متى نصر الله ؟
بسم الله الرحمن الرحيم
لا ريب أن من أعز مقاصد المؤمنين و أشهى مطالبهم وغاية نفوسهم : رؤية دينهم ظاهرا مهيمنا وعلو راية التوحيد خفاقة مع قهر أهل الكفر والطغيان وإذلالهم . إن هذا الهدف الأعظم وتلك الأمنية السامية لا تتحقق عن طريق الدعاوى والأماني بل عن طريق البحث والتنقيب عن سنن الله في النصر تلك السنة الربانية التي قدرها الله عز وجل لنصر حزبه الموحدين وخذلان حزب الشيطان اللعين .
لا بد لمن يريد نصرة دين الله عز وجل والتمكين له في الأرض أن يتعرف على سنن الله في نصرة دينه ، وبدون هذه المعرفة لن يتم الاهتداء إلى الطريق ، وبالتالي ستضيع الأوقات والجهود ولما يأت نصر الله .
وأولى هذه السنن في قوله تعالى : (( وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ )) الروم (47) .
إن نصر الله عز وجل لدينه ولعباده المؤمنين آت لا محالة وإن التمكين للإسلام في الأرض سيتم بعز عزيز أو بذل ذليل ، هذا وعد الله سبحانه والله لا يخلف الميعاد ، يقول سبحانه : ((إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)) غافر : (51) .
ويقول سبحانه :
((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَن َّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنّ َ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنّ َهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ )) النور : (55)
وقال سبحانه :
((كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)) المجادلة : (21)
وقال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها ، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها ) . رواه مسلم .
وقال : ( ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل ، عزا يعز الله به الإسلام وذلا يذل به الكفر )) رواه أحمد والحديث صحيح .
إن سنة نصر المؤمنين سنة ماضية في الخلق في قديم الدهر وحديثه . لقد أهلك الله عز وجل قوم نوح ، وعادا ، وثمود ، وأصحاب الرس ، وقوم لوط ، وأهل مدين ، وأشباههم وأضرابهم ممن كذب الرسل وخالف الحق ، وأنجى الله تعالى من بينهم المؤمنين ، ونصر الله محمدا صلى الله عليه وسلم و أصحابه على من خالفهم فجعل كلمته هي العليا ودينه هو الظاهر على سائر الأديان ، وأمره بالهجرة من بين ظهراني قومه إلى المدينة وجعل له فيها أنصارا وأعوانا ، ثم منحه أكتاف المشركين يوم بدر فنصره عليهم وخذلهم ، وقتل صناديدهم ، وأسر سراتهم فاستاقهم مقرنين في الأصفاد ، ثم من عليهم بأخذ الفداء منهم ، ثم بعد مدة قريبة فتح عليهم مكة ، فقرت عينه ببلده ، فأنقذ الله هذا البلد الحرام مما كان فيه من الكفر والشرك ، وفتح اليمن ، وأتت له جزيرة العرب بكاملها ، ودخل الناس في دين الله أفواجا ، ثم قبضه الله إليه ، فأقام الله تبارك وتعالى أصحابه خلفاء بعده ، فبلغوا عنه دين الله عز وجل ، ودعوا عباد الله إلى الله جل وعلا ، وفتحوا البلاد والمدن والقرى والقلوب حتى انتشر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها ، ثم لا يزال هذا الدين قائما منصورا ظاهرا إلى قيام الساعة .
وهكذا الإيمان إذا وقر في قلوب أصحابه صنع المعجزات وجاء بالخوارق ، وظهر أتباعه وساد محققيه . واليوم الناظر إلى المسلمين يجدهم كقطع الغنم التي فرت من الأسد في كل اتجاه تريد السلامة و النحاة ، وأنى لها ذلك وقد فرت من دينها قبل فرارها من عدوها . انحطاط وذل وهوان على الناس ، كثير ولكنا في أعين عدونا قليل ، لدينا أسباب العزة والقوة ولكننا كمقطوع اليدين والسلاح أمامه .
فلماذا كل هذا ؟ هل هو بسبب الإسلام الذي ندين به أم أننا جنينا جرما فنرى عواقبه بتسليط أعداءنا علينا ؟ .
لاشك أن الإسلام هو سبب العزة و التاريخ شاهد .
ولكننا غيرنا وبدلنا وتركنا ديننا وأخلدنا إلى الدنيا وأصابنا الخور والوهن .
وهذا الحال سيتمر حتى نعود إلى ديننا .
