق لهم *** وما عليه إذا عابوه من ضرر
ما ضر شمس الضحى في الأفق طالعة *** أن لا يرى ضوؤها من كان ذا بصر
كذا قال !
عاب الكلامَ خيار الخلق قاطبة *** المقتدين بنص الوحي والأثرِ
أثنى الإله عليهم في مُنَزَّله *** وأكد المدح خير الخلق من مضرِ
وأجمع الناس أن الخير وصفهمُ *** إلى انقضاء ثلاث صح في الخبر
والمُقْتَدِي بهمُ من غير ما حدثٍ *** ولم يشب دينه بعقيدة نُكُرِ
ذموا الكلام وذموا من يقول به *** وحذروا الخلق مما فيه من ضرر
لم يجعلوا دين أفلاطون دينهمُ *** ولا أرسطو وحادوا عن خطى الكُفُرِ
ولا الرئيس ولا الثاني معلمهم *** ولا مخانيثهم المنكري القدرِ
والأشعرية أفراخٌ لهم نكروا *** قول المهيمن ربي باري الصور
وأنكروا قول خير الخلق قاطبة *** المجتبى المصطفى من سائر البشر
قالوا ظواهر لا معنى يُراد بها *** قالوا يُرادُ بها معناً ولا ندري
قالوا اصرفوها وقولوا ما ظواهرها *** مرادة وادفنوها أعمق الحفر
وحَذِّرُوا الناس منها لا يقال بها *** قولوا الظواهر كفرٌ ظاهرٌ قذر
قولوا تعارض قول الله في سورٍ *** وقول أحمد المختار في الزُّبُرِ
مع عقولٍ لنا قالت أوائلنا *** هي الأصول لوحي الله والخبر
فرَدُّها ردُّها، خابت وخاب بكم *** من قالها قَولة أسوى من البَعَرِ
جعلتموا قولكم أصلاً يُرد به *** قول الإله أما خفتم لظى سقرِ
هذا الكلام الذي عابت أوائلنا *** من صالحي الخلق هم كالأنجم الزهر
عودوا إلى قولهم وانسوا مقالتكم *** لا ترذلوا قولهم يا أمة البقرِ
لو كان دينكم حقاً لقال به *** خير القرون ألو الأحلام والبصر
ما ضرهم قولكم: (علم الكلام هدى) *** إلا كما ضر مدح البعر بالدرر
وبهذا يتبين لك أي الفريقين أولى بالسلف الصالح واسم (أهل السنة)
موقف السلفيين من الكلام في الجسم
لا خلاف بحمد الله بين السلفيين بعدم الكلام في الجسم نفياً وإثباتاً لعدم ورود النصوص بها، وهم وقافون عندها، ولا ينكر عليهم ذلك أحد، وإنما يزعمون أن السلفيين يقولون بمقالات لازمها التجسيم لا أنهم يصرحون به.
وهذا عندنا باطل فإن ما يجعلونه من لوازم التجسيم مبني على دليل الحدوث المتقدم ذكره، خابت وخاب القائل بها. ولسنا بحمد الله بعد إثبات ما أثبته الله لنفسه في كتابه وعلى لسان نبيه ممن يهتم بهذه المقالة هل وافقت أو خالفت، ولو تحققنا أن ما جاء في الكتاب والسنة يخالف ما جاء في برهان الحدوث ما زادنا ذلك إلا علماً ببطلانه.
لكن هنا تهمة اتهم بها فودة شيخ الإسلام حيث قال : (ولنستمع الآن إلى بعض ما يقوله ابن تيمية في هذا الباب : قال في أساس التقديس : "وكذلك سائر لوازم هذا القول مثل كونه ليسبجسم ولا متحيز ونحو ذلك، لم يقل أحد من العقلاء إن هذا النفي معلومبالضرورة"
ثم قال في نفس الصفحة : "مما يبين أن هذهالقضية حق أن جميع الكتب المنزلة من السماء وجميع الأنبياء جاءوا بما يوافقها لابما يخالفها ، وكذلك جميع سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم يوافقونمقتضاها لا يخالفونها. ولم يخالف هذه القضية الضرورية من له في الأمة لسان صدق" هذا هو ما يقوله ابن تيمية ، إن كون الله تعالى جسما هو الذي جاءتبه الشريعة بل وجميع الأنبياء ولم يخالف في هذا أحد من العقلا المعتد بهم، وكلامههذا محض كذب على الشريعة وعلى العقلاء في آن واحد)
أقول: أنظر مقدار دين الرجل !
السؤال: قول شيخ الإسلام رحمه الله (وكذلك) معطوف على ماذا؟
قال شيخ الإسلام رحمه الله : "والمقصود أن القول بوجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه لم يقل أحد من العقلاء أنه معلوم بالضرورة، وكذلك سائر لوازم هذا القول مثل كونه ليسبجسم ولا متحيز ونحو ذلك، لم يقل أحد من العقلاء إن هذا النفي معلومبالضرورة، بل عامة ما يُدَّعى في ذلك أنه من العلوم النظرية، والعلوم النظرية لا بُدَّ أن تنتهي إلى مقدمات ضرورية"
أين في هذا الكلام ما يدل على قول شيخ الإسلام رحمه الله بالجسمية ؟
ليس في كلامه سوى أن وجود موجود لا في داخل العالم ولا خارجه ليس من العلوم بالضرورية، وأن ما يجعلونه من لوازم القول بوجود موجود على هذه الصفة هو أيضاً ليس من العلوم الضرورية. وأن من أثبت موجوداً لا داخل العالم ولا خارجه وأنه ليس بجسم ولا متحيز يصرح بأن هذا من العلوم النظرية لا العلوم الضرورية، وقد صرح بذلك غير واحد كالسنوسي في بداية (أم البراهين)، بل يكفي في إثباته أنا لا نجد ذلك في نفوسنا، ولو كان ضرورياً لاشترك فيه كافة العقلاء.
