في بيان النوع الثاني من نوعي التوحيد وهو توحيد الطلب و القصد و أنه معنى لا إله إلا الله
هذا و ثاني نوعي التوحيد ... إفراد رب العرش عن نديد
أن تعبد الله إلها واحدا ... معترفا بحقه لا جاحدا
هذا أي الأمر و الإشارة إلى ما تقدم من تحقيق النوع الأول من نوعي التوحيد و ثاني نوعي التوحيد هو إفراد رب العرش عن نديد شريك مساو وتفسير ذلك هو أن تعبد الله سبحانه و تعالى إلها حال من لفظ الجلالة واحدا لا شريك له في إلهيته كما لا شريك له في ربوبيته و أسمائه و صفاته فإن توحيد الإثبات هو أعظم حجة على توحيد الطلب و القصد الذي هو توحيد الإلهية و به احتج الله تعالى في كتابه في غير موضع على وجوب إفراده تعالى بالإلهية لتلازم التوحيدين فإنه لا يكون إلها مستحقا للعبادة إلا من كان خالقا رازقا مالكا متصرفا مدبرا لجميع الأمور فحيث كان متفردا بالخلق و الإنشاء و البدء و الإعادة لا يشركه في ذلك أحد وجب إفراده بالعبادة دون من سواه لا يشرك معه في عبادته أحد كما قال تعالى (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم و الذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا و السماء بناء و أنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا و أنتم تعلمون).
معترفا حال من فاعل تعبد بحقه تعالى عليك و على جميع عباده لا جاحدا و حقه عليك أن تعبده لا تشرك به شيئا، و في الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي يا معاذ أتدري ما حق الله تعالى على العباد و ما حق العباد على الله قلت الله و رسوله أعلم قال حق الله على العباد أن يعبدوه و لا يشركوا به شيئا و حق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا..).
وهو الذي به الإله أرسلا ... رسله يدعون إليه أولا
و أنزل الكتاب و التبيانا ...من أجله و فرق الفرقانا
وهو أي توحيد الإلهية الذي به الإله عز و جل أرسلا رسله من أولهم إلى آخرهم يدعون إليه أولا قبل كل أمر فلم يدعوا إلى شيء قبله فهم و إن اختلفت شرائعهم في تحديد بعض العبادات و الحلال و الحرام لم يختلفوا في الأصل الذي هو إفراد الله سبحانه بتلك العبادات، قال تعالى (وما أرسلنا قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون).
و أنزل الله عز و جل الكتاب اسم جنس لكل كتاب أنزله الله عز و جل على رسله ،و التبيانا من عطف التفسير الذي هو أعم من المفسر لأن التبيان منه المتعبد بتلاوته والعلم به وهو الكتاب ومنه المتعبد بالعمل به فقط وهو السنة و ما في معناها من أجله أي من أجل التوحيد و فرق الفرقانا إذ يقول تعالى (و قرآنا قرناه لتقرأه على الناس على مكث و نزلناه تنزيلا ).
و كلف الله الرسول المجتبى ... قتال من عنه تولى وأبى
حتى يكون الدين خالصا له ... سرا وجهرا دقه وجله
و هكذا أمته قد كلفوا ... بذا وفي نص الكتاب وصفوا
و كلف الله تعالى أي أمر أمر افتراض الرسول المجتبى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قتال مفعول كلف الثاني من عنه عن التوحيد تولى و أبى أي أعرض و امتنع حتى غاية للقتال يكون الدين خالصا له أي الله عز و جل سرا و جهرا لا معارض له ولا مشاق دقه وجله أي قليل العبادة وكثيرها وصغيرها وكبيرها قال الله تبارك وتعالى (و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة و يكون الدين لله)، و قال صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله و أني رسول الله و يقيموا الصلاة و يؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله عز و جل) .
و هكذا كما كلف صلى الله عليه وسلم بجهاد الكفار أمته المستجيبون له قد كلفوا بذا أي الذي كلف به و في نص الكتاب القرآن وصفوا أي بذلك كما قال تعالى (محمد رسول الله و الذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا..) .
فضل شهادة أن لا إله إلا الله
وقد حوته لفظة الشهادة ... في سبيل الفوز والسعادة
من قالها معتقدا معناها ... وكان عاملا بمقتضاها
في القول والفعل ومات مؤمنا ... يبعث يوم الحشر ناج آمنا
و قد حوته أي جمعته و اشتملت عليه لفظة الشهادة أي شهادة أن لا إله إلا الله فهي أي هذه الكلمة سبيل الفوز بدخول الجنة و النجاة من النار قال الله عز و جل (فمن زحزح عن النار و أدخل الجنة فقد فاز) و هي سبيل السعادة في الدارين أي طريقهما لا وصول إليهما إلا بهذه الكلمة ، و في حديث الشفاعة (..أخرجوا من النار من قال لا إله إلا الله و كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان).
