[JUSTIFY]
السلام عليكم

بداية ( الاجتماع ) ... علم أم هذيان عقلية مضطربة ؟

هل يصدق العقلاء بأن المضطربين عقليا يمكن أن ينفعوا البشرية باكتشافات علمية؟ وعندما يسمع الباحثون عن الحقيقة والمعرفة أن أحدهم يزعم ذلك فليس أمامهم إلا منهج التمحيص والتدقيق ولاسيما إذا أدركوا أن مضطربا كهذا لا يخرج تفكيره عن دائرة الفلسفة والتنظير ، والذي نتحدث عنه هنا ليس مصابا بالاضطراب العقلي فحسب ، بل قد حاول الانتحار غرقا في نهر السين الفرنسي أكثر من مرة ، وقبل هذا وذاك كان قد أسس خبالا فكريا ساقطا يسميه ( الفلسفة الوضعية ) اجتهد في وضعه بعد أن كفر بالنصرانية ( الكاثوليكية) بل كفر بجميع الأديان وأنكر الخالق وهو حدث لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره .

إن كفره بالأديان كلها - في سنوات عمره المبكرة - جعله يمر بهذه المراحل المتخبطة في الحياة ، خرج بعدها إلى البشرية يبشرها بدين جديد ، صاغه - كما يزعم - في إطار علمي ، يدرس نظرياته ويعمل بتطبيقاته الآن الآلاف من شباب الإسلام وأبناءه في كليات - تزعم التخصص - دون وعي بتهافته وانعدام ثمرته ، نقله إليهم أساتذتهم الذين بعثوا لاستيراد تلك المتهافتات تحت تأثير مخدر الهزيمة النفسية، وكأنهم لم يعلموا بأن ذلك المعتوه - وطلابه من بعده – لا يحمل إلا شذوذا فكريا ، صب فيه مزيجا من شخصيته المضطربة، وبعضا من (فلسفاته ) التي تعكس شذوذ المرحلة التاريخية التي عاش فيها، إنه ( أوجست كونت ) صاحب خرافة ( فيزياء الاجتماع ) التي سماها فيما بعد بـ ( علم الاجتماع ) !

ولد أوجست كونت (1798-1857) في مدينة (مونبلييه) في آخر أحداث ( الثورة الفرنسية ) ( 1789- 1799) التي نجحت في إسقاط هيمنة الكنيسة [1] المتحالفة مع النظام الملكي ، وقد سبقتها وتلتها أحداث اضطراب في المجتمع الفرنسي والأوربي بشكل عام .

(كانت عائلته شديدة التدين والتعلق بالكاثوليكية ، ونبذ الإيمان متأثرا بالوضع الثائر ضد الكنيسة في سن الرابعة عشرة ، وكان تلميذا ممتازا في الرياضيات ، فالتحق بمدرسة الهندسة بباريس ، في السادسة عشرة من عمره ، ثم لم يواصل الدراسة بسبب الظروف السياسية )[2] .

وهذا مزيد ترجمة من حياته : ( اتصل بالفيلسوف الفرنسي سان سيمون[3] وعمل سكرتيرا له لخمس سنين ( 1817-1822 ). ثم اختلف معه حول بعض القضايا الفكرية, فتركه . اشتغل بعد ذلك بإلقاء محاضرات في " فلسفة العلوم", ثم مزج بفلسفة العلوم فلسفته الوضعية واللاهوتية, وكانت محاضراته تجتذب الكثيرين من العلماء, لكنه بعد ثلاث سنوات أصيب بلوثة عقلية وانهيار عصبي , ولما شفي من مرضه عاد إلى إلقاء محاضراته, ولم يطل به الأمر حتى عاوده المرض العقلي مرة أخرى, فحاول الانتحار, لكن امرأته عنيت به حتى مرت الأزمة. وكان مرضه الثاني بسبب هيامه بامرأة عشقها حتى الجنون, ولما ماتت هذه المرأة بعد سنتين من هيامه بها أصابته هذه اللوثة التي بدا أنه شفي منها ظاهراً, بينما كانت لوثته وجنونه يعيشان معه يستقي منهما أفكاره وفلسفته, حتى كان ذلك الكم الهائل الذي جاء به الرجل من فلسفته التي أقل ما توصف به أنها فلسفة ساقطة, وفكر تافه لا يصدر إلا عن رجل مجنون ) [4]

لمحة عن أشهر هذيانه الفلسفي :

ليس حديثي هنا عن مثل هذا المضطرب بالجديد ، ولكن الأمة لا تزال بحاجة إلى أن تتبصر لتعالج وتراجع كثيرا من تطبيقات العلوم الإنسانية الوضعية ، والتي استنزفت الأعمار والأوقات ، ولم يكن لها أي أثر في إصلاح المجتمعات ، فكان لزاما أن نعيد أبناء الأمة إلى أصول تلك العلوم ، ومنشأ تفكيرها لتدرك الحقائق ، وتسعى للتغيير ، وذلك بالرجوع إلى الإصلاح المجتمعي المبني على منهج الكتاب والسنة الذي سنجد فيها معينا لا ينضب ، وهذه لمحة عن بعض هذيان ( أوجست كنت ) :