قال صلى الله عليه وسلم : (( إذا تبايعتم بالعينة واخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد ، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم )) . وهذا هو مدار السنة الثانية وهي قوله تعالى :
(( إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ )) الرعد : (11)
وهذا يعني أنه متى تأخر نصر الله عز وجل مع الحاجة الماسة إليه فإن هناك أسبابا في تأخره ولا شك ، ومن أهم هذه الأسباب :
أن الذين يبحثون عن نصر الله لم يغيروا ما بأنفسهم بعد . وحينئذ يجب أن تتوجه الجهود إلى العمل الجاد في التغيير الذي يبدأ من داخل النفس ومن داخل الصف المسلم حتى يغير الله عز وجل ما بنا وتتهيأ الأسباب الجالبة لنصر الله تعالى .
يقول ابن كثير :
قوله عز وجل : (( ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )) . يخبر تعالى عن تمام عدله وقسطه في حكمه بأنه تعالى لا يغير نعمة أنعمها على أحد إلا بسبب ذنب ارتكبه لقوله تعالى : ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) أ . هـ
إن الله عز وجل لا يغير حال الأمة من القوة والعزة إلى حال الذل والضعف والهوان إلا إذا غيروا وبدلوا وساروا على غير نهج محمد وأصحابه . والعكس صحيح .
إن هذه السنة الربانية ذات دلالتين في حالنا وواقعنا المعاصر : أولاهما :
أن التباين الشديد والهوة السحيقة بين الحياة الذليلة المهينة و الضعف والانحسار وفقدان الثقة بالذات ، والهزيمة النفسية التي حلت في جذر قلب الأمة اليوم ، إن الفرق بين حياتنا هذه وبين الحياة العزيزة المهيمنة المستعلية والقوية المالكة لزمام العالم أجمع ، تلك الحياة التي كانت تتبع ولا تتبع وتقود ولا تقاد كانت أبرز سمات عصر سلفنا الصالح ، إن كل هذا التباين الشديد بيننا وبين سلف الأمة خير شاهد ودليل على أننا غيرنا ما بأنفسنا من إيمان وانقياد لله فغير الله حالنا إلى ضعف وهوان وانقياد لغيره من حقراء بنى آدم .
ثانيهما : أن حالنا اليوم لن يغيره الله حتى نغير ما بأنفسنا من كثرة البدع والشرك بشتى صوره – الجلية والخفية – الظاهرة والباطن ومحو آثار المعاصي والفجور التي لبست ثوب المباح والتقدم والرقي ، وخلعت لباس التقوى والعزة والكرامة . والله عز وجل يحرض المؤمنين على التجرد له والاتجاه إلى نصرة دينه ، ويعدهم على هذا النصر والتثبيت : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) محمد : (8) .
إنه متى استقرت حقيقة الإيمان في نفوس المؤمنين وتمثلت في واقع حياتهم منهجا للحياة وتجردا لله في كل خاطرة وعبادة لله في الصغيرة والكبيرة ، فلن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا .
إن الأصل في هذه الأمة أنها تعلوا ولا يعلى عليها وأنها هي التي تقود فإذا حصل خلاف ذلك فليعلم أن هناك ثغرة قد أحدثها المؤمنين قد تكون سببا في تغيير حال العز والقوة إلى عكسه و لنتأمل التاريخ :
ففي أحد مثلا كانت الثغرة في ترك طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وفي الطمع في الغنيمة .
وفي حنين كانت الثغرة في الاعتزاز بالكثرة والإعجاب بها ونسيان السند الأصلي . وبالجمع بين السنة الأولى والثانية تظهر معالم سنة ثالثة ، وذلك لو أن الناس لم يحققوا الإيمان ولم يغيروا ما بأنفسهم ، فهل معنى هذا أن نصر الله عز وجل لن يأتي ؟
الجواب كلا : فلابد من أن يأتي نصر الله عز وجل ، كما تقرر ذلك في السنة الأولى ولكن يقف في سبيل ذلك عدم الأخذ بالسنة الثانية في التغيير . وفي هذه الحالة تأتي سنة الله عز وجل الثالثة والمتضمنة تبديل من رفضوا تغيير ما بأنفسهم وواقعهم بجيل آخر يمتاز بصفات فيحققون أسباب النصر فينزل الله عليهم نصرة .
وتتجلى هذه السنة في قوله تعالى : ( وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ) محمد : (38) .
وقال سبحانه : (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) التوبة : (39) .
وقال : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) المائدة : (54).
قال ابن كثير : ( يقول سبحانه مخبرا عن قدرته العظيمة أنه من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته ، فإنه يستبدل من هو خير لها منه وأشد منعة وأقوم سبيلا ) أ . هـ
إن نصر الله آت وهو يبدأ من تغيير الناس ما بأنفسهم أولا حتى يغير الله عز وجل ما بأرضهم ويمكن لهم دينهم ، وإنهم إن لم يغيروا ما بأنفسهم فإن هذا لا يعني عدم مجئ نصر الله ، وإنما يستبدل قوما آخرين يحققون أسباب النصر والتغيير ويشرفهم سبحانه بأن ينزل عليهم نصره المبين ، ويدفع بهم العقاب ، ويعذب الكافرين بأيديهم .