من قالها أي قال هذه الكلمة حال كونه معتقدا أي عالما و متيقنا معناها الذي دلت عليه نفيا و إثباتا و كان مع ذلك عاملا بمقتضاها على وفق ما علمه منها و تيقنه فإن ثمرة العلم العمل به في القول أي قول القلب و اللسان و الجوارح قال الله عز و جل (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) مات مؤمنا أي على ذلك و هذا شرط لا بد منه فإنما الأعمال بالخواتيم ، يبعث يوم الحشر أي يوم الجمع ناج من النار آمنا من فزع يوم القيامة كما قال تعالى ( وهم من فزع يومئذ آمنون).
معنى شهادة أن لا إله إلا الله
فإن معناها الذي عليه ... دلت يقينا و هدت إليه
أن ليس بالحق إله يعبد ... إلا الإله الواحد المنفرد
بالخلق و الرزق و بالتدبير ... جل عن الشرك و النظير
فإن معناها أي معنى هذه الكلمة الذي عليه متعلق بقوله دلت بصريح لفظها وهدت أي أرشدت إليه هو أن ليس بالحق متعلق بيعبد إله هو اسم ليس و منفيها و النكرة في سياق النفي تعم و الحكم المنفي يعبد الذي هو متعلق بالحق و الاستحقاق فيخرج ما عبد بباطل و لذا سماه المشركون إلها فتسميته بذلك باطلة فلا يستحق أن يعبد فمعنى لا إله إلا الله لا معبود بحق إلا الله .
إلا الإله الواحد المنفرد بالخلق و الرزق و بالتدبير الخ وهو الله سبحانه و تعالى أي هو الإله الحق قال تعالى (قل إنما أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد القهار رب السموات والأرض وما بينهما العزيز الغفار).
شروط شهادة أن لاإله إلا الله
وبشروط سبعة قد قيدت ... وفي نصوص الوحي حقا وردت
فإنه لم ينتفع قائلها ... بالنطق إلا حيث يستكملها
وبشروط سبعة متعلق بقيدت قد قيدت أي قيد بها انتفاع قائلها بها في الدنيا والآخرة من الدخول في الإسلام والفوز بالجنة والنجاة من النار وفي نصوص الوحي من الكتاب والسنة حقا وردت صريحة صحيحة فإنه إي الشأن وذلك علة تقييدها بهذه الشروط السبعة لم ينتفع قائلها أي قائل لا إله إلا الله بالنطق أي بنطقه بها مجردا إلا حيث يستكملها أي هذه الشروط السبعة ومعنى استكمالها اجتماعها في العبد والتزامه إياها بدون مناقضة منه لشيء منها .
العلم واليقين والقبول ... والانقياد فادر ما أقول
والصدق والإخلاص والمحبة ... وفقك الله لما أحبه
هذا تفصيل الشروط السبعة السابق ذكرها :
الأول العلم بمعناها المراد منها نفيا وإثباتا المنافي للجهل بذلك قال الله عز وجل (فاعلم إنه لا إله إلا الله)، واليقين أي والثانى اليقين المنافي للشك بأن يكون قائلها مستيقنا بمدلول هذه الكلمة يقينا جازما فإن الإيمان لا يغني فيه إلا علم اليقين لا علم الظن فكيف إذا دخله الشك قال الله عز وجل (إنما المؤمنون الذين امنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا..) فاشترط في صدق إيمانهم بالله ورسوله كونهم لم يرتابوا، وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال (قال رسول الله أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة ).
و الثالث القبول لما اقتضته هذه الكلمة بقلبه ولسانه وقد قص الله عز وجل علينا من أنباء ما قد سبق من إنجاء من قبلها وانتقامه ممن ردها وأباها كما قال تعالى (ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين).
و الرابع الانقياد لما دلت عليه المنافي لترك ذلك قال تعالى (ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى) ومعنى يسلم وجهه أي ينقاد وهو محسن موحد .
و الخامس الصدق فيها المنافي للكذب وهو أن يقولها صدقا من قلبه يواطئ قلبه لسانه ،ففي الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله صدقا من قلبه إلا حرمه الله على النار) .
و السادس الإخلاص وهو تصفية العمل بصالح النية عن جميع شوائب الشرك قال الله تبارك وتعالي (ألا لله الدين الخالص).
