تنبيه مهم:
غاية ما قررته في المشاركة الآنفة - وحتى لا يساء فهمه - أن السمع والبصر صفات ذات - من جهة بقاء القدرة عليها من قبل الخلق وأزلية ملازمتها لذات الله تعالى - وصفات أفعال من جهة حدوث آحاد أفعال النظر والسمع وارتباط تلك الأفعال بوجود المسموع والمنظور، فإن لم يوجد ما يُسمع وما يُنظر فلا توجد أفعال السمع والبصر. وهذا ما قرره شيخ الإسلام فيما تقدم نقله عنه، رحمه الله.
أما أن يقال إنه قد يوجد شيء من المخلوقات يشاء الرب ألا يبصره أو ألا يسمعه، فلا نقول به إذ لا نجد دليلا عليه (وإن كان قد نسبه شيخ الإسلام إلى بعض السلف كما في النقل في أول الصفحة، وذكر الخلاف)، ولكني أردت تقرير معنى أنه إن ثبت فلا يلزم منه نقص في حق الله تعالى، إذ إحاطة علمه جل وعلا بخقله إحاطة مطلقة كاملة، وهي لا تقوم على مدخلات السمع والبصر والإدراك كما هو حال المخلوقين.
وأما التفريق اللغوي بين معنى النظر ومعنى الرؤية فصحيح، إذ الأولى أعم من الثانية، ويدخل فيها التفكر في المرئيات والمسموعات (في حق المخلوقين: يقال نظر في شيء أي قلبه في ذهنه) ويدخل فيها الكلأ والرحمة والمغفرة والمحاسبة وغير ذلك من معان أشمل، ولهذا فإن إيراد آية ((ولا ينظر إليهم)) في هذا المحل مصادرة على المطلوب، إذ لا تعلق لهذه الآية بصفة البصر أصلا، وليست من آيات الصفات! والذي يدعي أنها تعني "لا يبصرهم" هذا مخالف لما عليه سلف الأمة وخلفها في فهم الآية.
الذي قرره شيخ الإسلام رحمه الله فيما نُقل عنه = أن الله تعالى قد يخص بعض عباده بآحاد من أفعال السمع والبصر هي أخص وأفضل مما يكون من إحاطة سمعه وبصره لعامة المخلوقات، إذ فيها معنى زائد على مجرد الإدراك السمعي أو البصري. ففيما ثبت عن الرسول عليه السلام المفاضلة في صفة السمع بين ما يجعله الله تعالى للنبي الذي يتغنى بالقرءان، وما يجعله لغيره من الخلق، فهو سبحانه أسمع لهذا من غيره، كما يكون صاحب القينة أسمع لها من غيرها، ولا يلزم من ذلك نقص في حقه سبحانه (كالنقص الذي يكون في حق صاحب القينة من كونه لا يسمع سواها حال سماعها) إذ الله تعالى لا يشغله سمع عن سمع ولا بصر عن بصر، فليُتأمل.
ونظير هذا التفاضل في صفة السمع - بالمناسبة - التفاضل في صفة الكلام، فالله تعالى بعض كلامه في القرءان أفضل من بعض، ولا يلزم من مجرد التفاضل أن يكون المفضول ناقصا أو معيبا، سبحانه، تعالت صفاته كلها عن ذلك علوا كبيرا.
قول أخي ابن خويز
تطلق صفة البصر ويراد بها البصر العام، أي رؤية الله تعالى لخلقه ومراقبته لأعمالهم وأقوالهم ونياتهم، كما في قوله:
( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَايُمْسِكُهُنّ َ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) (الملك:19(
وقوله: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (سـورة البقـرة:110)
فلا يجوز أن يقال في هذا المعنى أن الله لا يرى صنفا من الناس أو جنسا من الأعمال، لأنه يستلزم كذب خبر الله، وسبحانه جل في علاه
هذه النصوص فيها تقرير صفة إبصار الله تعالى لجميع خلقه وإحاطته بهم في جميع أحوالهم، وهذا لم ينفه أحد ولا قال أحد بخلافه.
وتطلق صفة البصر ويراد بها بصر الرحمة والعفو أي بقيد الرحمة والعفو، كما في قوله
: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (آل عمران/77)
وهنا يصح يقال أن الله يرى أصنافا من الناس دون أصناف لتفاوت أعمالهم، فهي على هذا من الصفات الاختيارية والخلاف هنا أضعف.
هذا فيه نظر، إذ البصر والنظر لا يستويان كما تقدم. ونحن لم نقل إن من مخلوقات الله ما قضى سبحانه ألا يبصره أو لا يراه، ولكن منها ما قضى ألا ينظر إليه، وينبغي التنبه إلى الفرق بين المعنيين. وقولك - وفقك الله - يرى أصنافا ولا يرى أخرى = غلط!
قوله
فصفة نظره إلى المطيع صفة ذاتية
ليست كذلك، بل هي صفة فعل وهذا واضح، فهو يجعلها لمن يستحقها بإرادته سبحانه، وما كان متعلقا بالإرادة فليس من صفات الذات!
قوله وفقه الله
كونه تعالى قادر على أن ينظر إلى المطيع نظر الرحمة وقادر على أن لا ينظر أكمل من كونه غير قادر إلا على أن ينظر إلى المطيع نظر الرحمة، وإنما يصح هذا على مذهب من يرى أن فعل الأحسن غير واجب على الله وهو مذهب الأشاعرة، وهذ المعنى لا يجوز ذكره في المعنى الأول لأن الأكمل إحاطة الله بجميع خلقه بصرا وما سوى ذلك فهو نقص، وقد يقال هذا في المعنى الثاني أيضا على مذهب من يرى أن فعل الأحسن واجب على الله
هذا فيه التباس كبير. فالنظر بنظر الرحمة لمن كتب الله لهم الرحمة ليس بواجب على الله عند أهل السنة، وهو فعل من أفعاله يجعله سبحانه تفضلا على من يشاء من عباده، وليس تخلفه عن أعيان من الخلق بل ليس تخلفه عن سائر البشر بما يلزم منه النقص في صفات الله جل وعلا.. نسأل الله أن نكون من أهل نظره سبحانه. أما خروجك من هذا المعنى ودخولك في لزوم إبصار الله تعالى لجميع خلقه في كل الأوقات ولزوم النقص من عدم ذلك فقد تقدم الرد على هذا بما نقله الشيخ عدنان من كلام شيخ الإسلام، وبما زدته عليه من تعقيب.
قوله وفقه الله:
وتطلق صفة البصر ويراد بها بصر المحاسبة والمجازاة ومنه قوله عليه الصلاة والسلام:
( إن الله تبارك وتعالى لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وإلى أعمالكم) رواه أحمد ومسلم وابن ماجه عن أبي هريرة.
هذا خلط آخر إذ هذا الحديث كآية آل عمران = ليس من نصوص الصفات! فلا يقال يطلق "البصر" ويراد به بصر المحاسبة! هذا ليس من معاني البصر في اللغة أصلا! أما النظر فصحيح.والله أعلى وأعلم