وهذا لا خلاف فيه، وإلا فلينقل لنا فودة عمن زعم أن هذه القضية ولوازمها من العلوم الضرورية.
ثم قال شيخ الإسلام " مما يبين أن هذهالقضية حق أن جميع الكتب المنزلة من السماء وجميع الأنبياء جاءوا بما يوافقها لابما يخالفها ، وكذلك جميع سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم يوافقونمقتضاها لا يخالفونها. ولم يخالف هذه القضية الضرورية من له في الأمة لسان صدق، بل أكثر أهل الكلام والفلسفة يقولون بموجبها، وإنما خالفها طائفة من المتفلسفة، وطائفة من المتكلمين ..."
فقوله: (مما يبين أن هذه القضية) يريد بالقضية ما تقدم من أن القول بموجود لا داخل العالم ولا خارجه ليس من العلوم الضرورية، لا ما يلزم من ذلك من نفي الجسمية والتحيز، أولاً: لأن الكلام مع الرازي إنما هو في هذه القضية خاصة، وثانياً: لأنه استدل بقول من ينفي الجسمية والتحيز لتصحيح دعواه فقال: "يبين ذلك أن الذين قالوا : ليس هو جسم ولا متحيز تنازعوا بعد ذلك: هل هو فوق العالم ، أم ليس هو فوق العالم، فقال طوائف كثيرة: هو فوق العالم، بل هو فوق العرش، وهو مع هذا ليس بجسم ولا متحيز" (نقض التأسيس) صفحة 6.
وإنما ذكر أن نفي الجسمية والتحيز ليس بمعلوم بالضرورة استطراداً لكونه من لوازم هذه القضية كما صرح به، وما يلزم عن النظري ليس بضروري.
وهذا المقدار قد جاء كتاب الله جل وعلا بإثباته بما لا يُحْصى إلى بكلفة، بل ادعى الإمام الألوسي رحمه الله أن كون الموجود إما في داخل العالم أو خارجه مما يُعْلَمُ بالضرورة وعبارته : (وقد علم كل العقلاء بالضرورة أن ما كان وجوده كذلك فهو إما داخل العالم وإا خارج عنه وانكار ذلك انكار ما هو أجلى البديهيات فلا يستدل بدليل على ذلك إلا كان العلم بالمباينة أظهر منه وأوضح وإذا كان صفة الفوقية صفة كال لا نقص فيها ولا يوجب القول بها مخالفة كتاب ولا سنة ولا اجماع كان نفيها عين الباطل لا سيما والطباع مفطورة على قصد جهة العلو عند التضرع إلى الله تعالى) انتهى (روح المعاني) 7/115.
وعلى فرض أنه قصد الجسمية والتحيز فإنما أراد بذلك الجسم والمتحيز بمعنى المحايث فقط، لأنه يتكلم عن لازم القول بموجود لا داخل العالم ولا خارجه، لا على مطلق الجسم.
لكن الرجل هذا فيه شبه بالرافضة، إذ يرى جواز الإنتصار للمذهب بالتدليس، فسحبانك اللهم.
ثم هب أن شيخ الإسلام صرح صراحة بالجسمية وقال أريد الجسم المعروف في اللغة، وهو الجثة والجسد؛ فإن الكلام إنما هو بين طائفتين هم السلفيون ـ أو التيميون بحسب تعبير فودة ـ والأشاعرة. فهل وجد في كتب السلفيين التصريح بالجسمية وأنه معتقد عامتهم حتى يصح أن يجعل قول شيخ الإسلام قولاً لجميعهم ويقابل به قول الأشاعرة ؟
نعود إلى موقف السلفيين من الجسمية فنقول: لا يطلق السلفيون لفظ الجسم على الله جل وعلا لا نفياً ولا إثباتا، لكن ينظرون في معناه عند قائله، فإن كان صحيحاً أثبتوا المعنى دون اللفظ، كقول الكرامية والهشامية الجسم هو القائم بنفسه أو ا لموجود أو الشيء، فيثبتون هذا المعنى وينكرون عليه إطلاق اللفظ، وكقول الأشاعرة أن الجسم هو المؤلف من الجواهر المفردة ، فإن السلفيون ينكرون ذلك لفظاً ومعنى، ولا يسلمون بوجود الجسم بهذا المعنى أصلاً.
فهم من هذه الجهة موافقون للسلف الأول في عدم الكلام في الجسم والجسمية باصطلاح المتكلمين لخلو الكتاب والسنة عن الكلام فيه.
وخاض الأشاعرة فيما نهى عنه السلف وتركوا الكلام فيه من جسم وجوهر وعرض وغري ذلك.
يتبع .....