و السابع المحبة لهذه الكلمة ولما اقتضته ودلت عليه ولأهلها العاملين بها الملتزمين لشروطها وبغض ما ناقض ذلك قال الله عز و جل (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله) ، وعلامة حب العبد ربه تقديم محابه وإن خالفت هواه وبغض ما يبغض ربه وإن مال إليه هواه وموالاة من والى الله ورسوله ومعاداة من عاداه و اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم واقتفاء أثره وقبول هداه وكل هذه العلامات شروط في المحبة لا يتصور وجود المحبة مع عدم شرط منها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار).
ثم اعلم أن الأحاديث الدالة على أن الشهادتين سبب لدخول الجنة والنجاة من النار لا تناقض بينهما وبين أحاديث الوعيد التي فيها من فعل ذنب كذا فالجنة عليه حرام أو لا يدخل الجنة من فعل كذا لإمكان الجمع بين النصوص بأنها جنان كثيرة كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم وبأن أهل الجنة أيضا متفاوتون في دخول الجنة في السبق وارتفاع المنازل فيكون فاعل هذا الذنب لا يدخل الجنة التي يدخل فيه من لم يرتكب ذلك الذنب، ومن قال لا إله إلا الله بلسانه ثم أطاع الشيطان وهواه في معصية الله ومخالفته فقد كذب قوله فعله ونقص من كمال توحيده بقدر معصيته الله في طاعة الشيطان والهوى (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله).
فصل في تعريف العبادة وذكر بعض أنواعها وأن من صرف منها شيئا لغير الله
ثم العبادة هي اسم جامع ... لكل ما يرضى الإله السامع
ثم العبادة التي خلق الله لها الخلق وأخذ بها عليهم الميثاق أرسل بها رسله وأنزل كتبه ولأجلها خلقت الدنيا والآخرة والجنة والنار هي اسم جامع لكل ما يحب و يرضى مبني للمعروف فاعله الإله السامع وهو الله عز وجل من الأقوال و الأعمال الظاهرة و الباطنة والظاهرة كالتلفظ بالشهادتين و إقام الصلاة، و الباطنة كالإيمان بالله ، ومناط العبادة هي غاية الحب مع غاية الذل ولا تنفع عبادة بواحد من هذين دون الآخر .
وللعبادة ركنان لا قوام لها إلا بهما وهما الإخلاص والصدق وحقيقة الإخلاص أن يكون قصد العبد وجه الله عز وجل و الدار الآخرة كما قال تعالى (وما لأحد عنده من نعمة تجزى ألا ابتغاء وجه ربه الأعلى)، وفي الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى..)، وأما الصدق فهو بذل العبد جهده في امتثال ما أمر الله به واجتناب ما نهى الله عنه قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)، ثم اعلم أنه لا يقبل منه ذلك إلا بمتابعته الرسول صلى الله عليه وسلم فيعبد الله تعالى بوفق ما شرع، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد).
وفي الحديث مخها الدعاء ... خوف توكل كذا الرجاء
ورغبة ورهبة وخشوع ... وخشية إنابة خضوع
والاستعاذة والاستعانة ... كذا استغاثة به سبحانه
والذبح والنذر وغير ذلك ... فافهم هديت أوضح المسالك
وصرف بعضها لغير الله ... شرك وذاك أقبح المناهي
و ثبت في الحديث الذي في السنن كما سنذكره مخها أي مخ العبادة ولبها الدعاء، فعن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الدعاء هو العبادة ثم قرأ وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) .
خوف أي ومن أنواع العبادة الخوف من الله عز وجل قال الله تعالى فلا تخافوهم و خافون إن كنتم مؤمنين)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (والذي نفسي بيده لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وما تلذذتم بالنساء على الفرشات ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون).
توكل أي من أنواع العبادة التوكل على الله عز وجل وهو اعتماد القلب عليه وثقته به وإنه كافيه قال الله عز وجل وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ، كذا الرجاء أي ومن أنواع العبادة الرجاء قال الله عز وجل فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا وقال صلى الله عليه وسلم في دعاء المكروب اللهم رحمتك أرجوا فلا تكلني إلى نفسي ولا إلى أحد من خلقك طرفة، ورغبة ورهبة خشوع أي ومن أنواع العبادة الرغبة فيما عند الله عز وجل من الثواب وهي راجعة إلى الرجاء والرهبة مما عند الله من العقاب وهي راجعة إلى معنى الخوف والخشوع هو التذلل لله عز وجل قال تعالى في آل زكريا عليهم السلام إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين) ،وفي حديث الدعاء عند النوم (اللهم إني أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك وألجأت ظهري إليك وفوضت أمري إليك رغبة ورهبة إليك.