قانون الحالات الثلاثة : زعم أن العقل البشري مر منذ تاريخه الأول حتى عصر العلوم التجريبية بثلاثة حالات ( اللاهوتية – الميتافيزيقية – الوضعية ) ، نستعرضها بشيء من الإيضاح ونبين مخالفتها للواقع :

الحالة الأولى : (الحالة اللاهوتية) : يزعم ( أوجست ) أن هذه الحالة هي أول ما اعتقده الإنسان ، ومرت بثلاث مراحل :

الأولى : (المرحلة الفتشية ) وهي أن الإنسان يرى أن في مظاهر الطبيعة من حوله حياة خاصة بها غير معروفة للإنسان ، وأن لها قوى خارقة تجعلها تدير الكون وتتصرف في الأشياء ، فأخذ الإنسان في عبادتها وتقديم النذور لها ،

الثانية ( مرحلة تعدد الآلهة ) وهي التطور الثاني ، حيث أن الآلهة التي تدير هذه المظاهر الطبيعية تكون منفصلة عنها ، وهي في عالم علوي ، ولكنها متعددة .

الثالثة : ( مرحلة التوحيد ) أو (توحيد الآلهة) ، وهي جمع الآلهة المتعددة في إله واحد مفارق لكل مظاهر الطبيعة . وقد اعترف بأن اعتقاد البشرية بإله واحد للكون مفيد من الناحية العملية وأن ( ذلك أساس متين مشترك للحياة الخلقية والاجتماعية في الاجتماع الإنساني )[5]

ويرد عليه : بأن ترتيب هذه المراحل غير صحيح تاريخيا ، فالتوحيد كان أولها ، فكان الناس منذ آدم على التوحيد ، ثم انحرفت البشرية إلى الإيمان بالأصنام وبتعدد الآلهة ، ثم الاعتقاد في ذات الأشياء بأنها تنفع أو تضر ، وما جاء الرسل بعد ذلك إلا ليعيدوا البشر إلى التوحيد .

الحالة الثانية : ( الحالة الميتافيزيقية ) وفي هذه الحالة بدلا من أن يرجع الإنسان إلى العلل المتعددة المفارقة للظواهر كما في تعدد الآلهة ، أو العلة المفارقة للظواهر كما في التوحيد ، يرجع إلى البحث في العلة في ذات الأشياء ، فالإنسان في هذه الحالة يرى أن هناك قوى خفية في ذات الأشياء ، ولكنه لا يستطيع أن يفسرها . وتتضح هذه الحالة في عقيدة ( وحدة الوجود) التي ترى اندماج العلة في الظواهر ذاتها . وقد حكم ( كونت ) بفساد هذه المرحلة على المجتمع البشري لأنها تولد الأنانية والشر .

الحالة الثالثة : ( الحالة الوضعية ) أو ( الواقعية ) وزعم بأن هذه الحالة هي أفضل الحالات وآخرها ، وقد سبق المجتمع الغربي جميع المجتمعات عندما وصل إليها ، وتدل على تطور الإنسان ورقيه ، بينما كان في الحالات السابقة أقل وعيا وإدراكا ، حيث أنه أرجع علل الأشياء إلى خيال وقوى خفية ، من المستحيل إدراكها بالعقل ، وهي أما أن تكون علوية منفصلة عن ذوات الأشياء ، أو متصلة بالظواهر ، أما في الحالة ( الوضعية ) فإنه يكتفي بدراسة ظواهر الأشياء ، ويضع القوانين من خلال ما تثبته تلك الدراسات ، وهذه الحالة هي التي أفلحت في تأسيس العلم التجريبي القائم على الملاحظة والتجربة .

ويرد على ذلك بأن ( النظرة الواقعية ) قديمة ، وقد اعتنقها بعض الفلاسفة اليونانيين ، واعتنقها الدهريون الذين لا يؤمنون بأي علة خارجة مؤثرة في الطبيعة ، وأن تقلب الليل والنهار هو الذي يؤثر في الإنسان والكائنات، ويعنون بذلك المتغيرات الطبيعية التي يدركونها بعقولهم وحواسهم ، فهم يتفقون تفكيرا مع وضعية ( أوجست كونت ) التي لا ترى علة مؤثرة خارج الأشياء ولا داخلها .