وخشية أي ومن أنواع العبادة الخشية وهي مرادفة للخوف قال الله عز وجل فلا تخشوهم و اخشون) .
إنابة أي ومن أنواع العبادة الإنابة وهي التوبة النصوح والرجوع إلا الله تعالى قال الله عز وجل (وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له).
خضوع أي ومن أنواع العبادة الخضوع وهو والخشوع والتذلل بمعنى واحد، وتقدمت الآيات والأحاديث فيه، والاستعاذة أي ومن أنواع العبادة الاستعاذة وهي الامتناع بالله عز وجل والالتجاء إليه قال عز وجل (وإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم)، وقال رسول الله (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) ، والاستعانة أي ومن أنواع العبادة الاستعانة وهي طلب العون من الله عز وجل قال الله تعالى (إياك نعبده وإياك نستعين) وفي الترمذي من حديث وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما (إذا سألت فأسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله) .
كذا استغاثة به سبحانه أي ومن أنواع العبادة الاستغاثة بالله عز وجل وهي طلب الغوث منه تعالى من جلب خير أو دفع شر قال الله عز وجل (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم ..)، ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم (يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام يا بديع السموات والأرض برحمتك أستغيث).
والذبح أي ومن أنواع العبادة الذبح نسكا لله تعالى من هدى وأضحية وعقيقة وغير ذلك قال الله عز وجل (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له)،وفي صحيح مسلم عن علي رضي الله عنه قال (حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات لعن الله من ذبح لغير الله..).
والنذر أي ومن أنواع العبادة النذر لله عز وجل قال الله تبارك وتعالى (ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم) ، وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه) .
ومن شرط النذر لله تعالى أن يكون طاعة وأن يكون مما يطيقه العبد وأن يكون فيما يملك وأن لا يكون في موضع كان يعبد فيه غير الله تعالي أو ذريعة إلى عبادة غير الله تعالي ولمن كان معلقا بحصول شيء فلا يعتقد الناذر تأثير النذر في حصوله .
أنواع أخرى من العبادات الظاهرة و الباطنة
وغير ذلك أي من العبادات الظاهرة و الباطنة ،وصرف بعضها أي شيء منها قل أو كثر لغير الله كائنا من كان من ملك أو نبي أو غيرهما كل ذلك شرك أكبر، وذاك إشارة إلى الشرك هو أقبح المناهي على الإطلاق قال الله عز وجل (ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم من دعائهم غافلون) ، وفي الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه (قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك) .
فصل في بيان ضد التوحيد وهو الشرك وكونه ينقسم إلى قسمين أكبر وأصغر وبيان كل منهما
وأول ما ظهر الشرك في قوم نوح على المشهور وقد كان بنو آدم على ملة أبيهم عليه السلام نحو عشرة قرون كما قدمنا وبه قال ابن عباس وغيره في تفسير قوله عز وجل (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين..).
ولما مات آدم عليه السلام كان وصيه شيثا عليه السلام ومضت تلك المدة التي ذكرنا والناس كلهم على شريعة من الحق ثم زين الشيطان لعنه الله لقوم نوح عبادة الأصنام وكان أول ذلك أن زين لهم تعظيم القبور والعكوف عليها وبيان ذلك ما روي البخاري رحمه الله تعالي عن ابن عباس قال في ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحي الشيطان إلى قومهم أن أنصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا ولم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنوسي العلم عبدت.
وعبد أول بني إسرائيل العجل وآخرهم عبدوا عزيزا وعبدت النصارى المسيح وعبدت المجوس النار وعبد قوم الماء وعبد كل قوم ما زينه الشيطان لهم علي قدر عقولهم .
دخول الوثنية إلى بلاد العرب علي يد عمرو بن لحي الخزاعي
والأصنام التي في قوم نوح قد نقلها إلى العرب في زمن عمرو بن لحي قبحه الله تعالي كما ذكر ذلك ابن عباس فيما رواه البخاري عنه رضي الله عنه قال أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل وسواع كانت لهذيل وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبنى غطيف بالجوف عند سبأ وأما يعوق فكانت لهمدان وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع، وكان الرجل من العرب إذا سافر فنزل منزلا أخذ أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها فاتخذه ربا وجعل الثلاثة أثافي لقدره فإذا أرتحل تركه فإذا نزل منزلا آخر فعل مثل ذلك.
أسباب تلاعب الشيطان بالمشركين في عبادة الأصنام
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في خاتمة كتابه الإغاثة: (فصل: وتلاعب الشيطان بالمشركين في عبادة الأصنام له أسباب عديدة وتلاعب بكل قوم على قدر عقولهم فطائفة دعاهم إلى عبادتها من جهة تعظيم الموتى الذين صوروا تلك الأصنام على صورهم كما تقدم عن قوم نوح عليه السلام ولهذا لعن النبي صلى الله عليه وسلم المتخذين على القبور المساجد والسرج ونهي عن الصلاة إلى القبور ، ومن أسباب عبادتها أيضا أن الشياطين تدخل فيها وتخاطبهم منها وتخبرهم ببعض المغيبات عنهم وتدلهم على بعض ما يخفي عليهم وهم لا يشاهدون الشيطان) ثم قال (فصل: ومن أسباب عبادة الأصنام الغلو في المخلوق وإعطاؤه فوق منزلته حتى جعلوا فيه حظا من الإلهية بالله تعالى وشبهوه بالله تعالى..).
أكثر شرك الأمم في الإلهية لا بجحود الصانع
والمقصود أن أكثر شرك الأمم التي بعث الله إليها رسله وأنزل كتبه غالبهم إنما أشرك في الإلهية ولم يذكر جحود الصانع إلا عن الدهرية والثنوية وأما غيرهم ممن جحدها عنادا كفرعون ونمرود و أضرابهم فهم مقرون بالربوبية باطنا كما قدمنا وقال الله عز وجل عنهم (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما).
والشرك نوعان فشرك أكبر ... به خلود النار إذ لا يغفر
وهو اتخاذ العبد غير الله ... ندا به مسويا مضاهي
والشرك الذي هو ضد التوحيد نوعان أي ينقسم إلى نوعين: فشرك أكبر ينافي التوحيد بالكلية ويخرج صاحبه من الإسلام به خلود فاعله في النار أبدا إذ تعليل لأبدية الخلود أي لكونه لا يغفر قال الله تبارك وتعالى (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما) ، وفي الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من مات يشرك بالله شيئا دخل النار ، والأحاديث في عظم ذنب الشرك وشدة وعيده أكثر من أن تحصى، والمقصود أن الشرك أعظم ما نهى الله عنه كما أن التوحيد أعظم ما أمر الله به فلم يأمر الرسل بشيء قبل التوحيد ولم ينهوا عن شيء قبل الشرك كما قدمنا بسط ذلك .
وهو أي الشرك الذي تقدم ذكره في المتن وذكر النصوص فيه في الشرح اتخاذ العبد غير الله من نبي أو ولي أو ملك أو قبر أو جني أو شجر أو حجر أو حيوان أو نار أو شمس أو قمر آو كوكب أو غير ذلك ندا من دون الله مسويا به الله يحبه كحب الله ويخافه ويخشاه كخشية الله ويتبعه علي غير مرضاة الله ويطيعه في معصية الله ويشركه في عبادة الله مضاهي به الله قال الله تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله وغير ذلك من الآيات.
يقصده عند نزول الضر ... لجلب خير أو لدفع الشر
أو عند أي غرض لا يقدر ... عليه إلا المالك المقتدر
مع جعله لذلك المدعو ... أو المعظم أو المرجو
في الغيب سلطانا به يطلع ... على ضمير من إليه يفزع
يقصده أي المتخذ ذلك الند من دون الله يقصد نده عند نزول الضر به من خير فاته أو شر دهمه لجلب الخير له أو لدفع الشر عنه أو عند احتياج أي غرض من الأغراض والحال أنه لا يقدر عليه أي على ذلك الغرض إلا المالك المقتدر وهو الله سبحانه وتعالى مع جعله أي العبد لذلك المدعو أو المعظم أو المرجو من ملك أو نبي أو ولي أو قبر أو شجر أو حجر أو كوكب أو جني في الغيب سلطانا أي يعتقد أن له سلطانا غيبيا فوق طوق البشر به يطلع أي بذلك السلطان الذي اعتقده فيه على ضمير من إليه إلى ذلك الند يفزع في قضاء أي حاجة من شفاء مريض أو رد غائب أو غير ذلك، ومن هنا يتبين أن الشرك في الألوهية يستلزم الشرك في الربوبية والأسماء والصفات .
ثم اعلم أن ما عبد من دون الله ينقسم إلى قسمين راض بالعبادة له وغير راض بها فالأول كفرعون وإبليس وغيرهما وهؤلاء في النار مع عابديهم، والقسم الثاني وهو من كان مطيعا لله وغير راض بالعبادة له من دون الله كعيسى ومريم فهم برآء ممن عبدهم في الدنيا والآخرة .