ومع تطور العلم الطبيعي الآن فقد أثبت أن هناك أشياء غير مفسرة ، وإنما يتعامل العلم مع ظواهر الأشياء ، بينما يجهل كثيرا عن كنه المتغيرات التي تحدث ، كيف حدثت ؟ ولماذا حدثت ؟ أي أن العلم الوضعي لم يدرك تفسير كثير من الحقائق التي يتعاطى معها . وهذا ما جعل كثيرا من العلماء الماديين من يقر بوجود الخالق ، وبعضا من علماء الغرب من أشهر إسلامه عائدا إلى الله تعالى ، وبذلك لا مفازة ولا تناقض بين الإيمان بتأثير عالم الغيب ، وبين التعامل مع المادة ، كما كان يعتقد أوجست كونت ذلك .

كتبه التي تعكس هيامه بالحالة الوضعية :

عندما رأى هذا المختل بأن الحالة الوضعية هي أفضل الحالات وبنى عليها إنكار الإله ، قام بشرح تلك الفلسفة لمريديه في عدد من كتبه فكان منها : كتابه ( كلام عن مجمل الفلسفة الوضعية ) ، وكتابه الكبير ( دروس الفلسفة الواقعية ) الذي أنفق في تأليفه عشر سنوات من عمره (1832-1842) وهو يقع في ستة مجلدات ، وأخرج أخيرا علمه المكتشف ( علم الاجتماع ) في عام ( 1854) في كتاب ( مذهب في السياسة الواقعية ) وهو ما يسمى ( كتاب في علم الاجتماع ) .

الوضعية والقيم :

ولد ( أوجست كونت ) في زمن فتنة وافتتان : فتنة الكنيسة ، وافتتان الناس والمفكرين بالعلم التجريبي واكتشافاته ، وهذا ما جعله يكفر بالأديان كلها ، ذلك لأنه عاش في بداية حياته في أسرة كاثوليكية متدينة فعرف من خلالها جمود الكنيسة وعدائها للعلم والعلماء، وبما أنه عاصر المفكرين الملحدين مثل أستاذه سان سيمون وعاصر أحداث ما بعد ( الثورة الفرنسية) - والتي فتحت باب الحريات على مصراعيه ، فكانت تمكينا للعلماء في مواصلة أبحاثهم ، وللملحدين في تسطير إلحادهم ، وللمجرمين أيضا في تجاوز الآداب والأخلاق - رأى عند ذلك أن المرحلة الوضعية هي أفضل المراحل التي وصل إليها الإنسان ، ولكنه في الوقت ذاته عندما رأى بعض سلبيات الثورة ، أدرك أن الإنسانية لا تقوم إلا على الأخلاق والقيم ، ولا يصلح الناس إلا الآداب والمثل التي جاءت بها الأديان التوحيدية ، كما أقر بذلك في مرحلة ( التوحيد ) ، فرأى أن يخترع للإنسانية دينا يجمعها ، وأن يكون بديلا عن الدين الذي يقر بالإله ووجود الخالق ، لأن ذلك في اعتقاده مرحلة بدائية لا تتوافق مع المرحلة التي نضجت فيها العقول البشرية ، فألف لهم ( دين الإنسانية ) الذي يرى فيه أن الإنسان هو أهم شيء في الوجود ، ورأى أن يجمع الناس عليه متآلفين ومتحابين ، فأصبح رسولا لهذا الدين ، فطار برسالته المعجبون في كل مكان ، وحملها رعاع الفكر في بعض دول أوروبا وأمريكا . وقد بنى دينه على إلحاد وفساد ، فضلا عن قصوره في فهم المجتمعات الإنسانية ، وجهل بحقيقة الأديان ونخص السماوية منها .

ولنا - إن شاء الله - وقفات قادمة مع بيان فلسفة ومنهج هذا الغثاء العلمي الذي جاء به ، ليدرك أبناء الإسلام حقيقة وأسس (علم الاجتماع ) ويدركون فساد بعض تلك النظريات والتطبيقات العملية التي يعكف عليها الدارسون في كليات الاجتماع سنوات ، وهم يظنون أنهم ينهلون علما نافعا أو يكشفون ظواهر خافية ، وما أساسها إلا خليط من اضطراب عقلي ، توافق مع ظروف وأحداث الزمان والمكان اللذين عاش فيهما هذا المضطرب ومن جاء من بعده من تلاميذه .
[/JUSTIFY]


الهامش :

1- ( الكنيسة ) تحمل دينا محرفا ، بدأ بتحريفه اليهودي ( شاول = بولس) الذي حمل فكرة تأليه ( عيسى ) والتي اعتمدها فيما بعد الإمبراطور الروماني الوثني ( قنسطنطين )
2- ( كواشف زيوف ص 405، عبد الرحمن الميداني )
3- سان سيمون : من رواد المذهب الاشتراكي في فرنسا اهتم بالتقدم والصناعة
4- ( مذاهب فكرية معاصرة ، عرض ونقد ، محمود مزروعة ص 231) .
5- ( كواشف زيوف 410) .