والثان شرك أصغر وهو الريا ... فسره به ختام الأنبيا
و النوع الثان من نوعي الشرك شرك أصغر لا يخرج من الملة ولكنه ينقص ثواب العمل وقد يحبطه إذا زاد وغلب وهو الريا اليسير في تحسين العمل فسره به أي فسر الشرك الأصغر بالريا ختام الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم في قوله (إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا يا رسول الله وما الشرك الأصغر قال الرياء).
ثم اعلم أن الرياء قد أطلق في كتاب الله كثيرا ويراد به النفاق الذي هو أعظم الكفر وصاحبه في الدرك الأسفل من النار كما قال تعالى ( إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا)، فإن كان الباعث على العمل هو إرادة الله والدار الآخرة وسلم من الرياء في فعله وكان موافقا للشرع فذلك العمل الصالح المقبول وإن كان الباعث على العمل هو إرادة غير الله عز وجل فذلك النفاق الأكبر ،وإن كان الباعث على العمل هو إرادة الله عز وجل والدار الآخرة ولكن دخل عليه الرياء في تزيينه وتحسينه فذلك هو الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم الشرك الأصغر وفسره بالرياء العملي، والله تعالى أعلم.
ومنه إقسام بغير الباري ... كما أتى في محكم الأخبار
أي ومن الشرك الأصغر الذي لا يخرج من الملة أقسام مصدر أقسم أي الحلف بغير الباري كالحلف بالآباء والأمهات ففي الصحيح عن عبدالله ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير في ركب يحلف بأبيه فقال (ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت).
فصل في بيان أمور يفعلها العامة منها ما هو شرك ومنها ما هو قريب منه وبيان المشروع من الرقي والممنوع منها وهل تجوز التمائم
هذه الأمور المذكورة التي يتعلق بها العامة غالبها من الشرك الأصغر لكن إذا اعتمد العبد عليها بحيث يثق بها ويضيف النفع والضر إليها كان ذلك شركا أكبر والعياذ بالله.
ومن يثق بودعة أو ناب ... أو حلقة أو أعين الذئاب
أو خيط أو عضو من النسور ... أو وتر أو تربة القبور
لأي أمر كائن تعلقه ... وكله إلى الله ما علقه
ومن يثق هذا الشرط جوابه كله الآتي بودعة هو شيء أبيض يجلب من البحر يعلق في حلوق الصبيان وغيرهم مخافة العين، أو ناب كما يفعله كثير من العامة يعلقونها من الواهنة وهو مرض العضد، أو أعين الذئاب يعلقونها يزعمون أن الجن تفر منها ومنهم، أو خيط يعلقونه على المحموم ويقرأ عليه سورة ألم نشرح ، أو عضو من النسور كالعظم ونحوه يجعلونها خرزا ويعلقونها على الصبيان يزعمون أنها تدفع العين أو وتر وكانوا في الجاهلية إذا عتق وتر القوس أخذوه وعلقوه يزعمون عن العين على الصبيان والدواب أو تربة القبور فمنهم من يأخذها ويمسح بها جلده ومنهم من يتمرغ على القبر تمرغ الدابة وهذا كله ناشئ عن اعتقادهم في صاحب ذلك القبر أنه ينفع ويضر .
لأي أمر كائن تعلقه الضمير عائد إلى ما تقدم وغيره وكله الله أي تركه إلى ما علقه دعاء عليه واعتمد عليه دون الله عز وجل فعن عبد الله بن عكيم مرفوعا (من علق شيئا وكل إليه).
ثم الرقي من حمة أو عين ... فإن تكن من خاص الوحيين
فذاك من هدي النبي وشرعته ... وذاك لا اختلاف في سنتيه
ثم الرقي إذا فعلت من حمة وهي تطلق على لدغ ذات السموم كالحية والعقرب وغيرها أو عين وهي من الإنس كالنفس من الجن وهي حق ولها تأثير لكن لا تأثير لها إلا بإذن الله عز وجل وقال الله تعالى وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم) وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إن العين حق).
فإن تكن أي الرقي من خالص الوحيين الكتاب والسنة ولا يدخل فيه غيره من شعوذة المشعبذين ولا يكون بغير اللغة العربية فذلك أي الرقي من الكتاب والسنة هو من هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان عليه هو وأصحابه والتابعون بإحسان و من شرعته التي جاء بها مؤديا عن الله عز وجل وذاك لا اختلاف في سنيته بين أهل العلم إذ قد ثبت ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله وتقريره، فعن عبد الرحمن بن الأسد عن أبيه قال سألت عائشة عن الرقية من الحمة فقالت رخص النبي صلى الله عليه وسلم في الرقية من كل ذي حمة .
أما الرقي المجهولة المعاني ... فذاك وسواس من الشيطان
وفي جاء الحديث أنه ... شرك بلا مرية فاحذرنه
إذ كل من يقوله لا يدري ... لعله يكون محض الكفر
أو هو من سحر اليهود مقتبس ... على العوام لبسوه فالتبس
أي أما الرقي التي ليست بعربية الألفاظ ولا مفهومة المعاني ولا مشهورة ولا مأثورة في الشرع البتة فليست من الله في شيء ولا من الكتاب والسنة في ظل ولا فيء بل هي وسواس من الشيطان أوحاها إلى أوليائه كما قال تعالى (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم)، وعليه يحمل قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود (إن الرقي والتمائم والتولة شرك)، وذلك لأن المتكلم به لا يدري هل فيه كفر أو إيمان وهل هو حق أو باطل أو فيه نفع أو ضر أو رقية أو سحر.
فتحصل من هذا أن الرقي لا تجوز إلا باجتماع ثلاثة شروط :
الأول أن تكون من الكتاب والسنة فلا تجوز من غيرهما.
الشرط الثاني أن تكون باللغة العربية محفوظة ألفاظها مفهومة معانيها فلا يجوز تغييرها إلى لسان آخر.
الثالث أن يعتقد أنها سبب من الأسباب لا تأثير لها إلا بإذن الله عز وجل فلا يعتقد النفع فيها لذاتها بل فعل الراقي السبب والله هو المسبب إذا شاء.
وفي التمائم المعلقات ... إن تك آيات مبينات
فالاختلاف واقع بين السلف ... فبعضهم أجازها والبعض كف
وفي التمائم المعلقات أي التي تعلق على الصبيان والدواب ونحوها إن تك هي أي التمائم آيات قرآنية مبينات وكذلك إن كانت من السنن الصحيحة الواضحات فالاختلاف في جوازها واقع بين السلف من الصحابة والتابعين فمن بعدهم فبعضهم أي بعض السلف أجازها يروى ذلك عن عائشة رضي الله عنها وأبي جعفر محمد بن علي وغيرهما من السلف، والبعض منهم كف أي منع ذلك وكرهه ولم يره جائزا منهم عبد الله بن عكيم وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن مسعود، ولا شك أن منع ذلك أسد لذريعة الاعتقاد المحظور لاسيما في زماننا هذا فإنه إذا كرهه أكثر الصحابة والتابعين في تلك العصور الشريفة فلأن يكره في وقتنا هذا وقت الفتن أولى وأجدر بذلك .
وإن تكن مما سوى الوحيين ... فإنها شرك بغير مين
بل إنها قسيمة الأزلام ... في البعد عن سيما أولي الإسلام
وإن تكن أي التمائم مما سوى الوحيين بل من طلاسم اليهود ونحوهم فإنها شرك أي تعلقها شرك بدون مين أي شك إذ ليست من الأسباب المباحة بل إنها قسيمة أي شبيهة الأزلام التي كان يستصحبها أهل الجاهلية ، والمقصود أن هذه التمائم شبيهة بها من البعد عن سيما أولي الإسلام أي عن زي أهل الإسلام فإن أهل التوحيد الخالص من أبعد ما يكون عن هذا وهذا .
فصل من الشرك فعل من يتبرك بشجرة أو حجر أو بقعة أو قبر أو نحوها يتخذ ذلك المكان عيدا وبيان أن الزيارة تنقسم إلى سنية وبدعية وشركية
هذا ومن أعمال أهل الشرك ... من غير ما تردد أو شك
ما يقصد الجهال من تعظيم ما ... لم يأذن الله بأن يعظما
كمن يلذ ببقعة أو حجر ... أو قبر ميت أو ببعض الشجر
متخذا لذلك المكان ... عيدا كفعل عابدي الأوثان
هذا أي الأمر ولإشارة إلى ما تقدم ومن أعمال أهل الشرك التي لا يفعلها غيرهم ما أي الذي لم يأذن الله عز وجل في كتابه ولا سنة نبيه بأن يعظما التعظيم الذي منحه إياه من لم يفرق بين حق الله تعالى وحقوق عباده فيتخذ من دون الله أندادا وهو يرى أن ذلك الذي فعله قربة وطاعة لله، وسبب هذا كله هو الإعراض عن الشريعة .
كمن يلذ ببقعة أي يعوذ بها ويختلف إليها ويتبرك بها ولو بعبادة اله تعالى عندها وتقدم تقييد ذلك بما لم يأذن به الله فيخرج بهذا القيد ما أذن الله تعالى بتعظيمه كتعظيم بيته الحرام بالحج إليه، أو حجر أو قبر ميت أو ببعض الشجر أو غير ذلك من العيون ونحوها ولو بعبادة الله عندها فإن ذلك ذريعة إلى عبادتها ذاتها كما فعل إبليس لعنه الله بقوم نوح ، متخذا لذلك المكان من القبور والأشجار والعيون والبقاع وغيرها عيدا أي ينتابها ويعتاد الاختلاف إليها كفعل عابدي الأوثان في تعظيمهم أوثانهم واعتيادهم إليها .
ثم الزيارة على أقسام ... ثلاثة يا أمة الإسلام
فإن نوى الزائر فيما أضمره ... في نفسه تذكرة بالآخره
ثم الدعا له وللأموات ... بالعفو والصفح عن الزلات
ولم يكن شد الرحال نحوها ... ولم يقل هجرا كقول السفها
فتلك سنة أتت صريحة ... في السنن المثبتة الصحيحة
ثم الزيارة أي زيارة القبور تأتي على أقسام ثلاثة زيارة سنية وزيارة بدعية وزيارة شركية فتفهموها يا أولي الإسلام، فإن نوى الزائر للقبور فيما أضمره في نفسه أي كانت نيته بتلك الزيارة تذكرة بالآخرة أي ليتعظ بأهل القبور ثم قصد أيضا الدعا أي دعاء الله عز وجل له أي لنفسه وللأموات من المسلمين بالعفو من الله عز وجل والصفح عن الزلات و مع ذلك لم يكن شد الرحال نحوها الضمير للقبور، ولم يقل هجرا أي محظورا شرعا كقول بعض السفها لما في السنن من حديث بريدة قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فمن أراد أن يزور فليزر ولا تقولوا هجرا)، فتلك الإشارة إلى النوع المذكور من الزيارة سنة طريقة نبوية أتت صريحة أي واضحة ظاهرة في السنن أي الأحاديث المثبتة في دواوين الإسلام الصحيحة سندا ومتنا، وكان الصحابة إذا أتوا قبره صلى الله عليه وسلم صلوا وسلموا عليه فحسب وكذا التابعون ومن بعدهم من أعلام الهدى.
أو قصد الدعاء من الصلاة وغيرها عند قبورهم أو نحو ذلك والتوسلا بألف الإطلاق بهم أي بأهل القبور إلى الرحمن جل وعلا عما ائتفكه أهل الزيغ والضلال فبدعة محدثة لم يأذن الله تعالى بها ضلالة كما قال صلى الله عليه وسلم (كل بدعة ضلالة).
وأما حديث الأعمى الذي يحتج به المجوزون للتوسل بالمقبور فلا حجة لهم فيه بحمد الله لو فهموا معناه لأن هذا الأعمى إنما سأل من النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء له بكشف بصره وهو حي حاضر قادر على ما سأله منه وهو الدعاء، وكان أفضل القرون يسألون الله عز وجل ويلتمسون الصالحين منهم الحاضرين عندهم أن يسألوا الله عز وجل لهم ولهم وتوسلهم إنما كان بدعائهم لا بذواتهم ولو كان ذلك عندهم جائزا أعني التوسل بالذوات لم يحتج الأعمى أن يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويطلب منه الدعاء بل كان يتوسل به في محله أينما كان .
وإن دعا المقبور نفسه فقد ... أشرك بالله العظيم وجحد
لن يقبل الله تعالى منه ... صرفا ولا عدلا فيعو عنه
إذ كل ذنب موشك الغفران ... إلا اتخاذ الند للرحمن
وإن دعا الزائر المقبور نفسه من دون الله عز وجل وسأل منه ما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل من جلب خير أو دفع ضر أو شفاء مريض أو رد غائب أو نحو ذلك من قضاء الحوائج فقد أشرك في فعله ذلك بالله العظيم المتعالي عن الأضداد والأنداد والكفؤ والولي والشفيع بدون إذنه وجحد حق الله عز وجل على عباده وهو إفراده بالتوحيد .
لا يقبل الله تعالى منه أي من ذلك الداعي مع الله غيره المتخذ من دونه أولياء صرفا أي نافلة ولا عدلا أي ولا فريضة فيعفو عنه في ذلك لأن الكافر عمله كلا شيء قال الله تعالى فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ، إذ حرف تعليل كل ذنب لقي العبد ربه به موشك الغفران أي يرجى ويؤمل أن يغفر ويعفى عنه إلا اتخاذ الند للرحمن فإن ذلك لا يغفر ولا يخرج صاحبه من النار ولا يجد ريح الجنة قال الله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء .